ووجه تعدد فاعل ( يبلغن ) مظهرا دون جعله بضمير التثنية بأن يقال : إما يبلغان عندك الكبر الاهتمام بتخصيص كل حالة من أحوال الوالدين بالذكر ولم يستغن بإحدى الحالتين عن الأخرى لأن لكل حالة بواعث على التفريط في واجب الإحسان إليهما فقد تكون حالة اجتماعهما عند الابن تستوجب الاحتمال منهما لأجل مراعاة أحدهما الذي الابن أشد حبا له دون ما لو كان أحدهما منفردا عنده بدون الآخر الذي ميله إليه أشد فالاحتياج إلى ذكر أحدهما في هذه الصورة للتنبيه على وجوب المحافظة على الإحسان له . وقد تكون حالة انفراد أحد الأبوين عند الابن أخف كلفة عليه من حالة اجتماعهما فالاحتياج إلى ( أو كلاهما ) في هذه الصورة للتحذير من اعتذار الابن لنفسه عن التقصير بأن حالة اجتماع الأبوين أحرج عليه فلأجل ذلك ذكرت الحالتان وأجري الحكم عليهما على السواء فكانت جملة ( فلا تقل لهما أف ) بتمامها جوابا ل ( إما ) .
وأكد فعل الشرط بنون التوكيد لتحقيق الربط بين مضمون الجواب ومضمون الشرط في الوجود . وقرأ الجمهور ( إما يبلغن ) على أن ( أحدهما ) فاعل ( يبلغن ) فلا تلحق الفعل علامة لأن فاعله اسم ظاهر .
وقرأ حمزة والكسائي وخلف ( يبلغان ) بألف التثنية ونون مشددة والضمير فاعل عائد إلى الوالدين في قوله ( وبالوالدين إحسانا ) فيكون ( أحدهما أو كلاهما ) بدلا من ألف المثنى تنبيها على أنه ليس الحكم لاجتماعهما فقط بل هو للحالتين على التوزيع .
والخطاب ب ( عندك ) لكل من يصلح لسماع الكلام فيعم كل مخاطب بقرينة سبق قوله ( ألا تعبدوا إلا إياه ) وقوله اللاحق ( ربكم أعلم بما نفوسكم ) .
( أف ) اسم فعل مضارع معناه أتضخر . وفيه كثيرة أشهرها كلها ضم الهمزة وتشديد الفاء والخلاف في حركة الفاء فقرأ نافع وأبو جعفر وحفص عن عاصم " بكسر الفاء منونة " . وقرأ ابن كثير وابن عامر ويعقوب " بفتح الفاء غير منونة " . وقرأ الباقون " بكسر الفاء غير منونة .
وليس المقصود من النهي عن أن يقول لهما ( أف ) خاصة وإنما المقصود النهي عن الأذى الذي أقله الأذى باللسان بأوجز كلمة وبأنها غير دالة على أكثر من حصول الضجر لقائها دون شتم أو ذم فيفهم منه النهي مما هو أشد أذى بطريق فحوى الخطاب بالأولى .
ثم عطف عليه النهي عن نهرهما لئلا يحسب أن ذلك تأديب لصلاحهما وليس بالأذى . والنهر : الزجر يقال : نهره وانتهزه .
ثم أمر بإكرام القول لهما . والكريم من كل شيء : الرفيع في نوعه . وتقدم عند قوله تعالى ( ومغفرة ورزق كريم ) في سورة الأنفال .
وبهذا الأمر انقطع العذر بحيث إذا رأى الولد أن ينصح لأحد أبويه أو أن يحذره مما قد يضر به أدى إليه ذلك بقول لين حسن الوقع .
ثم ارتقى في الوصاية بالوالدين إلى أمر الولد بالتواضع لهما تواضعا يبلغ حد الذل لهما لإزالة وحشة نفوسهما إن صارا في حاجة إلى معونة الولد لأن الأبوين يبغيان أن يكونا هما النافعين لولدهما . والقصد من ذلك التخلق بشكره على إنعامهما السابقة عليه .
وصيغ التعبير عن التواضع بتصويره في هيئة تذلل الطائر عندما يعتريه خوف من طائر أشد منه إذ يخفض جناحه متذللا . ففي التركيب استعارة مكنية والجناح تخييل بمنزلة الأظفار للمنية في قول أبي ذؤيب : .
وإذا المنية أنثبت أظفارها ... ألفيت كل تميمة لا تنفع وبمنزلة تخييل اليد للشمال " بفتح الشين " والزمام للقرة في قول لبيد : .
وغداة ريح قد كشفت وقرة ... إذ أصبحت بيد الشمال زمامها . ومجموع هذه الاستعارة تمثيل . وقد تقدم في قوله ( واخفض جناحك للمؤمنين ) في سورة الحجر .
A E والتعريف في ( الرحمة ) عوض عن المضاف إليه أي من رحمتك إياهما . و ( من ) ابتدائية أي الذل الناشئ عن الرحمة لا عن الخوف أو عن المداهنة . والمقصود اعتياد النفس على التخلق بالرحمة باستحضار وجوب معاملته إياهما بها حتى يصير له خلقا كما قيل : .
" إن التخلق يأتي دونه الخلق وهذه أحكام عامة في الوالدين وإن كانا مشركين ولا يطاعان في معصية ولا كفر كما في آية سورة العنكبوت