قال Bه رجل دفع مالا إلى رجل ليحج به عن الميت فلم يبلغ مال الميت النفقة فأنفق المدفوع إليه من ماله ومال الميت فإن كان أكثر النفقة من مال الميت وكان ماله بحيث يبلغ ذلك أو عامة النفقة فهو جائز وإلا فهو ضامن يرده ويحج من حيث يبلغ لأن المعتبر في الحج عن الغير الإنفاق من ماله في الطريق والأكثر له حكم الكل والتحرز عن القليل غير ممكن فقد يضيفه إنسان يوما فلا ينفق من مال الميت وقد يستصحب مع نفسه زادا أو ثوبا من مال نفسه وقد يشرب الماء فيعطي السقاء شيئا من عند نفسه وما لا يمكن التحرز عنه يجعل عفوا فاعتبرنا الأكثر وقلنا إذا كان أكثر النفقة من مال الميت فكأن الكل من مال الميت وإن كان أكثر النفقة من مال نفسه كان جميع نفقته من مال نفسه فيكون الحج عنه ويضمن ما أنفق من مال الميت لأنه مخالف لأمره فإنه أمر بأن ينفق في سفر الحج بذلك السفر عن الميت لا عن نفسه وهذه المسألة تدل على أن الصحيح من المذهب فيمن حج عن غيره أن أصل الحج يكون عن المحجوج عنه وأن إنفاق الحاج من مال المحجوج عنه كإنفاق المحجوج عنه من مال نفسه أن لو قدر على الخروج بنفسه وبنحوه جاءت السنة " فإن النبي - A - قال لسائله : حجي عن أبيك واعتمري " و " قال رجل يا رسول الله إن أبي مات ولم يحج أفيجزئني أن أحج عنه فقال A : نعم " و " حديث " الخثعمية " مشهور حيث قالت : يا رسول الله إن فريضة الحج أدركت أبي شيخا كبيرا لا يستطيع أن يستسمك على الراحلة أفيجزئني أن أحج عنه فقال صلوات الله تعالى عليه أرأيت لو كان على أبيك دين فقضيته أكان يقبل منك قالت نعم فقال A الله أحق أن يقبل " . فدل أن أصل الحج يقع عن المحجوج عنه وروي عن ا ا " محمد " C تعالى أنه قال : للمحجوج عنه ثواب النفقة فأما الحج يكون عن الحاج وهذا لأن الحج عبادة بدنية والعبادات البدنية لا تجري النيابة في أدائها لأن الواجب عليه إنفاق المال في الطريق وأداء الحج فإذا عجز عن أداء الحج بقي عليه مقدار ما يقدر عليه وهو إنفاق المال في الطريق فلزمه دفع المال لينفقه الحاج في طريق الحج ولكن الأول أصح فإن فرض الحج لا يسقط بهذا عن الحاج وكذلك في هذه المسألة إذا كان أكثر نفقته من مال نفسه حتى صار حجه عن نفسه كان ضامنا لما أنفق من مال الميت ولو كان للميت ثواب النفقة فقط لا يصير ضامنا لأن ذلك قد حصل للميت فلما قال يضمن ويحج به عن الميت من حيث يبلغ عرفنا أن الحج عن الميت .
قال وإن أنفق المدفوع إليه من مال نفسه وفي مال الميت وفاء بحجه رجع به في مال الميت إذا كان قد دفع إليه وجاز الحج عن الميت لأنه قد يبتلى بالإنفاق من مال نفسه في طريق الحج بأن لا يكون مال الميت حاضرا أو يتعذر عليه إظهاره ولا فرق في حق الميت بين أن ينفق من ماله وبين أن ينفق من مال نفسه فيرجع به في مال الميت كالوصي والوكيل ويشتري لليتيم ويعطي الثمن من مال نفسه يرجع به في مال اليتيم .
