وقد تقدم في سورة المؤمنين حكاية مثل هذه المقالة عن الذين كفروا إلا أن اسم الإشارة الأول وقع مؤخرا عن ( نحن ) في سورة المؤمنين ووقع مقدما عليه هنا وتقديمه وتأخيره سواء في اصل المعنى لأنه مفعول ثان ل ( وعدنا ) وقع بعد نائب الفاعل في الآيتين . وإنما يتجه أن يسأل عن تقديمه على توكيد الضمير الواقع نائبا على الفاعل . وقد ناطها في الكشاف بأن التقديم دليل على أن المقدم هو الغرض المعتمد بالذكر وبسوق الكلام لأجله . وبينه السكاكي في المفتاح بأن ما وقع في سورة المؤمنين كان بوضع المنصوب بعد المرفوع وذلك موضعه . وأما ما في سورة النمل فقدم المنصوب على المرفوع لكونه فيها أهم يدلك على ذلك أن الذي قبله ( إذا كنا ترابا وآباؤنا ) والذي قبل آية سورة المؤمنين ( إذا متنا وكنا ترابا وعظاما ) فالجهة المنظور فيها هناك ( في سورة المؤمنين ) هي كون أنفسهم ترابا وعظاما والجهة المنظور فيها هنا في سورة النمل هي كون أنفسهم وكون آبائهم ترابا لا جزء هناك من بناهم ( جمع بنية ) على - أي باقيا - صورة نفسه ( أي على صورته التي كان عليها وهو حي ) . ولا شبهة أنها أدخل عندهم في تبعيد البعث فاستلزم زيادة الاعتناء بالقصد إلى ذكره فصيره هذا العارض أهم اه .
وحاصل الكلام أن كل آية حكت أسلوبا من مقالهم ( بل قالوا مثل ما قال الأولون قالوا أإذا متنا ) ( لقد وعدنا نحن وآباؤنا هذا ) .
وبعد فقد حصل في الاختلاف بين أسلوب الآيتين تفنن كما تقدم في المقدمة السابعة .
والأساطير : جمع أسطورة وهي القصة والحكاية . وتقدم الكلام على ذلك عند قوله تعالى ( وإذا قيل لهم ماذا أنزل ربكم قالوا أساطير الأولين ) في سورة النحل . والمعنى : ما هذا إلا كلام معاد قاله الأولون وسطروه وتلقفه من جاء بعدهم ولم يقع شيء منه .
( قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المجرمين [ 69 ] ) أمر الرسول A بأن يقول لهم هذه الكلمة ولذلك فصل فعل ( قل ) وتقدم نظيره في سورة الأنعام . والمناسبة في الموضعين هي الموعظة بحال المكذبين لأن إنكارهم البعث تكذيب للرسول وإجرام . والوعيد بأن يصيبهم ما أصابهم إلا أنها هنالك عطفت ب ( ثم انظروا ) وهنا بالفاء ( فانظروا ) وهما متئايلان . وذكر هنالك عاقبة المكذبين وذكر هنا عاقبة الجرمين : والمكذبون مجرمون . والاختلاف بين الحكايتين للتفنن كما قدمناه في المقدمة السابعة .
( ولا تحزن عليهم ولا تكن في ضيق مما يمكرون [ 70 ] ) كانت الرحمة غالبة على النبي A والشفقة على الأمة من خلاله فلما أنذر المكذبون بهذا الوعيد تحركت الشفقة في نفس الرسول E فربط الله على قلبه بهذا التشجيع أن لا يحزن عليهم إذا أصابهم ما أنذروا به . وكان من رحمته A حرصه على إقلاعهم عما هم عليه من تكذيبه والمكر به فألقى الله في روعه رباطة جاش بقوله ( ولا تكن في ضيق مما يمكرون ) .
والضيق : بفتح الضاد وكسرها قرأه الجمهور بالفتح وابن كثير بالكسر . وحقيقته : عدم كفاية المكان أو الوعاء لما يراد حلوله فيه وهو هنا مجاز في الحالة الحرجة التي تعرض للنفس عند كراهية شيء فيحس المرء في مجاري نفسه بمثل ضيق عرض لها . وإنما هو انضغاط في أعصاب صدره . وقد تقدم عند قوله ( ولا تك في ضيق مما يمكرون ) في آخر سورة النحل .
والظرفية مجازية أي لا نكن ملتبسا ومحوطا بشيء من الضيق بسبب مكرهم .
والمكر تقدم عند قوله تعالى ( ومكروا ومكر الله ) في سورة آل عمران . و ( ما ) مصدرية أي من مكرهم .
A E ( ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين [ 71 ] قل عسى أن يكون ردف لكم بعض الذي تستعجلون [ 72 ] ) عطف على ( وقال الذين كفروا إذا كنا ترابا ) . والتعبير هنا بالمضارع للدلالة على تجدد ذلك القول منهم أي لم يزالوا يقولون .
والمراد بالوعد ما أنذروا به من العقاب . والاستفهام عن زمانه وهو استفهام تهكم منهم بقرينة قوله ( إن كنتم صادقين ) .
وأمر الله نبيه بالجواب عن قولهم لأن هذا من علم الغيب الذي لا يعلمه إلا الله ومن أطلعه على شيء منه من عباده المصطفين