ولك أن تجعل ( تنزيل من رب العالمين ) خبر مبتدأ محذوف جرى حذفه على النوع الذي سماه السكاكي بمتابعة الاستعمال في أمثاله وهو كثير في الكلام البليغ وتجعل الجملة استئنافا بيانيا لأن القرآن لما وصف بأنه ( قول رسول كريم ) ونفي عنه أن يكون قول شاعر أو قول كاهن ترقب السامع معرفة كنهه فبين بأنه منزل من رب العالمين على الرسول الكريم ليقوله للناس ويتلوه عليهم .
و ( تنزيل ) وصف بالمصدر للمبالغة .
والمعنى : إنه منزل من رب العالمين على الرسول الكريم .
وعبر عن الجلالة بوصف ( رب العالمين ) دون اسمه العلم للتنبيه على أنه رب المخاطبين ورب الشعراء والكهان الذين كانوا بمحل التعظيم والإعجاب عندهم نظير قول موسى لفرعون ( ربكم ورب آبائكم الأولين ) .
( ولو تقول علينا بعض الأقاويل [ 44 ] لأخذنا منه باليمين [ 45 ] ثم لقطعنا منه الوتين [ 46 ] فما منكم من أحد عنه حاجزين [ 47 ] ) هذه الجملة عطف على جملة ( لا أقسم بما تبصرون وما لا تبصرون ) فهي مشمولة لما أفادته الفاء من التفريع على ما اقتضاه تكذيبهم بالبعث من تكذيبهم القرآن ومن جاء به وقال : إنه وحي من الله تعالى .
فمفاد هذه الجملة استدلال ثان على أن القرآن منزل من عند الله تعالى على طريقة المذهب الكلامي بعد الاستدلال الأول المستند إلى القسم والمؤكدات على طريقة الاستدلال الخطابي .
وهو استدلال بما هو مقرر في الأذهان من أن الله واسع القدرة وأنه عليم فلا يقدر أحدا على أن يقول عنه كلاما لم يقله أي لو لم يكن القرآن منزل من عندنا ومحمد ادعى أنه منزل منا لما أقررناه على ذلك ولعجلنا بإهلاكه . فعدم هلاكه A دال على أنه لم يتقوله على الله فإن ( لو ) تقتضي انتفاء مضمون شرطها لانتفاء مضمون جوابها .
فحصل من هذا الكلام غرضان مهمان : أحدهما يعود إلى ما تقدم أي زيادة إبطال لمزاعم المشركين أن القرآن شعر أو كهانة إبطالا جامعا لإبطال النوعين أي ويوضح مخالفةالقرآن لهذين النوعين من الكلام إن الآتي به ينسبه إلأى وحي الله وما علمتم شاعرا ولا كاهنا يزعم أن كلامه من عند الله .
وثانيهما : إبطال زعم لهم لم يسبق التصريح بإبطاله وهو قول فريق منهم ( افترى ) أي نسبه إلى الله افتراء وتقوله على الله قال تعالى ( أم يقولون تقوله بل لا يؤمنون ) فبين لهم أنه لو افترى على الله لما أقره على ذلك .
ثم أن هذا الغرض يستتبع غرضا آخر وهو تيأسهم من أن يأتي بقرآن لا يخالف دينهم ولا يسفه أحلامهم وأصنامهم قال تعالى ( قال الذين لا يرجون لقاءنا ائت بقرآن غير هذا أو بدله ) وهذه الجملة معطوفة عطف اعتراض فلك أن تجعل الواو اعتراضية فإنه لا معنى للواو الاعتراضية إلا ذلك .
والتقول : نسبة قول لمن لم يقله وهو تفعل من القول صيغت هذه الصيغة الدالة على التكلف لأن الذي ينسب إلى غيره قولا لم يقله يتكلف ويختلق ذلك الكلام ولكونه في معنى كذب عدي ب ( على ) .
والمعنى : لو كذب علينا فأخبر أنا قلنا قولا لم نقله الخ .
A E و ( بعض ) اسم يدل على مقدار من نوع ما يضاف هو إليه وهو هنا منصوب على المفعول به ل ( تقول ) .
والأقاويل : جمع أقوال الذي هو جمع قول أي بعضا من جنس الأقوال التي هي كثيرة فلكثرتها جيء لها بجمع الجمع الدال على الكثرة أي ولو نسب إلينا قليلا من أقوال كثيرة صادقة يعني لو نسب إلينا شيئا قليلا من القرآن لم ننزله لأخذنا منه باليمين إلى آخره .
ومعنى ( لأخذنا منه باليمين ) لأخذناه بقوة أي دون إمهال فالباء للسببية .
واليمين : اليد اليمنى كني بها عن الاهتمام بالتمكن من المأخوذ لأن اليمين أقوى عملا من الشمال لكثرة استخدامها فنسبة التصرف إليها شهيرة .
وتقدم ذلك في مواضع منها قوله تعالى ( ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم ) في سورة البقرة وقوله ( وعن أيمانهم وعن شمائلهم ) في سورة الأعراف وقوله ( ولا تخطه بيمينك ) في سورة العنكبوت .
وقال أبو الغول الطغوي : .
فدت نفسي وما ملكت يميني ... فوارس صدقوا فيهم ظنوني والمعنى : لأخذناه أخذا عاجلا فقطعنا وتينه وفي هذا تهويل لصورة الأخذ فلذلك لم يقتصر على نحو : لأهلكناه