وعطف على بيوت أنفسهم بيوت آبائهم ولم يذكر بيوت أولادهم مع انهم أقرب إلى الآكلين من الآباء فهم أحق بأن يأكلوا من بيوتهم . قيل : لأن الأبناء كائنون مع الآباء في بيوتهم ولا يصح فقد كان الابن إذا تزوج بنى لنفسه بيتا كما في خبر عبد الله بن عمر . فالوجه أن بيوت الأبناء معلوم حكمها بالأولى من البقية لقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( أنت ومالك لأبيك ) .
وهؤلاء المعدودون في الآية بينهم من القربة أو الولاية أو الصداقة ما يعتاد بسببه التسامح بينهم في الحضور للأكل بدون دعوة لا يتحرج أحد منهم من ذلك غالبا .
و ( ما ) في قوله ( ماملكتم مفاتحه ) موصولة صادقة على المكان أو الطعام عطف على ( بيوت خالاتكم ) لا على ( أخوالكم ) ولهذا جيء ب ( ما ) الغالب استعمالها في غير العاقل .
وملك المفاتيح أريد به حفظها بقرينة إضافته إلى المفاتيح دون الدور أو الحوائط . والمفاتح : جمع مفتح وهو اسم آلة الفتح . ويقال فيها مفتاح ويجمع على مفاتيح .
وهذه رخصة للوكيل والمختزن للطعام وناطور الحائط ذي الثمر أن يأكل مل منهم ما تحت يده بدون إذن ولا يتجاوز شبع بطنه ذلك للعرف بأن ذلك كالإجازة فلذلك قال الفقهاء : إذا كان لواحد من هؤلاء أجرة على عمله لم يجز له الأكل مما تحت يده .
و ( صديق ) هنا المراد به الجنس الصادق بالجماعة بقرينة إضافته إلى ضمير جماعة المخاطبين وهو اسم تجوز فيه المطابقة لمن يجري عليه إن كان وصفا أو خبرا في الإفراد والتثنية والجمع والتذكير والتأنيث وهو الأصل والغالب في فصيح الاستعمال أن يلزم حالة واحدة قال تعالى ( فما لنا من شافعين ولا صديق حميم ) ومثله الخليط والقطين .
والصديق : فعيل بمعنى فاعل وهو الصادق في المودة . وقد جعل في مرتبة القرابة مما هو موقور في النفوس من محبة الصلة مع الأصدقاء . وسئل بعض الحكماء : أي الرجلين أحب إليك أخوك أم صديقك ؟ فقال : إنما أحب أخي إذا كان صديقي .
وأعيدت جملة ( ليس عليكم جناح ) تأكيدا للأولى في قوله ( ولا على أنفسكم ) إذ الجناح والحرج كالمترادفين . وحسن هذا التأكيد بعد ما بين الحال وصاحبها وهو واو الجماعة في قوله ( أن تأكلوا من بيوتكم ) ولأجل كونها تأكيدا فصلت بلا عطف .
والجميع : المجتمعون على أمر .
والأشتات : الموزعون فيما الشأن اجتماعهم فيه قال تعالى ( تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى ) .
والأشتات : جمع شت وهو مصدر شت إذا تفرق . وأما شتى فجمع شتيت .
والمعنى : لاجناح عليكم أن يأكل الواحد منكم مع جماعة جاءوا للأكل مثله : أو أن يأكل وحده متفرقا عن مشارك لئلا يحسب أحدهم أنه إن وجد من سبقه للأكل أن يترك الأكل حتى يخرج الذي سبقه أو أن يأكل الواحد منكم مع أهل البيت . أو أن يأكل وحده .
وتقدم قراءة ( بيوت ) بكسر الباء للجمهور وبضمها لورش وحفص عن عاصم عند قوله تعالى ( يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم ) في هذه السورة .
( فإذا دخلتم بيوتا فسلموا على أنفسكم تحية من عند الله مباركة طيبة كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تعقلون [ 61 ] ) تفريع على الإذن لهم في الأكل من هذه البيوت بأن ذكرهم بأدب الدخول المتقدم في قوله ( يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها ) لئلا يجعلوا القرابة والصداقة والمخالطة مبيحة لإسقاط الآداب فإن واجب المرء أن يلازم الآداب مع القريب والبعيد ولا يغرنه قول الناس : إذا استوى الحب سقط الأدب .
ومعنى ( فسلموا على أنفسكم ) فليسلم بعضكم على بعض كقوله ( ولا تقتلوا أنفسكم ) .
ولقد عكف قوم على ظاهر هذا اللفظ وأهملوا دقيقته فظنوا أن الداخل يسلم على نفسه إذا لم يجد أحدا وهذا بعيد من أغراض التكليف والآداب . وأما ما ورد في التشهد من قوله : السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين فذلك سلام بمعنى الدعاء بالسلامة جعله النبي صلى الله عليه وسلم لهم عوضا عما كانوا يقولون : السلام على الله السلام على النبي السلام على جبريل ومكائيل السلام على فلان وفلان . فقال لهم رسول الله : ( إن الله هو السلام إبطالا لقولهم : السلام على الله . ثم قال لهم : قولوا السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين فإنكم إذا قلتموها أصابت كل عبد الله صالح في السماء وفي الأرض )