وأما صيغة التفاعل فحملها جمهور المفسرين على حقيقتها من حصول الفعل من جانبين ففسروها أهل الجنة غبنوا أهل النار إذ أهل الجنة أخذوا الجنة وأهل جهنم أخذوا جهنم قاله مجاهد وقتادة والحسن . فحمل القرطبي وغيره كلام هؤلاء الأيمة على أن التغابن تمثيل لحال الفريقين بحال متبايعين أخذ أحدهما الثمن الوافي وأخذ الآخر الثمن المغبون يعني وقول عقبه ( ومن يؤمن بالله ويعمل صالحا نكفر عنه سيئاته ) إلى قوله ( وبئس المصير ) قرينة على المراد من الجانبين وعلى كلا المعنيين يكون قوله ( ومن يؤمن بالله ويعمل صالحا ) إلى قوله ( وبئس المصير ) تفصيلا للفريقين فيكون في الآية مجازا وتشبيه ونمثيل فالمجاز في مادة الغبن والتمثيل في صيغة التغابن وهو تشبيه مركب بمنزلة التشبيه البليغ إذ التقدير : ذلك يوم مثل التغابن .
وحمل قليل من المفسرين " وهو ما فسر كلام الراغب في مفرداته " وصرح ابن عطية صيغة التفاعل على معنى الكثرة وشدة الفعل " كما في قولنا عافاك الله وتبارك الله " فتكون استعارة أي خسارة للكافرين إذ هم مناط الإنذار .
وهذا في معنى قوله تعالى ( أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم ) في سورة البقرة وقوله ( يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم ) الآية في سورة الصف .
فصيغة التفاعل مستعملة مجازا في كثرة حصول الغبن للكثرة بفعل من يحصل من متعدد .
والكلام تهديد للمشركين بسوء حالتهم في يوم الجمع إذ المعنى : ذلك يوم غبنكم الكثير الشديد بقرينة قوله قبله ( فآمنوا بالله ورسوله والنور الذي أنزلنا ) . والغابن لهم هو الله تعالى .
ولولا قصد ذلك لما اقتصر على أن ذلك يوم تغابن فإن فيه ربحا عظيما للمؤمنين بالله ورسوله والقرآن فوزان هذا القصر وزان قوله ( فما ربحت تجارتهم ) وقول النبي A : إنما المفلس الذي يفلس يوم القيامة ) .
A E وأفاد تعريف جزأي جملة ( ذلك يوم التغابن ) قصر المسند إليه أي قصر جنس يوم التغابن على يوم الجمعة المشار إليه باسم الإشارة وهو من قبيل قصر الصفة على الموصوف قصرا ادعائيا أي ذلك يوم الغبن لا أيام أسواقكم ولا غيرها فإن عدم أهمية غبن الناس في الدنيا جعل غبن الدنيا كالعدم وجعل يوم القيامة منحصرا فيه جنس الغبن .
وأما لام التعريف في قوله ( التغابن ) فهي لام الجنس ومن هذا المعنى قوله تعالى ( قل إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ) . وقوله في ضده ( يرجون تجارة لن تبور ) . هذا هو المتعين في تفسير هذه الآية وأكثر المفسرين مر بها مرا . ولم يحتلب منها درا . وها أنا ذا كددت ثمادي فعسى أن يقع للناظر كوقع القراح من الصادي والله الهادي .
( ومن يؤمن بالله ويعمل صالحا نكفر عنه سيئاته وندخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم [ 9 ] ) والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار خالدين فيها وبئس المصير [ 10 ] ) معطوفة على جملة ( فآمنوا بالله ورسوله ) وهو تفصيل لما أجمل في قوله ( والله بما تعملون خبير ) الذي هو تذييل .
و ( من ) شرطية والفعل بعدها مستقبل أي من يؤمن من المشركين بعد هذه الموعظة نكفر عنه ما فرط من سيئاته .
والمراد بالسيئات : الكفر وما سبقه من الأعمال الفاسدة .
وتكفير السيئات : العفو عن المؤاخذة بها وهو مصدر كفر مبالغة في كفر . وغلب استعماله في العفو عما سلف من السيئات وأصله : استعارة الستر للإزالة مثل الغفران أيضا .
وانتصب ( صالحا ) على الصفة لمصدر وهو مفعول مطلق محذوف تقديره : عملا صالحا .
وقرأ نافع وابن عامر وأبو جعفر ( نكفر ) و ( ندخله ) بنون العظمة على الالتفات من الغيبة إلى التكلم لأن مقام إقبال فناسبه ضمير المتكلم .
وقرأهما الباقون بياء الغيبة على مقتضى الظاهر لأن ضمير الجلالة يؤذن بعناية الله بهذا الفريق .
وجملة ( ذلك الفوز العظيم ) تذييل .
وقوله ( والذين كفروا وكذبوا ) أي كفروا وكذبوا من قبل واستمروا على كفرهم وتكذيبهم فلم يستجيبوا لهذه الدعوة ثبت لهم أنهم أصحاب النار . ولذلك جيء في جانب الخبر عنهم بالجملة الاسمية الدالة على الثبات لعراقتهم في الكفر والتكذيب