والأمر بالسير في الأرض تقدم في قوله تعالى ( قل سيروا في الأرض ثم انظروا كيف كان عاقبة المكذبين ) في سورة الأنعام وقوله ( قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق ) في سورة العنكبوت .
والاستفهام في ( أولم يسيروا ) تقريري . وجاء التقرير على النفي للوجه الذي ذكرناه في قوله تعالى ( ألم يروا أنه لا يكلمهم ) وقوله ( ألم يأتكم رسل منكم ) في الأعراف وقوله ( أليس في جهنم مثوى للكافرين ) في آخر العنكبوت .
والأرض : اسم للكرة التي عليها الناس .
والنظر : هنا نظر العين لأن قريشا كانوا يمرون في أسفارهم إلى الشام على ديار ثمود وقوم لوط وفي أسفارهم إلى اليمن على ديار عاد .
وكيفية العاقبة هي حالة آخر أمرهم من خراب بلادهم وانقطاع أعقابهم فعاضد دلالة التفكر التي في قوله ( أولم يتفكروا في أنفسهم ) الآية بدلالة الحس بقوله ( فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم ) .
و ( كيف ) استفهام معلق فعل ( ينظروا ) عن مفعوله فكأنه قيل : فينظروا ثم استؤنف فقيل : كيف كان عاقبة الذين من قبلهم .
والعاقبة : آخر الأمر من الخير والشر بخلاف العقبى فهي للخير خاصة إلا في مقام المشاكلة وتقدم ذكر العاقبة في قوله ( والعاقبة للمتقين ) في الأعراف . وقد جمع قوله ( فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم ) وعيدا على تكذيبهم النبي صلى الله عليه وسلم وتجهيلا لإحالتهم الممكن حيث أيقنوا بأن الفرس لا يغلبون بعد انتصارهم .
فهذه آثار أمم عظيمة كانت سائدة على الأرض فزال ملكهم وخلت بلادهم من سبب تغلب أمم أخرى عليهم .
والمراد بالذين من قبلهم عاد وثمود وقوم لوط وأمثالهم الذين شاهد العرب آثارهم . والمعنى : أنهم كانوا من قبلهم في مثل حالتهم من الشرك وتكذيب الرسل المرسلين إليهم كما دل عليه قوله عقبه ( كانوا أشد منهم قوة ) الآية .
( كانوا أشد منهم قوة وأثاروا الأرض وعمروها أكثر مما عمروها وجاءتهم رسلهم بالبينات فما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون [ 9 ] ) كل أولئك كانوا أشد قوة من قريش وأكثر تعميرا في الأرض وكلهم جاءتهم رسل وكلهم كانت عاقبتهم الاستئصال كل هذه ما تقر به قريش .
وجملة ( كانوا أشد منهم قوة ) بيان لجملة ( كيف كان عاقبة الذين من قبلهم ) .
والشدة : صلابة جسم وتستعار بكثرة لقوة صفة من الأوصاف في شيء تشبيها لكمال الوصف وتمامه بالصلابة في عسر التحول وتقدم في قوله ( وأولوا بأس شديد ) في سورة النمل .
A E والقوة : حالة يقاوم بها صاحبها ما يوجب انخرامه فمن ذلك قوة البدن وقوة الخشب وتستعار القوة لما به تدفع العادية وتستقيم الحالة ؛ فهي مجموع صفات يكون بها بقاء الشيء على أكمل أحواله كما في قوله ( نحن أولوا قوة ) . فقوة الأمة مجموع ما به تدفع العوادي عن كيانها وتستبقي صلاح أحوالها من عدد حربية وأموال وأبناء وأزواج . وحالة مشركي قريش لا تداني أحوال تلك الأمم في القوة وناهيك بعاد فقد كانوا مضرب الأمثال في القوة في سائر أمورهم والعرب تصف الشيء العظيم في جنسه بأنه عادي نسبة إلى عاد .
وعطف ( أثاروا ) على ( كانوا ) فهو فعل مشتق من الإثارة بكسر الهمزة وهي تحريك أجزاء الشيء فالإثارة : رفع الشيء المستقر وقلبه بعد استقراره قال تعالى ( الله الذي يرسل الرياح فتثير سحابا ) أي تسوقه وتدفعه من مكان إلى مكان . وأطلقت الإثارة هنا على قلب تراب الأرض بجعل ما كان باطنا ظاهرا وهو الحرث قال تعالى ( لا ذلول تثير الأرض ) وقال النابغة يصف بقر الوحش إذا حفرت التراب : .
يثرن الحصى حتى يباشرن برده ... إذا الشمس مجت ريقها بالكلاكل ويجوز أن يكون ( أثاروا ) هنا تمثيلا لحال شدة تصرفهم في الأرض وتغلبهم على من سواهم بحال من يثير ساكنا ويهيجه ومنه أطلقت الثورة على الخروج عن الجماعة . وهذا الاحتمال أنسب بالمقصود الذي هو وصف الأمم بالقوة والمقدرة من احتمال أن تكون الإثارة بمعنى حرث الأرض لأنه يدخل في العمارة . وضمير ( أثاروا ) عائد إلى ما عاد إليه ضمير ( كانوا أشد )