والمقصود من التهكم التشنيع بهذا الفعل . فدل ذلك على أن المنهي عنه حرام لأنه فساد في خلق صاحبه وسوء في نيته وإهانة للناس بالإظهار الشفوق عليهم وإرهابهم بقوته . وعن عمر بن الخطاب : أنه رأى غلاما يتبختر في مشيته فقال له ( إن البخترة مشية تكره إلا في سبيل الله ) يعني لأنها يرهب بها العدو إظهار للقوة على أعداء الدين في الجهاد .
وإظهار اسم ( الأرض ) في قوله ( لن تخرق الأرض ) دون إضمار ليكون هذا الكلام مستقلا عن غيره جاريا مجرى المثل .
( كل ذلك كان سيئة عند ربك مكروها [ 38 ] ) A E تذييل للجمل المتقدمة ابتداء من قوله تعالى ( وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه ) باعتبار ما اشتملت عليه من التحذيرات والنواهي . فكل جملة فيها أمر هي مقتضية نهيا عن ضده وكل جملة فيها نهي هي مقتضية شيئا منهيا عنه فقوله ( ألا تعبدوا إلا إياه ) يقتضي عبادة مذمومة منهيا عنها وقوله ( وبالوالدين إحسانا ) يقتضي إساءة منهيا عنها وعلى هذا القياس .
وقرأ الجمهور ( سيئة ) " بفتح الهمزة بعد المثناة التحتية وبهاء تأنيث في آخره وهي ضد الحسنة .
فالذي وصف بالسيئة وبأنه مكروه لا يكون إلا منهيا عنه أو مأمورا بضده إذ لا يكون المأمور به مكروها للآمر به وبهذا يظهر للسامع معاد اسم الإشارة في قوله ( كل ذلك ) .
وإنما اعتبر ما في المذكورات من معاني النهي لأن الأهم هو الإقلاع عما يقتضيه جميعها من المفاسد بالصراحة أو بالالتزام لأن درء المفاسد أهم من جلب المصالح في الاعتبار وإن كانا متلازمين في مثل هذا .
وقوله ( عند ربك ) متعلق ب ( مكروها ) أي هو مذموم عند الله . وتقديم هذا الظرف على متعلقه للاهتمام بالظرف إذ هو مضاف لاسم الجلالة فزيادة ( عند ربك مكروها ) لتشنيع الحالة أي مكروها فعله من فاعله . وفيه تعريض بأن فاعله مكروه عند الله .
وقرأ ابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي وخلف ( كان سيئة ) " بضم الهمزة وبهاء ضمير في آخره " . والضمير عائد إلى ( كل ذلك ) . و ( كل ذلك ) هو نفس السيء فإضافة ( سيء ) إلى ضميره إضافة بيانية تفيد قوة صفة السيء حتى كأنه شيئان يضاف أحدهما إلى الآخر . وهذه نكتة الإضافة البيانية كلما وقعت أي كان ما نهى عنه من ذلك مكروها عند الله .
وينبغي أن يكون ( مكروها ) خبرا ثانيا ل ( كان ) لأنه المناسب للقراءتين .
( ذلك مما أوحى إليك ربك من الحكمة ) عدل عن مخاطبة الأمة بضمائر جمع المخاطبين وضمائر المخاطب غير المعين إلى خطاب النبي A ردا إلى ما سبق في أول هذه الآيات من قوله ( وقضى ربك ) الخ . وهو تذييل معترض بين جمل النهي . والإشارة إلى جميع ما ذكر من الأوامر والنواهي صراحة من قوله ( وقضى ربك ) .
وفي هذا التذييل تنبيه على أن ما اشتملت عليه الآيات السبع عشرة هو من الحكمة تحريضا على اتباع ما فيها وأنه خير كثير . وفيه امتنان على النبي A بأن الله أوحى إليه فذلك وجه قوله ( مما أوحى إليك ) تنبيها على أن مثل ذلك لا يصل إليه الأميون لولا الوحي من الله وأنه علمه ما لم يكن يعلم وأمره أن يعلمه الناس .
والحكمة : معرفة الحقائق على ما هي عليه دون غلط ولا اشتباه وتطلق على الكلام الدال عليها وتقدم في قوله تعالى ( يوتي الحكمة من يشاء ) .
( ولا تجعل مع الله إلها آخر فتلقى في جهنم ملوما مدحورا [ 39 ] ) عطف على جمل النهي المتقدمة وهذا تأكيد لمضمون جملة ( ألا تعبدوا إلا إياه ) أعيد لقصد الاهتمام بأمر التوحيد بتكرير مضمونه وبما رتب عليه من الوعيد بان يجازى بالخلود في النار مهانا .
والخطاب لغير معين على طريقة المنهيات قبله وبقرينة قوله عقبه ( أفأصفاكم ربكم بالبنين ) الآية .
والإلقاء : رمي الجسم من أعلى إلى أسفل وهو يؤذن بالإهانة .
والملوم : الذي ينكر عليه ما فعله .
والمدحور : المطرود أي المطرود من جانب الله أي مغضوب عليه ومبعد من رحمته في الآخرة .
و ( تلقى ) منصوب في جواب النهي بفاء السببية والتسبب على المنهي عنه أي فيتسبب على جعلك مع الله إلها آخر إلقاؤك في جهنم