وأن تكاليف الله للعباد على ألسنة الرسل ما أراد بها إلا صلاحهم العاجل والآجل وحصول الكمال النفساني لذلك الصلاح فلا جرم أن الله أراد من الشرائع كمال الإنسان وضبط نظامه الاجتماعي في مختلف عصوره . وتلك حكمة إنشائه فاستتبع قوله ( إلا ليعبدون ) أنه ما خلقهم إلا لينتظم أمرهم بوقوفهم عند حدود التكاليف التشريعية من الأوامر والنواهي فعبادة الإنسان ربه لا تخرج عن كونها محققة للمقصد من خلقه وعلة لحصوله عادة .
وعن مجاهد وزيد بن أسلم تفسير قوله ( إلا ليعبدون ) بمعنى : إلا لآمرهم وأنهاهم . وتبع أبو إسحاق الشاطبي هذا التأويل في النوع الرابع نت كتاب المقاصد من كتابة أنواع التعريف " الموافقات " وفي محمل الآية عليه نظر قد علمته فحققه .
وما ذكر الله الجن هنا إلا لتنبيه المشركين بأن الجن غير خارجين عن العبودية لله تعالى .
وقد حكى الله عن الجن في سورة الجن فقال قائلهم ( وإنه كان يقول سفيهنا على الله شططا ) .
وتقديم الجن في الذكر في قوله ( وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ) للاهتمام بهذا الخبر الغريب عند المشركين الذين كانوا يعبدون الجن ليعلموا أن الجن عباد الله تعالى فهو نظير قوله ( وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه بل عباد مكرمون ) .
A E وجملة ( ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون ) تقرير لمعنى ( إلا ليعبدون ) بإبطال بعض العلل والغايات التي يقصدها الصانعون شيئا يصنعونه أو يتخذونه فإنه المعروف في العرف أن من يتخذ شيئا إنما يتخذه لنفسه وليست الجملة لإفادة الجانب المقصور دونه بصيغة القصر لأن صيغة القصر لا تحتاج لذكر الضد . ولا يحسن ذكر الضد ولا يحسن ذكر الضد في الكلام البليغ .
فقوله ( ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون ) كناية عن عدم الاحتياج إليهم لأن أشد الحاجات في العرف حاجة الناس إلى الطعام واللباس والسكن وإنما تحصل بالرزق وهو المال فلذلك ابتدئ به ثم عطف عليه أي إعطاء الطعام لأنه أشد ما يحتاج إليه البشر وقد لا يجده صاحب المال إذا قحط الناس فيحتاج إلى من يسلفه الطعام أو يطعمه إياه وفي هذا تعريض بأهل الشرك إذ يهدون إلى الأصنام الأموال والطعام تتلقاه منه سدنة الأصنام .
والرزق هنا : المال كقوله تعالى ( فابتغوا عند الله الرزق ) قوله ( الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر ) وقوله ( ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله ) ويطلق الرزق على الطعام كقوله تعالى ( وله فيها رزقهم بكرة وعشيا ) ويمنع من إرادته هنا عطف ( وما أريد أن يطعمون ) .
( إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين [ 58 ] ) تعليل لجملتي ( ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون ) و ( الرزاق ) هنا بمعنى ما يهم المال والإطعام .
والرزاق : الكثير الإرزاق والقوة : القدرة .
وذو القوة : صاحب القدرة . ومن خصائص ( ذو ) أن تضاف إلى أمر مهم فعلم أن القوة هنا قوة خلية من النقائص .
والمتين : الشديد وهو هنا وصف لذي القوة أي الشديد القوة وقد عد ( المتين ) في أسمائه تعالى . قال العزالي : وذلك يرجع إلى معاني القدرة . وفي معارج النور شرح الأسماء " المتين : كما في قوته بحيث لا يعارض ولا يداني " .
فالمعنى أنه المستغني غنى مطلقا فلا يحتاج إلى شيء فلا يكون خلقه الخلق لتحصيل نفع له ولكن لعمران الكون وإجراء نظام العمران باتباع الشريعة التي يجمعها معنى العبادة في قوله ( إلا ليعبدون ) .
وإظهار اسم الجلالة في ( إن الله هو الرزاق ) إخراج للكلام على خلاف مقتضى الظاهر لأن مقتضاه : إني أنا الرزاق فعدل عن الإضمار إلى الاسم الظاهر لتكون هذه الجملة مستقلة بالدلالة لأنها سيرت مسير الكلام الجامع والأمثال : وحذفت ياء المتكلم من ( يعبدون ) و ( يطعمون ) للتخفيف ونظائره كثيرة في القرآن .
وفي قوله ( إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين ) طريق قصر لوجود ضمير الفصل أي : لا رزاق ولا ذا قوة ولا متين إلا الله وهو قصر إضافي أي دون الأصنام التي يعبدونها