وإضافة ( قول ) إلى ( رسول ) لأنه الذي بلغه فهو قائله والإضافة لأدنى ملابسة وإلا فالقرآن جعله الله تعالى وأجراه على لسان النبي A كما صدر من جبريل بإيحائه بواسطته قال تعالى ( فإنما يسرناه بلسانك ) .
روى مقاتل أن سبب نزولها : أن أبا جهل قال : إن محمد شاعر وأن عقبة بن أبي معيط قال : هو كاهن فقال الله تعالى ( إنه لقول رسول كريم ) الآية .
ويجوز أن يراد ب ( رسول كريم ) جبريل عليه السلام كما أريد به في سورة التكوير إذ الظاهر أن المراد به هنالك جبريل كما يأتي .
وفي لفظ ( رسول ) إيذان بأن القول قول مرسله أي الله تعالى . وقد أكد هذا المعنى بقوله عقبه ( تنزيل من رب العالمين ) .
ووصف الرسول ب ( كريم ) لأنه الكريم في صنفه أي النفيس الأفضل مثل قوله ( أني ألقي إلي كتاب كريم ) في سورة النمل .
وقد أثبت للرسول A الفضل على غيره من الرسل بوصف ( كريم ) ونفي أن يكون شاعرا أو كاهنا بطريق الكناية عند قصد رد أقوالهم .
وعطف ( ولا بقول كاهن ) على جملة الخبر في قوله ( بقول شاعر ) و ( لا ) النافية تأكيد لنفي ( ما ) .
وكني بنفي أن يكون قول شاعر أو قول كاهن عن تنزيه النبي A عن أن يكون شاعرا أو كاهنا رد لقولهم : هو شاعر أو هو كاهن .
وإنما خص هذان بالذكر دون قولهم : إفتراه أو هو مجنون لأن الوصف بكريم كاف في نفي أن يكون مجنونا أو كاذبا إذ ليس المجنون ولا الكاذب بكريم فأما الشاعر والكاهن فقد كانا معدودين عندهم من أهل الشرف .
والمعنى : ما هو قول شاعر ولا قول كاهن تلقاه من أحدهما ونسبه إلى الله تعالى .
و ( قليلا ) في قوله ( قليلا ما تؤمنون ) ( قليلا ما تذكرون ) مراد به انتفاء ذلك من أصله على طريقة التمليح القريب من التهكم كقوله ( فلا يؤمنون إلا قليلا ) وهو أسلوب عربي قال ذو الرمة : .
أنيحت ألقت بلدة فوق بلدة ... قليل بها الأصوات إلا بغامها فإن استثناء بغام راحلته دال على أنه أراد من " قليل " عدم الأصوات .
المعنى : لا تؤمنون ولا تذكرون أي عندما تقولون هو شاعر وهو مجنون ولا نظر إلى إيمان من آمن منهم من بعد . وقد تقدم في سورة البقرة قوله ( فقليلا ما يؤمنون ) .
وانتصب ( قليلا ) في الموضعين على الصفة لمصدر محذوف يدل عليه ( تؤمنون ) و ( تذكرون ) أي تؤمنون إيمانا قليلا وتذكرون تذكرا قليلا .
و ( ما ) مزيدة للتأكيد كقول حاتم الطائي : .
قليلا به ما يحمدنك وارث ... إذا نال مما كنت تجمع مغنما وجملتا ( قليلا ما تؤمنون ) ( قليلا ما تذكرون ) معترضتان أي انتفى أن يكون قول شاعر وانتفى أن يكون قول كاهن وهذا الانتفاء لا يحصل إيمانكم ولا تذكركم لأنكم أهل عناد .
وقرأ الجمهور ( ما تؤمنون ) و ( ما تذكرون ) كليهما بالمثناة الفوقية وقرأهما ابن كثير وهشام عن ابن عامر " واختلف الرواة عن ابن ذكوان عن ابن عامر " ويعقوب بالياء التحتية على الالتفات من الخطاب إلى الغيبة وحسن ذلك كونهما معترضتين .
A E وأوثر نفي الإيمان عنهم في جانب انتفاء أن يكون قول شاعر ونفي التذكر في جانب انتفاء أن يكون قول كاهن لأن نفي كون القرآن قول شاعر بديهي إذ ليس فيه ما يشبه الشعر من اتزان أجزاءه في المتحرك والساكن والتقفية المتماثلة في جميع أواخر الأجزاء فادعاؤهم أن قول شاعر بهتان متعمد ينادي على أنهم لا يرجى إيمانهم وأما انتفاء كون القرآن قول كاهن فمحتاج إلى أدنى تأمل إذ قد يشبه في بادئ الرأي على السامع من حيث إنه كلام منثور مؤلف على فواصل ويؤلف كلام الكهان على أسجاع مثناة متماثلة زوجين زوجين فإذا تأمل السامع فيه بأدنى تفكر في نظمه ومعانيه علم أنه ليس بقول كاهن فنظمه مخالف لنظم كلام الكهان إذ ليست فقراته قصيرة ولا فواصله مزدوجة ملتزم فيها السجع ومعانيه ليست من معاني الكهانة الرامية إلى الإخبار عما يحدث لبعض الناس من أحداث أو ما يلم بقوم من مصائب متوقعة ليحذروها فلذلك كان المخاطبون بالآية منتفيا عنهم التذكر والتدبر وإذا بطل هذا وذاك بطل مدعاهم فحق أنه تنزيل من رب العالمين كما ادعاه الرسول الكريم عليه الصلاة والتسليم .
وقوله ( تنزيل من رب العالمين ) خبر ثان عن اسم ( إن ) وهو تصريح بعد الكناية