عطف على جملة ( هم الذين يقولون لا تنفقوا على من عند رسول الله ) إبطال لمكر المنافقين فيما قصدوه من قولهم المتظاهرين بأنهم قصدوا به نصح المسلمين أي لو تمشت حيلتهم على المسلمين فأمسكوا هم وبعض المسلمين عن إنفاق الأعراب ومن يأوون إلى رسول الله A من العفاة فإن الرسول A لا يقطع عنهم الإنفاق وذلك دأبه كما دل عليه حديث عمر بن الخطاب " أن رجلا جاء إلى رسول الله A فسأله أن يعطيه فقال النبي A : ما عندي شيء ولكن ابتع علي فإذا جاءني شيء قضيته . فقال عمر : يا رسول الله ما كلفك الله ما لا تقدر عليه فكره النبي A قول عمر . فقال رجل من الأنصار : يا رسول الله أنفق ولا تخش من ذي العرش إقلالا . فتبسم رسول الله A وعرف في وجهه البشر لقول الأنصاري ثم قال : بهذا أمرت " . رواه الترمذي في كتاب الشمائل .
وهذا جواب من باب طريقة النقض لكلامهم في مصطلح آداب البحث .
وخزائن جمع خزانة بكسر الخاء . وهي البيت الذي نخزن فيه الطعام قال تعالى ( قال اجعلني على خزائن الأرض ) تقدم في سورة يوسف . وتطلق على الصندوق الكبير الذي يخزن فيه المال على سبيل التوسع وعلى بيوت الكتب وصناديقها ومن هذا ما جاء في حديث الصرف من الموطأ " حتى يحضر خازني من الغابة " .
وخزائن السماوات مقار أسباب حصول الأرزاق من غيوث رسمية وأشعة الشمس والرياح الصالحة فيأتي ذلك بتوفير الثمار والحبوب وخصب المرعى وتزايد النتاج . وأما خزائن الأرض فيما فيها من أهربه ومطامير وأندر ومن كنوز الأحوال وما يفتح الله لرسوله A من البلاد وما يفي عليه من أهل القرى .
واللام في ( لله ) للملك أي التصرف في ذلك ملك لله تعالى . ولما كان الإنفاق على فقراء المسلمين مما يعين على ظهور الذين الذي أرسل الله به رسوله A كان الإخبار بأن الخزائن لله كناية عن تيسير الله تعالى لرسوله A حصول ما ينفق منه كما دل عليه قوله A لما قال الأنصاري " ولا تخش من ذي العرش إقلالا " " بهذا أمرت " . وذلك بما سيره الله لرسوله A من زكوات المسلمين وغنائم الغزوات وما فتح الله عليه من البلاد بخيراتها وما أفاء الله عليه بغير قتال .
وتقديم المجرور من قوله ( ولله خزائن السماوات والأرض ) لإفادة قصر القلب وهو قلب للازم قولهم لا لصريحه لأن المنافقين لما قالوا ( لا تنفقوا على من عند رسول الله ) حسبوا أنهم إذا قطعوا الإنفاق على من عند رسول الله لا يجد الرسول A ما ينفق منه عليهم فأعلم الله رسوله مباشرة وأعلمهم تبعا بأن ما عند الله من الرزق أعظم وأوسع .
A E واستدراك قوله ( ولكن المنافقين لا يفقهون ) لرفع ما يتوهم من أنهم حين قالوا ( لا تنفقوا على من عند رسول الله ) كانوا قالوه عن بصيرة ويقين بأن انقطاع إنفاقهم على الذين يلوذون برسول الله A يقعط رزقهم فينفضون عنه بناء على أن القدرة على الإنفاق منحصرة فيهم لأنهم أهل الأحوال وقد غفلوا عن تعدد أسباب الغنى وأسباب الفقر .
والمعنى : أنهم لا يدركون دقائق المدركات وخفاياها .
ومفعول ) يفقهون ) محذوف أي لا يفقهون ذلك وهو مضمون ( لله خزائن السماوات والأرض ) أو نزل الفعل منزلة اللازم مبالغة في انتفاء فقه الأشياء عنهم في كل حال .
( يقولون لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون [ 8 ] ) استئناف ثان على أسلوب التعداد والتكرير ولذلك لم يعطف . ومثله يكثر في مقام التوبيخ . وهذا وصف لخبث نواياهم إذ أرادوا التهديد وإفساد إخلاص الأنصار وأخوتهم مع المهاجرين بإلقاء هذا الخاطر في نفوس الأنصار بذرا للفتنة والتفرقة وانتهاز لخصومة طفيفة حدثت بين شخصين من موالي الفريقين وهذا القول المحكي هنا صدر من عبد الله بن أبي بن سلول حين كسع حليف المهاجرين حليف الأنصار كما تقدم في ذكر سبب نزول هذه السورة وعند قوله تعالى ( هم الذين يقولون لا تنفقوا على من عند رسول الله ) فإسناد القول إلى ضمير المنافقين هنا كإسناده هناك