الفاء للترتيب على قوله ( لظلوا من بعده يكفرون ) المفيد أن الكفر غالب أحوالهم لأنهم بين كفر بالله وبين إعراض عن شكره أو الفاء فصيحة تدل على كلام مقدر أي إن كبر عليك إعراضهم وساءك استرسالهم على الكفر فإنهم كالموتى وإنك لا تسمع الموتى . وهذا معذرة للنبي A ونداء على أنه بذل الجهد في التبليغ .
وفيما عدا الفاء فالآية نظير التي في آخر سورة النمل ونزيد هنا فنقول : إن تعداد التشابيه منظور فيه إلى اختلاف أحوال طوائف المشركين فكان لكل فريق تشبيه : فمنهم من غلب عليهم التوغل في الشرك فلا يصدقون بما يخالفه ولا يتأثرون بالقرآن والدعوة إلى الحق فهؤلاء بمنزلة الأموات أشباح بلا إدراك وهؤلاء هم دهماؤهم وأغلبهم ولذلك ابتدئ بهم .
ومنهم من يعرض عن استماع القرآن وهم الذين يقولون ( في آذاننا وقر ) ويقولون ( لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه ) وهؤلاء هم ساداتهم ومدبروا أمرهم يخافون إن أصغوا إلى القرآن أن يملك مشاعرهم فلذلك يتباعدون عن سماعه ولهذا قيد الذي شهوا به بوقت توليهم مدبرين إعراضا عن الدعوة فهو تشبيه تمثيل .
ومنهم من سلكوا مسلك ساداتهم واقتفوا خطاهم فانحرفت أفهامهم عن الصواب فهم يسمعون القرآن ولا يستطيعون العمل به وهؤلاء هم الذين اعتادوا متابعة أهوائهم وهم الذين قالوا ( إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون ) . ويحصل من جميع ذلك تشبيه جماعتهم بجماعة تجمع أمواتا وصما وعميا فليس هذا من تعدد التشبه لمشبه واحد كالذي في قوله تعالى ( أو كصيب من السماء ) .
وقرأ الجمهور ( ولا تسمع الصم ) بتاء فوقية مضمومة وكسر ميم ( تسمع ) ونصب ( الصم ) على أنه خطاب للنبي A . وقرأه ابن كثير ( ولا يسمع الصم ) بتحتية مفتوحة وبفتح ميم ( يسمع ) ورفع ( الصم ) على الفاعلية ل ( يسمع ) .
وقرأ الجمهور ( بهادي ) بموحدة وبألف بعد الهاء وبإضافة ( هادي ) إلى ( العمي ) وقرأه حمزة وحده ( تهدي ) بمثناة فوقية وبدون ألف بعد الهاء على الخطاب وبنصب ( العمي ) على المفعولية .
( الله الذي خلقكم من ضعف ثم جعل من بعد ضعف قوة ثم جعل من بعد قوة ضعفا وشيبة يخلق ما يشاء وهو العليم القدير [ 54 ] ) هذا رابع استئناف من الأربعة المتقدمة رجوع إلى الاستدلال على عظيم القدرة في مختلف المصنوعات من العوالم لتقرير إمكانية البعث وتقريب حصوله إلى عقول منكرية لأن تعدد صور إيجاد المخلوقات وكيفياته من ابتدائها عن عدم أو من إعادتها بعد انعدامها ويتطور وبدونه مما يزيد إمكان البعث وضوحا عند منكريه فموقع هذه الآية كموقع قوله ( الله الذي يرسل الرياح فتثير سحابا ) ونظائرها كما تقدم ؛ ولذلك جاءت فاتحتها على أسلوب فواتح نظائرها وهذا ما يؤذن به تعقيبها بقوله ( ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ) الآية .
ثم قوله ( الله الذي خلقكم ) مبتدأ وصفة وقوله ( يخلق ما يشاء ) هو الخبر أي يخلق ما يشاء مما أخبر به وأنتم تنكرون .
A E والضعف بضم الضاد في الآية وهو أفصح وهو لغة قريش . ويجوز في ضاده الفتح وهو لغة تميم . وروي أبو داود والترمذي عن عبد الله بن عمر قال : قرأتها على رسول الله ( الذي خلقكم من ضعف ) " يعني لفتح الضاد " فأقرأني ( من ضعف ) " يعني بضم الضاد " . وقرأ الجمهور ألفاظ " ضعف " الثلاثة بضم الضاد في الثلاثة . وقرأها عاصم وحمزة بفتح الضاد فلهما سند لا محالة يعارض حديث ابن عمر . والجمع بين هذه القراءة وبين حديث ابن عمر أن النبي A نطق بلغة الضم لأنها لغة قومه وأن الفتح رخصة لمن يقرأ بلغة قبيلة أخرى ومن لم يكن له لغة تخصه فهو مخير بين القراءتين . والضعف : الوهن واللين .
و ( من ) ابتدائية أي مبتدأ خلقه من ضعف أي من حالة ضعف وهي حالة كونه جنينا ثم صبيا إلى أن يبلغ أشده وهذا كقوله ( خلق الإنسان من عجل ) يدل على تمكن الوصف من الموصوف حتى كأنه منتزع منه قال تعالى ( وخلق الإنسان ضعيفا ) .
والمعنى : أنه كما أنشأكم أطوارا تبتدئ من الوهن وتنتهي إليه فكذلك ينشئكم بعد الموت إذ ليس ذلك بأعجب من الإنشاء الأول وما لحقه من الأطوار ولهذا أخبر عنه بقوله ( يخلق ما يشاء )