فهنالك مضافان إليهما محذوفان . فبنيت ( قبل ) و ( بعد ) على الضم لحذف المضاف إليه لافتقار معناهما إلى تقدير مضافين إليهما فأشبهتا الحرف في افتقار معناه إلى الاتصال بغيره . وهذا البناء هو الأفصح في الاستعمال إذا حذف ما تضاف إليه ( قبل ) و ( بعد ) وقدر لوجود دليل عليه في الكلام وأما إذا لم تقصد إضافتهما بل أريد بهما الزمن السابق والزمن اللاحق فإنهما يعربان كسائر الأسماء النكرات كما قال عبد الله بن يعرب بن معاوية أو يزيد بن الصعق : .
فساغ لي الشراب وكنت قبلا ... أكاد أغص بالماء الحميم أي وكنت في زمن سبق لا يقصد تعيينه . وجوز الفراء فيهما مع حذف المضاف إليه أن تبقى فيهما حركة الإعراب بدون تنوين ودرج عليه ابن هشام وأنكره الزجاج وجعل من الخطإ رواية قول الشاعر الذي لا يعرف اسمه : A E .
ومن قبل نادى كل مولى قرابة ... فما عطفت مولى عليه العواطف بكسر لام ( قبل ) رادا قول الفراء أنه روي بكسر دون تنوين يريد الزجاج أي الواجب أن يروى بالضم .
وتقديم المجرور في قوله ( لله الأمر ) لإبطال تطاول المشركين الذين بهجهم غلب الفرس على الروم لأنهم عبدة أصنام مثلهم لاستلزامه الاعتقاد بأن ذلك الغلب من نصر الأصنام عبادها فبين لهم بطلان ذلك وأن التصرف لله وحده في الحالين للحكمة التي بيناها آنفا كما دل عليه التذييل بقوله ( ينصر من يشاء ) .
فيه أدب عظيم للمسلمين لكي لا يعللوا الحوادث بغير أسبابها وينتحلوا لها عللا توافق الأهواء كما كانت تفعله الدجاجلة من الكهان وأضرابهم . وهذ المعنى كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلنه في خطبه فقد كسفت الشمس يوم مات إبراهيم ابن النبي فقال الناس : كسفت لموت إبراهيم فخطب النبي صلى الله عليه وسلم فقال في خطبته " إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته " . وكان من صناعة الدجل أن يتلقن أصحاب الدجل الحوادث المقارنة لبعض الأحوال فيزعموا أنها كانت لذلك مع أنها تنفع أقواما وتضر بآخرين ولهذا كان التأييد بنصر الروم في هذه الآية موعودا به من قبل ليعلم الناس كلهم أنه متحدى به قبل وقوعه لا مدعى به بعد وقوعه ولهذا قال تعالى بعد الوعود ( ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله ) .
( ويومئذ يفرح المؤمنون [ 4 ] بنصر الله ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم [ 5 ] ) عطف على جملة ( وهم من بعد غلبهم ) الخ أي ويوم إذ يغلبون يفرح المؤمنون بنصر الله أي بنصر الله إياهم على الذين كانوا غلبوهم من قبل وكان غلبهم السابق أيضا بنصر الله إياهم على الروم لحكمة اقتضت هذا التعاقب وهي تهيئة أسباب انتصار المسلمين على الفريقين إذا حاربوهم بعد ذلك لنشر دين الله في بلاديهم وقد أومأ إلى هذا قوله ( لله الأمر من قبل ومن بعد ) .
والجملة المضافة إلى ( إذ ) في قوله ( ويومئذ ) محذوفة عوض عنها التنوين . والتقدير : ويوم إذ يغلبون يفرح المؤمنون ف ( يوم ) منصوب على الظرفية وعامله ( يفرح المؤمنون ) .
وأضيف النصر إلى اسم الجلالة للتنويه بذلك النصر وأنه عناية لأجل المسلمين .
وجملة ( ينصر من يشاء ) تذييل لأن النصر المذكور فيها عام بعموم مفعوله وهو ( من يشاء ) فكل منصور داخل في هذا العموم أي من يشاء نصره لحكم يعلمها فالمشيئة هي الإرادة أي ينصر من يريد نصره وإرادته تعالى لا يسأل عنها ولذلك عقب بقوله ( وهو العزيز ) فإن العزيز المطلق هو الذي يغلب كل مغالب له وعقبه ب ( الرحيم ) للإشارة إلى أن عزته تعالى لا تخلو من رحمة بعباده ولولا رحمته لما أدال للمغلوب دولة على غالبه مع أنه تعالى هو الذي أراد غلبة الغالب الأول فكان الأمر الأول بعزته والأمر الثاني برحمته للمغلوب المنكوب وترتيب الصفتين العليتين منظور فيه لمقابلة كل صفة منهما بالذي يناسب ذكره من الغلبين فالمراد رحمته في الدنيا .
( وعد الله لا يخلف الله وعده ولكن أكثر الناس لا يعلمون [ 6 ] يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون [ 7 ] )