فمعنى الإرادة هنا : الرضى والمحبة وليس معناها الصفة الإلهية التي تخصص الممكن ببعض ما يجوز عليه على وفق العلم التي اشتق منه اسمه تعالى ( المريد ) لأن إطلاق الإرادة على ذلك إطلاق آخر فليس المراد هنا تعليل تصرفات الخلق الناشئة عن اكتسابهم على اصطلاح الأشاعرة أو عن قدرتهم على اصطلاح المعتزلة على تقارب ما بين الاصطلاحين لظهور أن تصرفات الخلق قد تكون مناقضة لإرادة الله منهم بمعنى الإرادة الصفة فالله تعالى خلق الناس على تركيب يقتضي النظر في وجود الإله ويسوق إلى توحيده ولكن كسب الناس يجرف أعمالهم عن المهيع الذي خلقوا لأجله وأسباب تمكنهم من الانحراف كثيرة راجعة إلى تشابك الدواعي والتصرفات والآلات والموانع .
وهذا يغني عن احتمالات في تأويل التعليل من قوله ( ليعبدون ) من جعل عموم الجن والإنس مخصوصا بالمؤمنين منهم أو تقدير محذوف في الكلام أي إلا لآمرهم بعبادتي أو حمل العبادة بمعنى التذلل والتضرع الذي لا يخلوا منه الجميع في أحوال الحاجة إلى التذلل والتضرع كالمرض والقحط وقد ذكرها ابن عطية .
ويرد على جميع تلك الاحتمالات أن كثيرا من الإنس غير عابدين بدليل المشاهدة وأن الله حكى عن بعض الجن أنهم غير عابدين .
A E ونقول : أن الله خلق مخلوقات كثيرا وجعل فيها نظاما ونواميس فاندفع كل مخلوق يعمل بما تدفعه إليه نواميس جبلته فقد تعود بعض المخلوقات على بعض بنقص ما هيء هو له ويعود بعضها على غيره بنقص ما يسعى إليه فتشابكت أحوال المخلوقات ونواميسها فربما تعاضدت وتظاهرت وربما تناقصت وتنافرت فحدثت من ذلك أحوال لا تحصى ولا يحاط بها ولا بطرائقها ولا بعواقبها فكثيرا ما تسفر عن خلاف ما أعد له المخلوق في أصل الفطرة فلذلك حاطها الله بالشرائع أي فحصل تناقض بين الأمر التكويني والأمر التشريعي .
ومعنى العبادة في اللغة العربية قبل حدوث المصطلحات الشرعية دقيق الدلالة وكلمات أيمة اللغة فيه خفيه والذي يستخلص منها أنها إظهار الخضوع للمعبود واعتقاد أنه يملك نفع العابد وضر ملكا ذاتيا مستمرا فالمعبود إله للعابد كما حكى الله قول فرعون ( وقومهما لنا عابدون ) .
فالحصر المستفاد من قوله ( وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ) قصر علة خلق الله الإنس والجن على إرادته أن يعبدوه والظاهر أنه قصر إضافي وأنه من قبيل قصر الموصوف على الصفة وأنه قصر قلب باعتبار مفعول ( يعبدون ) أي إلا ليعبدوني وحدي أي لا ليشركوا غيري في العبادة فهو رد للإشراك وليس هو قصرا حقيقيا فإنا وإن لم نطلع على مقادير حكم الله تعالى من خلق الخلائق لكنا نعلم أن الحكمة من خلقهم ليست مجرد أن يعبدوه لأن حكم الله تعالى من أفعاله كثيرة لا يحيط بها وذكر بعضها كما هنا مما يقتضي عدم وجود حكمة أخرى ألا ترى أن الله ذكر حكما للخلق غير هذه كقوله ( ولا يزالون مختلفين لا من رحم ربك ولذلك خلقهم ) بله ما ذكره من حكمة خلق بعض الإنس والجن كقوله في خلق عيسى ( ولنجعله آية للناس ورحمة منا ) .
ثم إن اعتراف الخلق بوحدانية الله يقشع تكذيبهم بالرسول A لأنهم ما كذبوه إلا لأنه دعاهم إلى نبذ الشرك الذي يزعمون أنه لا يسع أحدا نبذه فإذا انقشع تكذيبهم استتبع انقشاعه امتثال الشرائع التي يأتي بها الرسول A إذا آمنوا بالله وحده أطاعوا ما بلغهم الرسول A عنه فهذا معنى تقتضيه عبادة الله بدلالة الالتزام وذلك هو ما سمي بالعبادة بالإطلاق المصطلح عليه في السنة في نحو قوله " أن تعبد الله كأنك تراه " ؛ وليس يليق أن يكون مرادا في هذه الآية لأنه لا يطرد أن يكون علة لخلق الإنسان فإن التكاليف الشرعية تظهر في بعض الأمم وفي بعض العصور وتتخلف في عصور الفترات بين الرسل إلى أن جاء الإسلام واحسب أن إطلاق العبادة على هذا المعنى اصطلاح شرعي وإن لم يرد به القرآن لكنه ورد في السنة كثيرا وأصبح متعارفا بين الأمة من عهد ظهور الإسلام