وصيغة المضارع في حكاية هذه المقالة لاستحضار الحالة العجيبة كقوله تعالى ( يجادلنا في قوم لوط ) . والمدينة هي مدينتهم المعهودة وهي يثرب .
والأعز : القوي العزة وهو الذي لا يقهر ولا يغلب على تفاوت في مقدار العزة إذ هي من الأمور النسبية . والعزة تحصل بوفرة العدد وسعة المال والعدة وأراد ب ( الأعز ) فريق الأنصار فإنهم أهل المدينة وأهل الأموال وهم أكثر عددا من المهاجرين فأراد ليخرجن الأنصار من مدينتهم من جاءها من المهاجرين .
وقد أبطل الله كلامهم بقوله ( ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ) وهو جواب بالطريقة التي تسمي القول بالموجب في علم الجدل وهي مما يسمى بالتسليم الجدلي في علم آداب البحث .
والمعنى : إن كان الأعز يخرج الأذل فإن المؤمنين هم الفريق الأعز . وعزتهم بكون الرسول A فيهم وبتأييد الله رسوله A وأولياءه لأن عزة الله هي العزة الحق المطلقة وعزة غيره ناقصة فلا جرم أن أولياء الله هم الذين لا يفقهون إذا أراد الله نصرهم ووعدهم به . فإن كان إخراج من المدينة فإنما يخرج منها أنتم يا أهل النفاق .
وتقديم المسند على المسند إليه في ( ولله العزة ) لقصد القصر وهو قصر قلب أي العزة لله ولرسوله وللمؤمنين لا لكم كما تحسبون .
وإعادة اللام في قوله ( ولرسوله ) مع أن حرف العطف مغن عنها لتأكيد عزة الرسول A وأنها بسبب عزة الله ووعده إياه وإعادة اللام أيضا في قوله ( وللمؤمنين ) للتأكيد أيضا إذ قد تخفى عزتهم وأكثرهم في حال قلة وحاجة .
والقول في الاستدراك بقوله ( ولكن المنافقين لا يعلمون ) نظير القول آنفا في قوله ( ولكن المنافقين لا يفقهون ) .
وعدل عن الإضمار في قوله ( ولكن المنافقين لا يعلمون ) . وقد سبق اسمهم في نظيرها قبلها لتكون الجملة مستقلة الدلالة بذاتها فتسير سير المثل .
وإنما نفي عنهم هنا العلم تجهيلا بسوء التأمل في أمارات الظهور والانحطاط فلم يفطنوا للإقبال الذي في أحوال المسلمين وازدياد سلطانهم يوما فيوما وتناقص من أعدائهم فإن ذلك أمر مشاهد فكيف يظن المنافقون أن عزتهم أقوى من غزة قبائل العرب الذين يسقطون بأيدي المسلمين كلما عزوهم من يوم بدر فما بعده .
( يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون [ 9 ] ) A E انتقال من كشف أحوال المنافقين المسوق للحذر منهم والتحذير من صفاتهم . إلى الإقبال على خطاب المؤمنين بينهم عما شانه أن يشغل عن التذكر لما أمر الله ونهى ثم الأمر بالإنفاق في سبل الخير في سبيل الله ومصالح المسلمين وجماعتهم وإسعاف آحادهم لئلا يستهويهم قول المنافقين ( لا تنفقوا على من عند رسول الله ) والمبادرة إلى ذلك قبل إتيان الموت الذي لا يدري وقت حلوله حين تمنى أن يكون قد تأخر أجله ليزيد من العمل الصالح فلا ينفعه التمني وهو تمهيد لقوله بعده ( وأنفقوا مما رزقناكم ) فالمناسبة لهذا الانتقال هو حكاية مقال المنافقين ولذلك قدم ذكر الأقوال على ذكر الأولاد لأنها أهم بحسب السياق .
ونودي المخاطبون بطريق الموصول لما تؤذن به الصلة من التهمم لامتثال النهي .
وخص الأموال والأولاد بتوجه النهي عن الاشتغال بها اشتغالا يلهي عن ذكر الله لأن الأموال مما يكثر إقبال الناس على إنمائها والتفكير في اكتسابها بحيث تكون أوقات الشغل بها أكثر من أوقات الشغل بالأولاد . ولأنها كما تشغل عن ذكر الله بصرف الوقت في كسبها ونمائها تشغل عن ذكره أيضا بالتذكير لكنزها بحيث ينسى ذكر ما دعا الله إليه من إنفاقها .
وأما ذكر الأولاد فهو إدماج لأن الاشتغال بالأولاد والشفقة عليهم وتدبير شؤونهم وقضاء الأوقات في التأنس بهم من شأنه أن ينسي عن تذكر أمر الله ونهيه في أوقات كثيرة فالشغل بهذين أكثر من الشغل بغيرهما