والنفس هنا الذات كقوله تعالى ( ولا تقتلوا أنفسكم ) وقوله ( أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ) وقوله ( وما تدري نفس بأي أرض تموت ) . وتطلق النفس على الروح الإنساني وهي النفس الناطقة .
والقتل : الأمانة بفعل فاعل أي إزالة الحياة عن الذات .
A E وقوله ( حرم الله ) حذف العائد من الصلة إلى الموصول لأنه ضمير منصوب بفعل الصلة وحذفه كثير . والتقدير : حرمها الله . وعلق التحريم بعين النفس والمقصود تحريم قتلها .
ووصفت النفس بالموصول والصلة بمقتضى كون تحريم قتلها مشهورا من قبل هذا النهي إما لأنه تقرر من قبل بآيات أخرى نزلت قبل هذه الآية وقبل آية الأنعام حكما مفرقا وجمعت الأحكام في هذه الآية وآية الأنعام وإما لتنزيل الصلة منزلة المعلوم لأنها مما لا ينبغي جهله فيكون تعريضا بأهل الجاهلية الذين كانوا يستخفون بقتل النفس بأنهم جهلوا ما كان عليهم أن يعلموه تنويها بهذا الحكم . وذلك أن النظر في خلق هذا العالم يهدي العقول إلى أن الله أوجد الإنسان ليعمر به الأرض كما قال تعالى ( هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها ) فالإقدام على إتلاف نفس هدم لما أراد الله بناءه على أنه قد تواتر وشاع بين الأمم في سائر العصور والشرائع من عهد آدم صون النفوس من الاعتداء عليها بالإعدام فبذلك وصفت بأنها التي حرم الله أي عرفت بمضمون هذه الصلة .
واستثنى من عموم النهي القتل المصاحب للحق أي الذي يشهد الحق أن نفسا معينة استحقت الإعدام من المجتمع وهذا مجمل يفسره في وقت النزول ما هو معروف من أحكام القود على وجه الإجمال .
ولما كانت هذه الآيات سيقت مساق التشريع للأمة وإشعارا بأن سيكون في الأمة قضاء وحكم فيما يستقبل أبقي مجملا حتى تفسره الأحكام المستأنفة من بعد مثل آية ( وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ ) إلى قوله ( وأعد له عذابا عظيما ) .
فالباء في قوله ( بالحق ) للمصاحبة وهي متعلقة بمعنى الاستثناء أي إلا قتلا ملابسا للحق .
والحق بمعنى العدل أو بمعنى الاستحقاق أي حق القتل كما في الحديث : " فإذا قالوها ( أي لا إله إلا الله ) عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها " .
ولما كان الخطاب بالنهي لجميع الأمة كما دل عليه الفعل في سياق النهي كان تعييم الحق المبيح لقتل النفس موكولا إلى من لهم تعيين الحقوق .
ولما كانت هذه الآية نازلة قبل الهجرة فتعيين الحق يجري على ما هو متعارف بين القبائل وهو ما سيذكر في قوله تعالى عقب هذا ( ومن قتل مظلوما ) الآية .
وحين كان المسلمون وقت نزول هذه الآية مختلطين في مكة بالمشركين ولم يكن المشركون أهلا للثقة بهم في الطاعة للشرائع العادلة وكان قد يعرض أن يعتدي أحد المشركين على أحد المسلمين بالقتل ظلما أمر الله المسلمين بأن المظلوم لا يظلم فقال ( ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا ) أي قد جعل لولي المقتول تصرفا في القاتل بالقود أو الدية .
والسلطان : مصدر من السلطة كالغفران والمراد به ما استقر في عوائدهم من حكم القود .
وكونه حقا لولي القتيل يأخذ به أو يعفو أو يأخذ الدية ألهمهم الله إليه لئلا ينزوا أولياء القتيل على القاتل أو ذويه ليقتلوا منهم من لم تجن يداه قتلا . وهكذا تستمر الترات بين أخذ ورد فقد كان ذلك من عوائدهم أيضا .
فالمراد بالجعل ما أرشد الله إليه أهل الجاهلية من عادة القود .
والقود من جملة المستثنى بقوله ( إلا بالحق ) لأن القود من القاتل الظالم هو قتل للنفس بالحق . وهذه حالة خصها الله بالذكر لكثرة وقوع العدوان في بقية أيام الجاهلية فأمر الله المسلمين بقبول القود . وهذا مبدأ صلاح عظيم في المجتمع الإسلامي وهو حمل أهله على اتباع الحق والعدل حتى لا يكون الفساد من طرفين فيتفاقم أمره وتلك عادة جاهلية . قال الشميذر الحارثي : .
فلسنا كمن كنتم تصيبون سلة ... فنقبل ضيما أو نحكم قاضيا .
ولكن حكم السيف فينا مسلط ... فنرضى إذا ما أصبح السيف راضيا فنهى الله المسلمين عن أن يكونوا مثالا سيئا يقابلوا الظلم بالظلم كعادة الجاهلية بل عليهم أن يتبعوا سبيل الإنصاف فيقبلوا القود ولذلك قال ( فلا يسرف في القتل )