فلا شك أن اللغة كانت واحدة للبشر حين كانوا في مكان واحد وما اختلفت اللغات إلا بانتشار قبائل البشر في المواطن المتباعدة وتطرق التغير إلى لغاتهم تطرقا تدريجيا ؛ على أن توسع اللغات بتوسع الحاجة إلى التعبير عن أشياء لم يكن للتعبير عنها حاجة قد أوجب اختلافا في وضع الأسماء لها فاختلفت اللغات بذلك في جوهرها كما اختلفت فيما كان متفقا عليه بينها باختلاف لهجات النطق واختلاف التصرف فكان لاختلاف الألسنة موجبان . فمحل العبرة هو اختلاف مع اتحاد أصل النوع كقوله تعالى ( تسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الأكل ) ولما في ذلك الاختلاف من الأسرار المقتضية إياه .
ووقع في الإصحاح الحادي عشر من سفر التكوين ما يوهم ظاهره أن اختلاف الألسن حصل دفعة واحدة بعد الطوفان في أرض بابل وأن البشر تفرقوا بعد ذلك . والظاهر أنه وقع في العبارة تقديم وتأخير وأن التفرق وقع قبل تبلبل الألسن . وقد علل في ذلك الإصحاح بما ينزه الله عن مدلوله .
وقيل : أراد باختلاف الألسنة اختلاف الأصوات بحيث تتمايز أصوات الناس المتكلمين بلغة واحدة فنعرف صاحب الصوت وإن كان غير مرئي .
A E وأما اختلاف ألوان البشر فهو آية أيضا لأن البشر منحدر من أصل واحد وهو آدم وله لون واحد لا محالة ولعله البياض المشوب بحمرة فلما تعدد نسله جاءت الألوان المختلفة في بشراتهم وذلك الاختلاف معلول لعدة علل أهمها المواطن المختلفة بالحرارة والبرودة ومنها التوالد من أبوين مختلفي اللون مثل المتولد من أم سوداء وأب أبيض ومنها العلل والأمراض التي تؤثر تلوينا في الجلد ومنها اختلاف الأغذية ولذلك لم يكن اختلاف ألوان البشر دليلا على اختلاف النوع بل هو نوع واحد فللبشر ألوان كثيرة أصلاها البياض والسوادن وقد أشار إلى هذا أبو علي ابن سينا في أرجوزته في الطب بقوله : .
بالنزح حر غير الأجساد ... حتى كسا بياضها سوادا .
والصقلب اكتسبت البياضا ... حتى غدت جلودها بضاضا وكان أصل اللون البياض لأنه غير محتاج إلى علة ولأن التشريح أثبت أن ألوان لحوم البشر التي تحت الطبقة الجلدية متحدة اللون . ومن البياض والسواد انشقت ألوان قبائل البشر فجاء منها اللون الأصفر واللون الأسمر واللون الأحمر . ومن العلماء وهو " كوقيي " جعل أصول ألوان البشر ثلاثة : الأبيض والأسود والأصفر وهو لون أهل الصين . ومنهم من زاد الأحمر وهو لون سكان قارة أمريكا الأصليين المدعوين هنود أمريكا .
واعلم أن من مجموع اختلاف اللغات واختلاف الألوان تمايزت الأجذام البشرية واتحدت مختلطات أنسابها .
وقد قسموا أجذام البشر الآن إلى ثلاثة أجذام أصلية وهي الجذم القوقاسي الأبيض والجذم المغولي الأصفر والجذم الحبشي الأسود وفرعوها إلى ثمانية وهي الأبيض والأسود والحبشي والأحمر والأصفر والسامي والهندي والملابي " نسبة إلى بلاد الملايو " .
وجعل ذلك آيات في قوله ( إن في ذلك لآيات للعالمين ) لما علمت من تفاصيل دلائله وعلله أي آيات لجميع الناس وهو نظير قوله آنفا ( إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون ) .
واللام في قوله ( للعالمين ) نظير ما تقدم في الآية قبلها . وجعل ذلك آيات للعالمين لأنه مقرر معلوم لديهم بمكنهم الشعور بآياته بمجرد التفات الذهن دون إمعان نظر .
وقرأ الجمهور ( للعالمين ) بفتح اللام . وقرأه حفص بكسر اللام أي لأولي العلم .
( ومن آياته منامكم بالليل والنهار وابتغاؤكم من فضله إن في ذلك لآيات لقوم يسمعون [ 23 ] ) هذه آية رابعة وهي كائنة في أعراض من أعراض الناس لا يخلو عنها أحد من أفرادهم إلا أنها أعراض مفارقة غير ملازمة فكانت دون الأعراض التي أقيمت عليها الآية الثالثة ولذلك ذكرت هذه الآية بعدها .
وحالة النوم حالة عجيبة من أحوال الإنسان والحيوان إذ جعل الله له في نظام أعصاب دماغه قانونا يسترد به قوة مجموعه العصبي بعد أن يعتريه فشل الإعياء من إعمال عقله وجسده فيعتريه شبه موت يخدر إدراكه ولا يعطل حركات أعضائه الرئيسية ولكنه يثبطها حتى يبلغ من الزمن مقدارا كافيا لاسترجاع قوته فيفيق من نومته وتعود إليه حياته كاملة وقد تقدم ذلك عند قوله تعالى ( لا تأخذه سنة ولا نوم ) في سورة البقرة