وضمير ( كما دخلوه ) عائد إلى العباد المذكور في ذكر المرة الأولى بقرينة اقتضاء المعنى مراجع الضمائر كقوله تعالى ( وأثاروا الأرض وعمروها أكثر مما عمروها ) وقول عباس بم مرداس : .
عدنا ولو لا نحن أحدق جمعهم ... بالمسلمين وأحرزوا ما جمعوا فالسياق دال على معاد ( أحرزوا ) ومعاد ( جمعوا ) .
وسوء الوجوه : جعل المساءة عليها أي تسليط أسباب المساءة والكآبة عليكم حتى تبدو على وجوهكم لأن ما يخالج الإنسان من غم وحزن أو فرح ومسرة يظهر أثره على الوجه دون غيره من الجسد كقول الأعشى : .
" وأقدم إذا ما أعين الناس تفرق أراد إذا ما تفرق الناس وتظهر علامات الفرق في أعينهم .
ودخول المسجد دخول غزو بقرينة التشبيه في قوله ( كما دخلوه أول مرة ) المراد منه قوله ( فجاسوا خلال الديار ) .
والتتبير : الإهلاك والإفساد .
و ( ما علوا ) موصول هو مفعول ( يتبروا ) وعائد الصلة محذوف لأنه متصل منصوب والتقدير : ما علوه والعلو علو مجازي وهو الاستيلاء والغلب .
ولم يعدهم الله في هذه المرة إلا بتوقع الرحمة دون رد الكرة فكان إيماء إلى أنهم لا ملك لهم بعد هذه المرة . وبهذا تبين أن المشار إليه بهذه المرة الآخرة هو ما اقترفه اليهود من المفاسد والتمرد وقتل الأنبياء والصالحين والاعتداء على عيسى وأتباعه وقد أنذرهم النبي ملاخي في الإصحاحين الثالث والرابع من كتابه وأنذرهم زكرياء ويحيى وعيسى فلم يرعوا فضربهم الله الضربة القاضية بيد الرومان .
A E وبيان ذلك : أن اليهود بعد أن عادوا إلى أورشليم وجددوا ملكهم ومسجدهم في زمن " داريوس " وأطلق لهم التصرف في بلادهم التي غلبهم عليها البابليون وكانوا تحت نفوذ مملكة فارس فمكثوا على ذلك مائتي سنة من سنة 530 إلى سنة 330 قبل المسيح ثم أخذ ملكهم في الانحلال بهجوم البطالسة ملوك مصر على أورشليم فصاروا تحت سلطانهم إلى سنة 166 قبل المسيح إذ قام قائد من إسرائيل اسمه " ميثيا " وكان من اللاويين فانتصر لليهود وتولى الأمر عليهم وتسلسل الملك بعده في أبنائه في زمن مليء بالفتن إلى سنة أربعين قبل المسيح . دخلت المملكة تحت نفوذ الرومانيين وأقاموا عليها أمراء من اليهود كان أشهرهم " هيرودس " ثم تمردوا للخروج على الرومانيين فأرسل قيصر رومية القائد " سيسيانوس " مع ابنه القائد " طيطوس " بالجيوش في حدود سنة أربعين بعد المسيح فخربت أورشليم واحترق المسجد وأسر " طيطوس " نيفا وتسعين ألفا من اليهود وقتل من اليهود في تلك الحروب نحو ألف ألف ثم استعادوا المدينة وبقي منهم شرذمة قليلة بها إلى أن وافاهم الأمبراطور الروماني " أدريانوي " فهدمها وخربها ورمى قناطير الملح على أرضها كيلا تعود صالحة للزراعة وذلك سنة 135 للمسيح . وبذلك انتهى أمر اليهود وانقرض وتفرقوا في الأرض ولم تخرج أورشليم من حكم الرومان إلا حين فتحتها المسلمون في زمن عمر بن الخطاب سنة 16 صلحا مع أهلها وهي تسمى يومئذ " أيلياء " .
وقوله ( وإن عدتم عدنا ) يجوز أن تكون الواو عاطفة على جملة ( عسى ربكم أن يرحمكم ) عطف الترهيب على الترغيب .
ويجوز أن تكون معترضة والواو اعتراضية . والمعنى : بعد أن يرحمكم ربكم ويؤمنكم في البلاد التي تلجأون إليها إن عدتم إلى الإفساد عدنا إلى عقابكم أي عدنا لمثل ما تقدم من عقاب الدنيا .
وجملة ( وجعلنا جهنم للكافرين حصيرا ) عطف على جملة ( عسى ربكم أن يرحمكم ) لإفادة أن ما ذكر قبله من عقاب إنما هو عقاب دنيوي وأن وراءه عقاب الآخرة .
وفيه معنى التذييل لأن التعريف في ( الكافرين ) يعم المخاطبين وغيرهم . ويومئ هذا إلى أن عقابهم في الدنيا ليس مقصورا على ذنوب الكفر بل هو منوط بالإفساد في الأرض وتعدي حدود الشريعة . وأما الكفر بتكذيب الرسل فقد حصل في المرة الآخرة فإنهم كذبوا عيسى وأما في المرة الأولى فلم تأتهم رسل ولكنهم قتلوا الأنبياء مثل أشعياء وأرمياء وقتل الأنبياء كفر .
والحصير : المكان الذي يحصر فيه فلا يستطاع الخروج منه فهو إما فعيل بمعنى فاعل وإما بمعنى مفعول على تقدير متعلق أي محصور فيه