واعلم أن ماهية الملائكة تتحصل فيما ذكره سعد الدين في كتاب المقاصد " إنهم أجسام لطيفة نورانية قادرة على التشكلات بأشكال مختلفة شأنهم الخير والطاعة والعلم والقدرة على الأعمال الشاقة ومسكنهم السماوات وقال : هذا ظاهر الكتاب والسنة وهو قول أكثر الأمة " اه . ومعنى الأجسام اللطيفة أنها من قبيل الجوهر لا العرض وأنها جواهر مما يسمى عند الحكماء بالمجردات .
وعندي : أن تعريف صاحب المقاصد لحقيقة الملائكة لا يخلو عن تخليط في ترتيب التعريف لأنه خلط في التعريف بين الذاتيات والعرضيات .
والوجه عندي في ترتيب التعريف أن يقال : أجسام لطيفة نورانية أخيار ذوو قوة عظيمة ومن خصائصهم القدرة على التشكل بأشكال مختلفة والعلم بما تتوقف عليه أعمالهم ومقرهم السماوات ما لم يرسلوا إلى جهة من الأرض .
وهذا التشكل انكماش وتقبض في ذرات نورايتهم وإعطاء صورة من صور الجسمانيات الكثيفة لذواتهم . دل على تشكلهم قوله تعالى لهم يوم بدر ( فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان ) وثبت تشكل جبريل عليه السلام للنبي A في صورة دحية الكلبي وتشكله له ولعمر بن الخطاب في حديث السؤال عن الإيمان والإسلام والإحسان والساعة في صورة " رجل شديد بياض الثياب سواد الشعر لا يرى عليه أثر السفر ولا يعرفه منا أحد " أي من أهل المدينة " حتى جلس إلى النبي A فأسند ركبتيه إلى ركبتيه ووضع كفيه إلى فخذيه " الحديث وقول النبي A بعد أن فارقهم الرجل " هل تدرون من السائل ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم . قال : فإنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم " كما في الصحيحين عن عمر بن الخطاب . وثبت حلول جبريل في غار حراء في بدء الوحي وظهوره للنبي A على كرسي بين السماء والأرض بصورته التي رآه فيها غار حراء كما ذلك في حديث نزول سورة المدثر ورأى كثير من أصحاب رسول الله A يوم بدر ناسا لا يعرفونهم على خيل يقاتلون معهم .
A E وجملة ( يزيد في الخلق ما يشاء ) مستأنفة استئنافا بيانيا لأن ما ذكر من صفات الملائكة يثير تعجب السامع أن يتساءل عن هذه الصفة العجيبة فأجيب بهذا الاستئناف بان مشيئة الله تعالى لا تنحصر ولا توقت . ولكل جنس من أجناس المخلوقات مقوماته وخواصه . فالمراد بالخلق : المخلوقات كلها أي يزيد الله في بعضها ما ليس في خلق آخر . فيشمل زيادة قوة بعض الملائكة على بعض وكل زيادة في شيء بين المخلوقات من المحاسن والفضائل من حصافة عقل وجمال صورة وشجاعة وذلقة لسان ولياقة كلام . ويجوز أن تكون جملة " يزيد في الخلق ما يشاء " صفة ثانية للملائكة أي أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع يزيد في خلقهم ما يشاء كأنه قيل : مثنى وثلاث ورباع وأكثر فما في بعض الأحاديث من كثرة أجنحة جبريل يبين معنى ( يزيد في الخلق ما يشاء ) . وعليه فالمراد بالخلق ما خلق عليه الملائكة من أن لبعضهم أجنحة زائدة على ما لبعض آخر .
وجملة ( إن الله على كل شيء قدير ) تعليل لجملة ( يزيد في الخلق ما يشاء ) وفي هذا تعريض بتسفيه عقول الذين أنكروا الرسالة وقالوا ( إن أنتم إلا بشر مثلنا ) فأجيبوا بقول الرسل ( إن نحن إلا بشر مثلكم ولكن الله يمن على من يشاء من عباده ) .
( ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده وهو العزيز الحكيم [ 2 ] ) هذا من بقية تصدير السورة ب ( الحمد لله فاطر السماوات والأرض ) وهو عطف على ( فاطر السماوات والأرض ) الخ . والتقدير : وفاتح الرحمة للناس وممسكها عنهم فلا يقدر أحد على إمساك ما فتحه ولا على فتح ما أمسكه .
و ( ما ) شرطية أي اسم فيه معنى الشرط . وأصلها اسم موصول ضمن معنى الشرط . فانقلبت صلته إلى جملة شرطية وانقلبت جملة الخبر جوابا واقترنت بالفاء لذلك فأصل ( ما ) الشرطية هو الموصولة . ومحل ( ما ) الابتداء وجواب الشرط أغنى من الخبر .
و ( من رحمة ) بيان لإبهام ( ما ) والرابط محذوف لأنه ضمير منصوب .
والفتح : تمثيلية لإعطاء الرحمة إذ هي من النفائس التي تشبه المدخرات المتنافس فيها فكانت حالة إعطاء الله الرحمة شبيهة بحالة فتح الخزائن للعطاء فأشير إلى هذا التمثيل بفعل الفتح وبيانه بقوله ( من رحمة ) قرينة الاستعارة التمثيلية