وقد بين أبو علي ابن سينا حقيقة الفطرة في كتابه النجاة فقال " ومعنى الفطرة أن يتوهم الإنسان نفسه " حصل في الدنيا دفعة وهو عاقل لكنه لم يسمع رأيا ولم يعتقد مذهبا ولم يعاشر أمة ولم يعرف سياسة ولكنه شاهد المحسوسات وأخذ منها الحالات ثم يعرض على ذهنه شيئا ويتشكك فيه فإن أمكنه الشك فالفطرة لا تشهد به وإن لم يمكنه الشك فهو ما توجبه الفطرة وليس كل ما توجبه فطرة الإنسان بصادق إنما الصادق فطرة القوة التي تسمى عقلا وأما فطرة الذهن بالجملة فربما كانت كاذبة وإنما يكون هذا الكذب في الأمور التي ليست محسوسة بالذات بل هي مبادئ للمحسوسات . فالفطرة الصادقة هي مقدمات وآراء مشهورة محمودة أوجب التصديق بها : إما شهادة الكل مثل : أن العدل جميل وإما شهادة الأكثر ؛ وإما شهادة العلماء أو الأفاضل منهم . وليست الذائعات من جهة ما هي ذائعات مما يقع التصديق بها في الفطرة فما كان من الذائعات ليس بأولي عقلي ولا وهمي فإنها غير فطرية ولكنها متقررة عند الأنفس لأن العادة مستمرة عليها منذ الصبى وربما دعا إليها محبة التسالم والاصطناع المضطر إليهما الإنسان أو شيء من الأخلاق الإنسانية مثل الحياء والاستئناس أو الاستقراء الكثير أو كون القول في نفسه ذا شرط دقيق لأن يكون حقا صرفا فلا يفطن لذلك الشرط ويؤخذ على الإطلاق . اه .
فوصف الإسلام بأنه فطرة الله معناه أن أصل الاعتقاد فيه جار على مقتضى الفطرة العقلية وأما تشريعاته وتفاريعه فهي : إما أمور فطرية أيضا أي جارية على وفق ما يدركه العقل ويشهد به وإما أن تكون لصلاحه مما لا ينافي فطرته .
وقوانين المعاملات فيه هي راجعة إلى ما تشهد به الفطرة لأن طلب المصالح من الفطرة . وتفصيل ذلك ليس هذا موضعه وقد بينته في كتابي المسمى " مقاصد الشريعة الإسلامية " .
واعلم أن شواهد الفطرة قد تكون واضحة بينة وقد تكون خفية كما يقتضيه كلام الشيخ ابن سينا فإذا خفيت المعاني الفطرية أو التبست بغيرها فالمضطلعون بتمييزها وكشفها هم العلماء الحكماء الذين تمرسوا بحقائق الأشياء والتفريق بين متشابهاتها وسبروا أحوال البشر وتعرضت أفهامهم زمانا لتصاريف الشريعة وتوسموا مراميها وغاياتها وعصموا أنفسهم بوازع الحق عن أن يميلوا مع الأهواء .
A E إن المجتمع الإنساني قد مني عصورا طويلة بأوهام وعوائد ومألوفات أدخلها عليه أهل التضليل فاختلطت عنده بالعلوم الحق فتقاول الناس عليها وارتاضوا على قبولها فالتصقت بعقولهم التصاق العنكبوت ببيته فتلك يخاف منها أن تتلقى بالتسليم على مرور العصور فيعسر إقلاعهم عنها وإدراكهم ما فيها من تحريف عن الحق فليس لتمييزها إلا أهل الرسوخ أصحاب العلوم الصحيحة الذين ضربوا في الوصول إلى الحقائق كل سبيل واستوضحوا خطيرها وسليمها فكانوا للسابلة خير دليل .
وكون الإسلام هو الفطرة وملازمة أحكامه لمقتضيات الفطرة صفة اختص بها الإسلام من بين سائر الأديان في تفاريعه أما أصوله فاشتركت فيها الأديان الإلهية وهذا ما أفاده قوله ( ذلك الدين القيم ) . فالإسلام عام خالد مناسب لجميع العصور وصالح بجميع الأمم ولا يستتب ذلك إلا إذا بنيت أحكامه على أصول الفطرة الإنسانية ليكون صالحا للناس كافة وللعصور عامة وقد اقتضى وصف الفطرة أن يكون الإسلام سمحا يسرا لأن السماحة واليسر مبتغى الفطرة .
وفي قوله ( التي فطر الناس عليها ) بيان لمعنى الإضافة في قوله ( فطرة الله ) وتصريح بأن الله خلق الناس سالمة عقولهم مما ينافي الفطرة من الأديان الباطلة والعادات الذميمة وأن ما يدخل عليهم من الضلالات ما هو إلا من جراء التلقي والتعود وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم " يولد الولد على الفطرة ثم يكون أبواه هما اللذان يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء " أي كما تولد البهيمة من ابل أو بقر أو غنم كاملة جمعاء أي بذيلها أي تولد كاملة ويعمد بعض الناس إلى قطع ذيلها وجدعه وهي الجدعاء و ( تحسون ) تدركون بالحس أي حاسة البصر .
فجعل اليهودية والنصرانية مخالفة الفطرة أي في تفاريعها