مقتضى سياق السورة واتصال آي السورة وتتابعها في النزول أن تكون هذه الآيات متصلة النزول بالآيات التي قبلها فيكون موقع جملة ( هذان خصمان ) موقع الاستئناف البياني لأن قوله ( وكثير حق عليه العذاب ) يثير سؤال من يسأل عن بعض تفصيل صفة العذاب الذي حق على كثير من الناس الذين لم يسجدوا لله تعالى فجاءت هذه الجملة لتفصيل ذلك . فهي استئناف بياني . فاسم الإشارة المثنى مثير إلى ما يفيده قوله تعالى ( وكثير من الناس وكثير حق عليه العذاب ) من انقسام المذكورين إلى فريقين أهل توحيد وأهل شرك كما يقتضيه قوله ( وكثير من الناس وكثير حق عليه العذاب ) من كون أولئك فريقين : فريق يسجد لله تعالى وفريق يسجد لغيره . فالإشارة إلى ما يستفاد من الكلام بتنزيله منزلة ما يشاهده بالعين ومثلها كثير في الكلام .
والاختصام : افتعال من الخصومة . وهي الجدل والاختلاف بالقول يقال : خاصمه واختصما وهو من الأفعال المقتضية جانبين فلذلك لم يسمع منه فعل مجرد إلا إذا أريد منه معنى الغلب في الخصومة لأنه بذلك يصير فاعله واحدا . وتقدم قوله تعالى ( ولا تكن للخائنين خصيما ) في سورة النساء . واختصام فريقي المؤمنين وغيرهم معلوم عند السامعين قد ملأ الفضاء جلبته فالإخبار عن الفريقين بأنهما خصمان مسوق لغير إفادة الخبر بل تمهيدا للتفصيل في قوله ( فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نارا ) .
فالمراد من هذه الآية ما يعم جميع المؤمنين وجميع مخالفيهم في الدين .
ووقع في الصحيحين عن أبي ذر : أنه كان يقسم أن هذه الآية ( هذان خصمان اختصموا في ربهم ) نزلت في حمزة وصاحبيه علي ابن أبي طالب وعتبة بن الحارث الذين بارزوا يوم بدر شيبة ابن ربيعة . وعتبة بن ربيعة والوليد بن عتبة .
A E وفي صحيح البخاري عن علي بن أبي طالب قال : أنا أول من يجثو بين يدي الرحمان للخصومة يوم القيامة . قال قيس بن عبادة : وفيهم نزلت ( هذان خصمان اختصموا في ربهم ) . قال : هم الذين بارزوا يوم بدر : علي وحمزة وعبيدة وشيبة بن ربيعة وعتبة بن ربيعة والوليد بن عتبة . وليس في كلام علي أن الآية نزلت في يوم بدر ولكن ذلك مدرج من كلام قيس بن عبادة وعليه فهذه الآية مدنية فتكون ( هذان ) إشارة إلى فريقين حاضرين في أذهان المخاطبين فنزل حضور قصتهما العجيبة في الأذهان منزلة المشاهدة حتى أعيد عليها اسم الإشارة الموضوع للمشاهد وهو استعمال في كلام البلغاء . ومنه قول الأحنف بن قيس : " خرجت لأنصر هذا الرجل " يريد علي بن أبي طالب في قصة صفين .
والأظهر أن أبا ذر عنى بنزول الآية في هؤلاء أن أولئك النفر الستة هم أبرز مثال وأشهر فرد في هذا العموم . فعبر بالنزول وهو يريد أنهم ممن يقصد من معنى الآية . ومثل هذا كثير في كلام المتقدمين . والاختصام على الوجه الأول حقيقي وعلى الوجه الثاني أطلق الاختصام على المبارزة مجازا مرسلا لأن الاختصام في الدين هو سبب تلك المبارزة .
واسم الخصم يطلق على الواحد وعلى الجماعة إذا أتحدث خصومتهم كما في قوله تعالى ( وهل أتاك نبأ الخصم إذ تسوروا المحراب ) فلمراعاة تثنية اللفظ أتي باسم الإشارة الموضوع للمثنى ولمراعاة العدد أتي بضمير الجماعة في قوله تعالى ( اختصموا في ربهم ) .
ومعنى ( في ربهم ) في شأنه وصفاته فالكلام على حذف مضاف ظاهر . وقرأ الجمهور ( هاذان ) " بتخفيف النون " وقراه ابن كثير " بتشديد النون " وهما لغتان .
والتقطيع : مبالغة القطع وهو فصل بعض أجزاء شيء عن بقيته . والمراد : قطع شقة الثوب . وذلك أن الذي يريد اتخاذ قميص أو نحوه يقطع من شقة الثوب ما يكفي كما يريده . فصيغت صيغة الشدة في القطع للإشارة إلى السرعة في إعداد ذلك لهم فيجعل لهم ثياب من نار . والثياب من النار ثياب محرقة للجلود وذلك من شؤون الآخرة .
والحميم : الماء الشديد الحرارة .
والإصهار : الإذابة بالنار أو بحرارة الشمس يقال : أصهره وصهره .
وما في بطونهم : أمعاؤهم أي هو شديد في النفاذ إلى باطنهم .
والمقامع : جمع مقمعة " بكسر الميم " بصيغة اسم آله القمع . والقمع : الكف عن شيء بعنف . والمقمعة : السوط أي يضربون بسياط من حديد