قال فإن نوى الحاج عن الغير أن يقيم " بمكة " بعد النفر خمسة عشر يوما بطلت نفقته من مال الميت لأن بهذه النية صار مقيما " بمكة " وتوطنه " بمكة " لحاجة نفسه لا لحاجة الميت فلا يستحق فيه النفقة في مال الميت وإنما استحقاقه النفقة في مال الميت في سفره ذاهبا وجائيا لأنه في ذلك عامل للميت وإن كان أقام دون خمسة عشر يوما فهو مسافر على حاله فنفقته في مال الميت وقد كان بعض المتقدمين من مشايخنا رحمهم الله تعالى يقول إن أقام بعد النفر ثلاثا فنفقته في مال الميت لأنه محتاج إلى هذا القدر من المقام للاستراحة وإن أقام أكثر من ذلك فنفقته في مال نفسه ولكن هذا الجواب كان في زمانهم لأنه كان يقدر أن يخرج من " مكة " متى شاء فأما في زماننا لا يقدر على الخروج إلا مع الناس فإن كان مقامه " بمكة " لانتظار خروج قافلته فنفقته في مال الميت سواء أقام خمسة عشر يوما أو أقل أو أكثر لأنه لا يقدر على الخروج إلا معهم فلم يكن هو متوطنا " بمكة " لحاجة نفسه وإن أقام بعد خروج قافلته فحينئذ ينفق من مال نفسه فإن بدا له بعد المقام أن يرجع فنفقته في مال الميت لأنه كان استحق نفقة الرجوع في مال الميت وإنما كان ينفق من مال نفسه لتأخير الرجوع فإذا أخذ في الرجوع عادت نفقة الرجوع في مال الميت وهو نظير الناشزة إذا عادت إلى بيت زوجها تستحق النفقة وكذلك المضارب إذا أقام في بلدته أو في بلدة أخرى ونوى الإقامة خمسة عشر يوما لحاجة نفسه لم ينفق من مال المضاربة فإن خرج مسافرا بعد ذلك كانت النفقة في مال المضاربة وقد روي عن " أبي يوسف " - C تعالى - أنه قال : لا تعود نفقته في مال الميت هنا لأن القياس أن لا يستوجب نفقة الرجوع في مال الميت لأنه في حق الرجوع عامل لنفسه لا للميت ولكنا تركنا ذلك وقلنا أصل سفره كان لعمل الميت فما بقي ذلك السفر تبقى نفقته في مال الميت وبالوصول لم يبق ذلك السفر ثم هو أنشأ سفرا بعد ذلك لحاجة نفسه وهو الرجوع إلى وطنه فلا يستوجب لهذا السفر النفقة في مال الميت ولم يذكر في الكتاب أنه إذا وصل إلى " مكة " قبل وقت الحج بزمان كيف يكون حاله في الانفاق ؟ وقد ذكر في النوادر عن " أبي يوسف " و ا ا " محمد " - رحمهما الله تعالى - أنه إذا قدم في الأيام العشر فنفقته في مال الميت وإن قدم قبل ذلك أنفق من مال نفسه إلى أن تدخل أيام العشر ثم نفقته في مال الميت بعد ذلك لأن العادة أن قدوم قوافل " مكة " يتقدم ويتأخر ولكنه في الأيام العشر موافق لما هو العادة فأما قدومه قبل أيام العشر مخالف لما هو العادة وهو في هذه الإقامة ليس يعمل للميت شيئا فلهذا كانت نفقته في مال نفسه .
قال فإن أوصى أن يحج عنه بألف درهم فبلغت حججا فالوصي بالخيار إن شاء دفع كل سنة حجة وإن شاء أحج عنه رجالا في سنة واحدة وهو أفضل لأن الوصية بالحج بمال مقدر بمنزلة الوصية بالتصدق بمال مقدر وفي ذلك الوصي بالخيار بين التقديم والتأخير والتعجيل أفضل لأنه أقرب إلى تحصيل مقصود الموصي وأبعد عن فوات مقصوده بهلاك المال .
قال وإذا حج العبد بإذن مولاه فإن ذلك لا يجزئه عن حجة الإسلام " لقوله A : أيما عبد حج ولو عشر حجج فعليه حجة الإسلام إذا عتق وأيما صبي حج ولو عشر حجج فعليه حجة الإسلام إذا بلغ وأيما أعرابي حج ولو عشر حجج فعليه حجة الإسلام إذا هاجر " وإنما قال هذا حين كانت الهجرة فريضة وكان المعنى فيه أن العتق من شرائط وجوب الحج ولا يتحقق الوجوب بدون شرطه فيكون المؤدى قبل وجود الشرط نفلا فلا ينوب عن الفرض وهذا بخلاف الفقير إذا حج ثم استغنى حيث جاز ما أدى عن الفرض لأن ملك المال ليس بشرط للوجوب إنما شرط الوجوب التمكن من الوصول إلى موضع الأداء ألا ترى أن المكي الذي هو في موضع الأداء لا يعتبر في حقه ملك المال وفي حق الآفاقي لا يتقدر المال بالنصاب بل يختلف ذلك باختلاف قربه من موضع الأداء وبعده فعرفنا أن الشرط هو التمكن من الوصول إلى موضع الأداء فبأي طريق وصل الفقير إلى ذلك الموضع وجب الأداء فإنما حصل أداؤه بعد الوجوب فكان فرضا فأما العتق من شرائط الوجوب فإن العبد الذي هو " بمكة " لا يلزمه الحج فالمؤدى قبل العتق لا يكون فرضا توضيحه أنه إنما أدى الحج بمنافعه ومنافع الفقير حقه فإذا أداه بما هو حقه كان فرضا فأما منافع العبد لمولاه وبإذن مولاه لا تخرج المنفعة من ملكه فإنما أداه بما هو ملك الغير وملك الغير لا يسقط ما هو فرض العمر عنه وهذا بخلاف الجمعة إذا أداها بإذن المولى لأن الجمعة تؤدى في وقت الظهر ومنافعه لأداء الظهر صارت مستثناة عن حق المولى فإنما أداه بمنافع مملوكة له فهذا جائز عنه بخلاف ما نحن فيه فإن هذا غير مستثنى من حق المولى فلا تتأدى به حجة الإسلام .
قال فإن أصاب صيدا فعليه الصيام لأنه صار جانيا على إحرامه بقتل الصيد وهو ليس من أهل التكفير بإراقة الدم ولا بالإطعام فيكفر بالصوم كما إذا حنث في يمينه كان عليه أن يكفر بالصوم .
قال وإن جامع مضى فيه حتى يفرغ منه لأن حجه وإن فسد لكن عليه المضي في الفاسد وإن إحرامه كان لازما فلا يخرج عنه إلا بأداء أفعال الحج فاسدا كان أو صحيحا وعليه الهدي إذا عتق لتعجيل الإحلال بالجماع وهذا الدم لا يقوم الصوم مقامه والأصل في كل دم لا يقوم الصوم مقامه يتأخر عن العبد حتى يعتق وكل ما يقوم الصوم مقامه فعليه أن يؤديه بالصوم وعليه حجة مكان هذه ينوي حجة الإسلام لأنه أفسدها بعدما صح شروعه فيها فعليه قضاؤها وإن لم يجامع ولكنه فاته الحج يحل بالطواف والسعي والحلق لأنه بعد صحة شروعه في الإحرام يتحلل بما يتحلل به الحر والحر إنما يتحلل بعد فوات الحج بأعمال العمرة فكذلك العبد وعليه أن يحج حجة إذا عتق سوى حجة الإسلام لفوات ما شرع فيه وإن أطعم عنه مولاه أو ذبح عنه من الدماء ما يلزمه لا يجزئه لأنه لم يصر مالك ا للطعام الذي يؤدى في الكفارة ولا لما يراق دمه فإن الرق ينافي الملك وبدون الملك فيما كفر به لا تسقط عنه الكفارة إلا في الإحصار خاصة فإن على مولاه أن يبعث بهدي عنه حتى يحل لأنه هو الذي أدخله في هذه العهدة بإذنه بالإحرام فإنه لو أحرم بغير إذنه كان له أن يحلله بغير هدي فإذا أحرم بإذنه كان المولى هو المكتسب لسبب وجوب هذا الدم فعليه أن يحلله ولا يبعد أن يجب على المولى حق بسبب عبده كما يجب عليه صدقة الفطر عن عبده ثم على العبد إذا عتق حجة وعمرة كما هو الحكم في المحصر إذا كان حرا ويتحلل بالهدي العبد إذا تحلل به .
قال وإذا أراد الرجل أن يحج رجلا عن نفسه فأحب إلي أن يحج رجلا قد حج عن نفسه لأنه أبعد عن اختلاف العلماء - رحمهم الله تعالى - ولأنه أهدى في إقامة أعمال الحج لصيرورتها معهودة عنده .
فإن أحج صرورة عن نفسه يجوز عندنا .
وعلى قول " الشافعي " C تعالى لا يجوز ويكون حج الصرورة عن نفسه لا عن الآمر وحجته ما " روي عن النبي A أنه رأى رجلا يلبي عن شبرمة فقال E : من شبرمة ؟ فقال أخ لي أو صديق لي فقال E : حج عن نفسك ثم عن شبرمة " .
وحجتنا في ذلك " حديث " الخثعمية " أن رسول الله - A - جوز لها أن تحج عن أبيها ولم يستفسر أنها حجت عن نفسها أو لا " وفي الحديث الأخير تعارض فقد " روي أنه سمع رجلا يلبي عن نبيشة فقال : من نبيشة ؟ فقال : صديق لي فقال : إذا حججت عن نبيشة فحج عن نفسك " وتأويل الحديث الأخير أن ذلك الرجل لم يحرم بعد ولكن على سبيل التعليم للكيفية في التلبية عن الغير فأشار E بأن يبدأ بالحج عن نفسه وبه نقول إن الأفضل أن يحج عن نفسه أولا والاختلاف في هذا نظير الاختلاف في الضرورة إذا حج بنية النفل عندنا حجة يكون نفلا وعند " الشافعي " C تعالى يكون عن حجة الإسلام وحجته في ذلك أن نية النفل لغو لأنه عبارة عن الزيادة ولا يتصور ذلك قبل الأصل وإذا لغت نية النفل يبقى مطلق نية الحج وبمطلق النية يتأدى الفرض يدل عليه أن نية النفل نوع سفه قبل أداء حجة الإسلام والسفيه مستحق الحجر فجعل نية النفل لغوا تحقيقيا لمعنى الحجر فيبقى مطلق النية ويجوز أن تتأدى حجة الإسلام بغير نية كما في المغمى عليه إذا أحرم عنه أصحابه فبنية النفل أولى وحجتنا في ذلك أن وقت أداء الفرض في الحج يتسع لأداء النفل فلا يتأدى الفرض منه بنية النفل كالصلاة بخلاف الصوم عندنا ووقت أداء الصوم لا يتسع لأداء النفل وهذا لأن الحج عبادة معلومة بالأفعال لا بالوقت فكان الوقت ظرفا له لا معيارا وفي مثله لا يتميز الفرض من النفل إلا بالتعيين وقوله يتأدى بمطلق النية قلنا عندنا لا يتأدى إلا بالتعيين غير أن التعيين يثبت بالنص تارة وبالدلالة أخرى وفي الحج التعيين حاصل بدلالة العرف فالظاهر أن الإنسان لا يتحمل المشقة العظيمة ثم يشتغل بأداء النفل مع بقاء الفرض عليه والتعيين بالعرف كالتعيين بالنص كمن اشترى بدراهم مطلقة ينصرف إلى نقد البلد بدلالة العرف وإنما يعتبر العرف إذا لم يوجد التصريح بخلافه فإذا صرح بنية النفل سقط اعتبار العرف فكان حجه عما نوى وما قال باطل على أصله في الصوم فإنه لا يلغي اعتبار نية النفل بل يجعله معتبرا في الإعراض عن الفرض والمغمى عليه آذن لأصحابه بطريق الدلالة في الإحرام عنه فينزل ذلك منزلة الإذن إفصاحا فإنما يتأدى له الحج بالنية وإن أراد أن يعين رجلا بماله للحج عن نفسه فالضرورة أولى بذلك ممن قد حج لأن الضرورة بماله يتوسل إلى أداء الفرض ومن قد حج مرة يتوسل إلى أداء النفل وكما أن درجة أداء الفرض أعلى كانت الإعانة عليه بالمال أولى .
( يتبع . . . )