ثم أنكر عليهم إهمال التأمل في سنة الله الشائعة في الناس : من لحاق الضر وانفراجه ومن قسمة الحظوظ في الرزق بين بسط وتقتير فإنه كثير الوقوع كل حين فكما أنهم لم يقنطوا من بسط الرزق عليهم في حين تقتيره فكدحوا في طلب الرزق بالأسباب والدعاء فكذلك كان حقهم أن يتلقوا السوء النادر بمثل ما يتلقون به ضيق الرزق فيسعوا في كشف السيئة بالتوبة والابتهال إلى الله وبتعاطي أسباب زوالها من الأسباب التي نصبها الله تعالى فجملة ( أو لم يروا أن الله يبسط الرزق ) الخ عطف على جملة ( وإذا أذقنا الناس رحمة فرحوا بها ) .
والاستفهام إنكاري في معنى النفي ؛ أنكر عليهم عدم الرؤية تنزيلا لرؤيتهم ذلك منزلة عدم الرؤية لإهمال آثارها من الاعتبار بها . فالتقدير : إذا هم يقنطون كيف لم يروا بسط الله الرزق وتقتيره كأنهم لم يروا ذلك .
والرؤية بصرية .
وجملة ( إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون ) تذييل أي في جميع ما ذكر آيات كثيرة حاصلة كثرتها من اشتمال كل حالة من تلك الأحوال على أسباب خفية وظاهرة ومسبباتها كذلك ومن تعدد أحوال الناس من الاعتبار بها والأخذ منها كل على حسب استعداده .
وخص القوم المؤمنون بذلك لأنهم أعمق بصائر بما ارتاضت عليه أنفسهم من آداب الإيمان ومن نصب أنفسهم لطلب العلم والحكمة من علوم الدين وحكمة النبوءة .
( فئات ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل ذلك خير للذين يريدون وجه الله وأولئك هم المفلحون [ 38 ] ) فاء التفريع تفيد أن الكلام بعدها مترتب على الكلام الذي قبلها وقد اشتمل الكلام قبلها على لحاق آثار رحمة الله بالناس وإصابة السوء إياهم وعلى أن ما يصيبهم من السوء بما قدمت أيدي الناس وذكر بسط الرزق وتقديره . وتضمن ذلك أن الفرح يلهيهم عن الشكر وأن القنوط يلهيهم عن المحاسبة في الأسباب فكان الأمر بإيتاء الضعفاء والمنكوبين إرشادا إلى وسائل شكر النعمة عند حصولها شكرا من نوعها واستكشاف الضر عند نزوله وإلى أن من الحق التوسعة على المضيق عليهم الرزق كما يحب أن يوسع عليه رزقه ؛ فالخطاب بالأمر للنبي صلى الله عليه وسلم باعتبار من معه من المؤمنين ممن يحق عليه الإيتاء وهو الذي بسط له في الرزق أي فآتوا ذا القربى حقه بقرينة قوله ( ذلك خير للذين يريدون وجه الله ) الآية . ويجوز أن يكون خطابا لغير معين من المؤمنين .
A E والإيتاء : الإعطاء . وهو مشعر بأن المعطى مال ويقوي ذلك وقوع الآية عقب قوله ( أو لم يروا أن الله يبسط الرزق لمن يشاء ) . وصيغة الأمر من قوله ( فئات ) مجمل . والأصل في محملها لاوجوب مع أن المأمور بإيتائه عبر عنه بأنه حق والأصل في الحق الوجوب . وظاهر الآية يقتضي أن المراد حق في مال المؤتي .
وعن مجاهد وقتادة : صلة الرحم " أي بالمال " فرض من الله D لا تقبل صدقة أحد ورحمه محتاجة . وقال الحسن : حق ذي القربى المواساة في اليسر وقول ميسور في العسر . وقال ابن عطية : معظم ما قصد أمر المعونة بالمال ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم " في المال حق سوى الزكاة " وللمساكين وابن السبيل حق وبين أن حق هذين في المال اه . أقول ولذلك قال جمع كثير : إن هذه الآية منسوخة بآية المواريث وقال فريق : لم تنسخ بل للقريب حق في البر على كل حال أي لا نسخ في جميع ما تضمنته بل نسخ بعضه بآية المواريث وبقي ما عداه . قلت : وما بقي غير منسوخ مختلفة أحكامه وهو مجمل تبينه أدلة أخرى متفرقة من الشريعة .
والقربى : قرب النسب والرحم . وتقدم عند قوله ( والجار ذي القربى ) في سورة النساء .
والمسكين تقدم في قوله ( للفقراء والمساكين ) في سورة التوبة .
وابن السبيل : المسافر المجتاز بالقرية أو بالحي