وقد اختلف الناس اختلافاً كثيراً في سبب إيقاع الرشيد بالبرامكة . وسئل سعيد بن سالم عن ذلك فقال : والله ما كان منهم ما ويجب بعض عمل الرشيد بهم ولكن طالت أيامهم وكل طويل مملول والله لقد استطال الناس الذين هم خيار الناس أيام عمر بن الخطاب Bه وما رأوا مثلها عدلاً وأمناً وسعة أموال وفتوح وأيام عثمان Bه حتى قتلوهما . ورأى الرشيد مع ذلك أنس النعمة بهم وكثرة حمد الناس لهم ورميهم بأموالهم دونه والملوك تنافس بأقل من هذا فتعنَّت عليهم وتجنَّى وطلب مساوئهم ووقع منهم بعض الإدلال خاصة جعفر والفضل دون يحيى فإنه كان أحكم خبرةً وأكثر ممارسةً للأمور ولاذ من أعدائهم بالرشيد كالفضل بين الربيع . فستروا المحاسن وأظهروا القبائح حتى كان ما كان .
وقال والواقدي : نزل الرشيد العمر بناحية الأنبار سنة سبع وثمانين ومئة منرفاً من مكة وغضب على البرامكة وقتل جعفراً في أول يوم من صفر وصلبه على الجسر ببغداد وجعل رأسه على الجسر وفي الجانب الآخر جسده . انتهى . وقال غيره دعا الرشيد ياسراً غلامه وقال : قد انتخبتك لأمر لم أر له محمداً ألاً ولا عبد الله ولا القاسم فحقّق ظني واحذر أن تخالف فتهلك فقال : لو أمرتني بقتل نفسي لفعلت فقال : اذهب إلى جعفر بن يحيى وجئني برأسه الساعة فوجم لا يحير جواباً فقال : مالك ويلك ؟ فقال : الأمر عظيم وددت أنني متُّ قبل وقتي هذا فقال له : أمض لأمري فمضي حتى دخل على جعفر وأبو زكّار بغنيه : من الوافر .
فلا تبعد فكل فتى سيأتي ... عليه الموت يطرق أو يغادي .
وكل ذخيرةٍ لا بد يوماً ... وإن بقيت تصير إلى نفاد .
ولو فوديت من حدث الليالي ... فديتك بالطرَّيف وبالتلاد .
فقال له : يا ياسر سررتني بإقبالك وسؤتني بدخولك من غير إذن قال الأمر أكبر من ذلك قد أمرني أمير المؤمنين بكذا كذا فأقبل جعفر يقبل قدمي ياسر . وقال : دعني أدخل أوصي قال : لا سبيل إليه أوص بما شيئت قال : لي عليك حق ولا تقدر على مكافأتي إلاّ في هذه الساعة فقال تجدني سريعاً إلاّ فيما يخالف أمر أمير المؤمنين قال : فارجع فأعلمه بقتلي فإن ندم كانت حياتي على يدك وإلاّ أنفذت أمره فيَّ قال : لا أقدر . قال : فأسير معك إلى مضربه وأسمع كلامه ومراجعتك فإن أصرَّ فعلت قال : أمّا هذا فنعم وسارا إلى مضرب الرشيد فلما سمع حسِّه قال له : ما وراءك ؟ فذكر له قول جعفر قال : يا ماصّ بظر أمّه والله لئن راجعتني لأقدّمنك قبله فرجع وقتله وجاءه برأسه فلما وضعه بين يديه أقبل عليه مليّاً وقال : يا ياسر جئني بفلان وفلان فلما أتاه بهما قال لهما : اضربا عنق ياسر فلا أقدر أرى قاتل جعفر . ذكر ذلك ابن بدرون في شرح قصيدة ابن عبدون وأكثر الشعراء في مراثيهم الأقوال فمن ذلك قول الرِّقاشي : من الوافر .
هذا الخالون من شجوي فناموا ... وعيني لا يلائمها منام .
وما سهرت لأني مستهامٌ ... إذا أرق المحبُّ المستهام .
ولكنّ الوادث أرّقتني ... فلي سهرٌ إذا هجد النيِّام .
أصبت بسادةٍ كانوا نجوماً ... بهم نسقى إذا انقطع الغمام .
منها : .
على المعروف والدنيا جميعاً ... لدولة آل برمكٍ السَّلام .
فلم أر قبل قتلك يا بن يحيى ... حساماً فلَّه السيف الحسام .
أما والله لو لا خوف واشٍ ... وعينٌ للخليفة لا تنام .
لطفنا حول جذعك واستلمنا ... كما للناس بالحجر استلام .
وقال يرثيه وأخاه الفضل : من الطويل .
ألا إن سيفاً برمكياً مهنداً ... أصيب بسيفٍ هاشميّ مهند .
فقل للمطايا بعد فضلٍ تعطّلي ... وقل للرّزايا كل يوم تجدَّدي .
قال دعبل الخزاعيّ : من الطويل .
ولما رأيت السيف جلّل جعفراً ... ونادى منادٍ للخليفة في يحيى .
بكيت على الدنيا وأيقنت أنه ... قصارى الفتى منها مفارقة الدنيا .
وقال صالح بن طريق : من الرمل .
يا بني برمك واهاً لكم ... ولأيامكم المقتبله .
كانت الدنيا عروساً بكم ... وهي اليوم ثكولٌ أرمله