والداعي إلى الكناية بفلان إما قصد إخفاء اسمه خيفة عليه أو خيفة من أهلهم أو للجهل به أو لعدم الفائدة لذكره أو لقصد نوع من له اسم علم . وهذان الأخيران هما اللذان يجريان في هذه الآية إن حملت على إرادة خصوص عقبة وأبي أو حملت على إرادة كل مشرك له خليل صده عن اتباع الإسلام .
وإنما تمنى أن لا يكون اتخذه خليلا دون تمني أن يكون عصاه فيما سول له قصدا للاشمئزاز من خلته من أصلها إذ كان الإضلال من أحوالها .
وفيه إيماء إلى أن شان الخلة الثقة بالخليل وحمل مشورته على النصح فلا ينبغي أن يضع المرء خلته إلا حيث يوقن بالسلامة من إشارات السوء قال الله تعالى ( يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا ) فعلى من يريد اصطفاء خليل أن يسير سيرته في خويصته فإنه سيحمل من يخاله عل ما يسير به لنفسه وقد قال خالد بن زهير وهو ابن أخت أبي ذؤيب الهذلي : .
" فأول راض سنة من يسيرها وهذا عندي هو محمل قول النبي A : ( لو كنت متخذا خليلا غير ربي لاتخذت أبا بكر خليلا ) فإن مقام النبوءة يستدعي من الأخلاق ما هو فوق مكارم الأخلاق المتعارفة في الناس فلا يليق به إلا متابعة ما لله من الكمالات بقدر الطاقة ولهذا قالت عائشة : كان خلقه القرآن . وعلمنا بهذا أن أبا بكر أفضل الأمة مكارم أخلاق بعد النبي A لأن النبي جعله المخير لخلته لو كان متخذا خليلا غير الله .
وجملة ( لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني ) تعليلة لتمنيه أن لا يكون اتخذ فلانا خليلا بأنه قد صدر عن خلته أعظم خسران لخليله إذ أضله عن الحق بعد أن كاد يتمكن منه .
وقوله ( أضلني عن الذكر ) معناه سول لي الانصراف عن الحق . والضلال : إضاعة الطريق وخطؤه بحيث يسلك طريقا غير المقصود فيقع في غير المكان الذي أراده وإنما وقع في أرض العدو أو في مسبعة . ويستعار الضلال للحياد عن الحق والرشد إلى الباطل والسفه كما يستعار ضده وهو الهدى ( الذي هو إصابة الطريق ) لمعرفة الحق والصواب حتى تساوى المعنيان الحقيقان والمعنيان المجازيان لكثرة الاستعمال ولذلك سموا الدليل الذي يسلك بالركب الطريق المقصود هاديا .
والإضلال مستعار هنا للصرف عن الحق لمناسبة استعاره السبيل لهدى الرسول وليس مستعملا هنا في المعنى الذي غلب على الباطل بقرينة تعديته بحرف ( عن ) في قوله ( عن الذكر ) فإنه لو كان الإضلال هو تسويل الضلال لما احتاج إلى تعديته ولكن أريد هنا متابعة التمثيل السابق . ففي قوله ( أضلني ) مكنية تقتضي تشبيه الذكر بالسبيل الموصول إلى المنجى وإثبات الإضلال عنه تخييل كإثبات الأظفار للمنية فهذه نكت من بلاغة نظم الآية .
والذكر : هو القرآن أي نهاني عن التدبر فيه والاستماع له بعد أن قاربت فهمه .
والمجيء في قوله ( إذ جاءني ) مستعمل في إسماعه القرآن فكأن القرآن جاء حل عنده . ومنه قولهم : أتاني نبأ كذا قال النابغة : .
" أتاني أبيت اللعن أنك لمتني A E فإذا حمل الظالم في قوله ( ويوم يعض الظالم على يديه ) على معين وهو عقبة ابن أبي معيط فمعنى مجيء الذكر إياه أنه كان يجلس إلى النبي A ويأنس إليه حتى صرفه عن ذلك أبي بن خلف وحمله على عداوته وأذاته وإذا حمل الظالم على العموم فمجيء الذكر هو شيوع القرآن بينهم وإمكان استماعهم إياه . وإضلال خلانهم إياهم صرف كل واحد خليله عن ذلك وتعاون بعضهم على بعض في ذلك .
وقيل الذكر : كلمة الشهادة بناء على تخصيص الظالم بعقبة بن أبي معيط كما تقدم وتأتي في ذلك الوجوه المتقدمة ؛ فإن كلمة الشهادة لما كانت سبب النجاة مثلت بسبيل الرسول الهادي ومثل الصرف عنها بالإضلال عن السبيل .
و ( إذ ) ظرف للزمن الماضي أي بعد وقت جاءني فيه الذكر والإتيان بالظرف هنا دون أن يقال : بعد ما جاءني أو بعد أن جاءني للإشارة إلى شدة التمكن من الذكر لأنه قد استقر في زمن وتحقق ومنه قوله تعالى ( وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم ) أي تمكن هديه منهم