والسرف : الزيادة على ما يقتضيه الحق وليس خاصا بالمال كما يفهم من كلام أهل اللغة . فالسرف في القتل هو أن يقتل غير القاتل أما مع القاتل وهو واضح كما قال المهلهل في الأخذ بثأر أخيه كليب : .
كل قتيل في كليب غرة ... حتى يعم القتل آل مرة A E وأما قتل غير القاتل عند العجز عن قتل القاتل فقد كانوا يقتنعون عن العجز عن القاتل بقتل رجل من قبيلة القاتل . وكانوا يتكايلون الدماء أي يجعلون كيلها متفاوتا بحسب شرف القتيل كما قالت كبشة بنت معد يكرب : .
فيقتل جبرا بامرئ لم يكن له ... بواء ولكن لا تكايل بالدم البواء : الكفء في الدم . تريد فيقتل القاتل وهو المسمى جبرا وإن لم يكن كفؤا لعبد الله أخيها ولكن الإسلام أبطل التكايل بالدم .
وضمير ( يسرف ) بياء الغيبة في قراءة الجمهور يعود إلى الولي مظنة السرف في القتل بحسب ما تعودوه . وقرأ حمزة والكسائي وخلف " بتاء الخطاب " أي خطاب للولي .
وجملة ( إنه كان منصورا ) استئناف أي أن ولي المقتول كان منصورا بحكم القود فلماذا يتجاوز الحد من النصر إلى الاعتداء والظلم بالسرف في القتل . حذرهم الله من السرف في القتل وذكرهم بأنه جعل للولي سلطانا على القاتل .
وقد أكد ذلك بحرف التوكيد وبإقحام ( كان ) الدال على أن الخير مستقر الثوبت . وفيه إيماء إلى أن من تجاوز حد العدل إلى السرف في القتل لا ينصر .
ومن نكت القرآن وبلاغته وإعجازه الخفي الإتيان بلفظ ( سلطان ) هنا الظاهر في معنى المصدر أي السلطة والحق والصالح لإرادة إقامة السلطان وهو الإمام الذي يأخذ الحقوق من المعتدين إلى المعتدى عليهم حين تنتظم جامعة المسلمين بعد الهجرة . ففيه إيماء إلى أن الله سيجعل للمسلمين دولة دائمة ولم يكن للمسلمين يوم نزول الآية سلطان .
وهذا الحكم منوط بالقتل الحادث بين الأشخاص وهو قتل العدوان فأما القتل الذي هو لحماية البيضة والذب عن الحوزة وهو الجهاد فله أحكام أخرى . وبهذا تعلم التوجيه للإتيان بضمير جماعة المخاطبين على ما تقدم في قوله تعالى ( ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق ) وما عطف عليه من الضمائر .
واعلم أن جملة ( ومن قتل مظلوما ) معطوفة على جملة ( ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ) عطف قصة على قصة اهتماما بهذا الحكم بحيث جعل مستقلا فعطف على حكم آخر وإلا فمقتضى الظاهر أن تكون مفصولة إما استئنافا لبيان حكم حالة تكثر وإما بدل بعض من جملة ( إلا بالحق ) .
و ( من ) موصولة مبتدأ مراد بها العموم أي وكل الذي يقتل مظلوما . وأدخلت الفاء في جملة خبر المبتدأ لأن الموصول يعامل معاملة الشرط إذا قصد به العموم والربط بينه وبين خبره .
وقوله تعالى : ( فقد جعلنا لوليه سلطانا ) هو في المعنى مقدمة للخبر بتعجيل ما يطمئن نفس ولي المقتول . والمقصود من الخبر التفريع بقوله تعالى ( فلا يسرف في القتل ) فكان تقديم قوله تعالى ( فقد جعلنا لوليه سلطانا ) تمهيدا لقبول النهي عن السرف في القتل لأنه إذا كان قد جعل له سلطانا فقد صار الحكم بيده وكفاه ذلك شفاء لغليله .
ومن دلالة الإشارة أن قوله ( فقد جعلنا لوليه سلطانا ) إشارة إلى إبطال تولي ولي المقتول قتل القاتل دون حكم من السلطان لأن ذلك مظنة للخطأ في تحقيق القاتل وذريعة لحدوث قتل آخر بالتدافع بين أولياء المقتول وأهل القاتل ويجر إلى الإسراف في القتل الذي ما حدث في زمان الجاهلية إلا بمثل هذه الذريعة فضمير ( فلا يسرف ) عائد إلى ( وليه ) .
وجملة ( إنه كان منصورا ) تعليل للكف عن الإسراف في القتل . والضمير عائد إلى ( وليه ) .
و ( في ) من قوله ( في القتل ) للظرفية المجازية لأن الإسراف يجول في كسب ومال ونحوه فكأنه مظروف في جملة ما جال فيه .
ولما رأى بعض المفسرين أن الحكم الذي تضمنته هذه الآية لا يناسب إلا أحوال المسلمين الخالصين استبعد أن يكون الآية نازلة بمكة فزعم أنها مدنية وقد بينا وجه مناسبتها وأبطلنا أن تكون مكية في صدر هذه السورة .
( ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده )