وصيغ الكلام في قالب توجيه النهي عن الإلهاء عن الذكر إلى الأموال والأولاد والمراد نهي أصحابها وهو استعمال معروف وقرينته هنا قوله ( ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون ) . وأصله مجاز عقلي مبالغة في نهي أصحابها عن الاشتغال بسببها عن ذكر الله فنزل سبب الإلهاء منزلة اللاهي للملابسة بينهما وهو كثير في القرآن وغيره كقوله ( يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان ) وقولهم لا أعرفنك تفعل كذا .
و ( لا ) في قوله ( ولا أولادكم ) نافية عاطفة ( أولادكم ) على ( أموالكم ) والمعطوف عليه مدخول ( لا ) الناهية لأن النهي يتضمن النفي إذ هو طلب عدم الفعل ف ( لا ) الناهية أصلها ( لا ) النافية أشربت معنى النهي عند قصد النهي فجزمت الفعل حملا على مضادة معنى لام الأمر فأكد النهي عن الاشتغال بالأولاد بحرف النفي ليكون للاشتغال بالأولاد حظ مثل حظ الأموال .
و ( ذكر الله ) مستعمل في معنييه الحقيقي والمجازي . فيشمل الذكر باللسان كالصلاة وتلاوة القرآن والتذكر بالعقل كالتدبر في صفاته واستحضار امتثاله قال عمر بن الخطاب : " أفضل من ذكر الله باللسان ذكر الله عند أمره ونهيه " .
وفيه أن الاشتغال بالأموال والأولاد الذي لا يلهي عن ذكر الله ليس بمذموم وله مراتب .
وقوله ( ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون ) دليل على قول علماء أصول الفقه " النهي اقتضاء كف عن فعل " .
والإشارة ( بذلك ) إلى اللهو عن ذكر الله بسبب الأموال والأولاد أي ومن يله عن ذكر الله أي يترك ذكر الله الذي أوجبه مثل الصلاة في الوقت ويترك تذكر الله أي مراعاة أوامره ونواهيه .
ومتى كان اللهو عن ذكر الله بالاشتغال بغير الأموال وغير الأولاد كان أولى بحكم النهي والوعيد عليه .
وأفاد ضمير الفصل في قوله ( فأولئك هم الخاسرون ) قصر صفة الخاسر على الذين يفعلون الذي نهوا عنه وهو قصر ادعائي للمبالغة في اتصافهم بالخسران كأن خسران غيرهم لا يعد خسرانا بالنسبة إلى خسرانهم .
والإشارة إليهم ب ( أولئك ) للتنبيه على أنهم استحقوا ما بعد اسم الإشارة بسبب ما ذكر قبل اسم الإشارة أعني اللهو عن ذكر الله .
( وأنفقوا من ما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت فيقول رب لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق وأكن من الصالحين [ 10 ] ) هذا إبطال ونقض لكيد المنافقين حين قالوا ( لا تنفقوا على من عند رسول الله ) وهو يعم الإنفاق على الملتفين حول رسول الله A والإنفاق على غيرهم فكانت الجملة كالتذييل .
وفعل ( أنفقوا ) مستعمل في الطلب الشامل للواجب والمستحب فإن مدلول صيغة : افعل مطلق الطلب وهو القدر المشترك بين الوجوب والندب .
وفي قوله ( مما رزقناكم ) إشارة إلى أن الإنفاق المأمور به شكر الله على ما رزق المنفق فإن الشكر صرف العبد ما أنعم الله به عليه فيما خلق لأجله ويعرف ذلك من تلقاء الشريعة .
A E و ( من ) للتبعيض أي بعض ما رزقناكم وهذه توسعة من الله على عباده وهذا البعض منه هو معين المقدار مثل مقادير الزكاة وصدقة الفطر . ومنه ما يتعين بسد الخلة الواجب سدها مع طاقة المنفق كنفقات الحج والجهاد والرباط ونفقات العيال الواجبة ونفقات مصالح المسلمين الضرورية والحاجية ومنه ما يتعين بتعين سببه كالكفارات ومنه ما وكل للناس تعيينه مما ليس بواجب من الإنفاق ذلك موكول إلى رغبات الناس في نوال الثواب فإن ذلك باب عظيم من القربى من رضى الله تعالى وفي الحديث " الصدقة تطفئ الخطايا كما يطفئ الماء النار " .
وقد ذكر الله المؤمنين بما في الإنفاق من الخير بأن عليهم أن يكثروا منه ما داموا مقتدرين قبل الفوت أي قبل تعذر الإنفاق والإتيان بالأعمال الصالحة وذلك حين يحس المرء بحالة تؤذن بقرب الموت ويغلب على قواه فيسأل الله أن يؤخر موته ويشفيه ليأتي بكثير مما فرط فيه من الحسنات طمعا أن يستجاب له فإن كان في أجله تأخير فلعل الله أن يستجيب له فإن لم يكن في الأجل تأخير أو لم يقدر الله له الاستجابة فإنه خير كثير .
و ( لولا ) حرف تحضيض والتحضيض الطلب الحثيث المضطر إليه ويستعمل ( لولا ) للعرض أيضا والتوبيخ والتنديم والتمني على المجاز أو الكناية وتقدم عند قوله تعالى ( فلولا كانت قرية آمنت ) في سورة يونس