وافتتحت هذه الأحكام والوصايا بفعل القضاء اهتماما به وأنه مما أمر الله به أمرا جازما وحكما لازما وليس هو بمعنى التقدير كقوله ( وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب ) لظهور أن المذكورات هنا مما يقع ولا يقع .
و ( أن ) يجوز أن تكون تفسيرية لما في ( قضى ) من معنى القول . ويجوز أن تكون مصدرية مجرورة بباء جر مقدرة أي قضى بأن لا تعبدوا . وابتدئ هذا التشريع بذكر أصل التشريعة كلها وهو توحيد الله فلذلك تمهيد لما سيذكر بعده من الأحكام .
وجيء بخطاب الجماعة في قوله ( ألا تعبدوا إلا إياه ) لأن النهي يتعلق بجميع الناس وهو تعريض بالمشركين .
والخطاب في قوله ( ربك ) للنبي A كالذي في قوله قبل ( من عطاء ربك ) والقرينة ظاهرة . ويجوز أن يكون لغير معين فيعم الأمة والمآل واحد .
وابتدئ التشريع بالنهي عن عبادة غير الله لأن ذلك هو أصل الإصلاح لأن إصلاح التفكير مقدم على إصلاح العمل إذ لا يشاق العقل إلى طلب الصالحات إلا إذ كان صالحا . وفي الحديث : " ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب " . وقد فصلت ذلك في كتابي المسمى " أصول النظام الاجتماعي في الإسلام " .
( وبالوالدين إحسانا إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما [ 23 ] واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا [ 24 ] ) هذا أصل ثان من أصول الشريعة وهو بر الوالدين .
وانتصب ( إحسانا ) على المفعولية المطلقة مصدر نائبا عن فعله . والتقدير : وأحسنوا إحسانا بالوالدين كما يقتضيه العطف على ( ألا تعبدوا إلا إياه ) أي وقضى إحسانا بالوالدين .
( وبالوالدين ) متعلق بقوله ( إحسانا ) والباء فيه للتعدية يقال : أحسن بفلان كما يقال : أحسن إليه وقد تقدم قوله تعالى ( وقد أحسن بي ) في سورة يوسف . وتقديمه على متعلقة للاهتمام به والتعريف في ( الوالدين ) للاستغراق باعتبار والدي كل مكلف ممن شملهم الجمع في ( ألا تعبدوا ) .
وعطف الأمر بالإحسان إلى الوالدين على ما هو في معنى الأمر بعبادة الله لأن الله هو الخالق فاستحق العبادة لأنه أوجد الناس . ولما جعل الله الأبوين مظهر إيجاد الناس أمر بالإحسان إليهما فالخالق مستحق العبادة لغناه عن الإحسان ولأنها أعظم الشكر على أعظم منة وسبب الوجود دون ذلك فهو يستحق الإحسان لا العبادة لأنه محتاج إلى الإحسان دون العبادة ولأنه ليس بموجد حقيقي ولأن الله جبل الوالدين على الشفقة على ولدهما فأمر الولد بمجازاة ذلك بالإحسان إلى أبويه كما سيأتي ( وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا ) .
وشمل الإحسان كل ما يصدق فيه هذا الجنس من الأقوال والأفعال والبذل والمواساة .
وجملة ( إما يبلغن ) بيان لجملة ( إحسانا ) . و ( إما ) مركبة من " إن " الشرطية و ( ما ) الزائدة المهيئة لنون الوكيد وحقها أن تكتب بنون بعد الهمزة وبعدها ( ما ) ولكنهم راعوا حالة النطق بها مدغمة فرسموها كذلك في المصاحف وتبعها رسم الناس غالبا أي إن يبلغ أحد الوالدين أو كلاهما حد الكبر وهما عندك أي في كفالتك فوطئ لهما خلقك ولين جانبك .
A E والخطاب لغير معين فيعم كل مخاطب بقرينة العطف على ( ألا تعبدوا إلا إياه ) وليس خطابا للنبي A إذ لم يكن له أبوان يومئذ . وإيثار ضمير المفرد هنا دون ضمير الجمع لأنه خطاب يختص بمن له أبوان من بين الجماعة المخاطبين بقوله ( ألا تعبدوا إلا إياه ) فكان الإفراد أنسب به وإن كان الإفراد والجمع سواء في المقصود لأن خطاب غير المعين يساوي خطاب الجمع .
وخص هذه الحالة بالبيان لأنها مظنة انتفاء الإحسان بما يلقى الولد من أبيه وأمه من مشقة القيام بشؤونهما ومن سوء الخلق منهما