والظاهر أن امتناع أبي علي من ذلك في هذه الآية أنه يرى جواز أن تكون ( أغويناهم ) تأكيدا ل ( لأغوينا ) وقوله ( كما غوينا ) استئنافا بيانيا لأن اسم الموصول مسند إلى مبتدأ وهو اسم الإشارة فتم الكلام بذلك بخلاف بيت الأحوص ومثال ابن جني : الذي ضربته ضربته فيرجع امتناع أبي علي إلى أن ما أخذه ابن جني غير متعين في الآية تعينه في بيت الأحوص .
وأسلوب إعادة الفعل عند إرادة تعلق شيء به أسلوب عربي فصيح يقصد به الاهتمام بذلك الفعل . وقد تكرر في القرآن قال تعالى ( وإذا بطشتم بطشتم جبارين ) وقال ( وإذا مروا باللغو مروا كراما ) .
وقوله ( أحسنتم أحسنتم لأنفسكم ) جاء على طيقة التجريد بأن جعلت نفس المحسن كذات يحسن لها . فاللام لتعدية فعل ( أحسنتم ) يقال : أحسنت لفلان .
وكذلك قوله ( وإن أسأتم فلها ) . فقوله ( فلها ) متعلق بفعل محذوف بعد فار الجواب تقديره : أسأتم لها . وليس المجرور بظرف مستقر خبرا عن مبتدأ محذوف يدل عليه فعل ( أسأتم ) لأنه لو كان كذلك لقال : فعليها كقوله في سورة فصلت ( من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها ) .
ووجه المخالفة بين أسلوب الآيتين أن آية فصلت ليس فيها تجريد إذ التقدير فيها : فعمله لنفسه وإساءته عليها فلما كان المقدر اسما كان المجرور بعده مستقرا غير حرف تعدية . فجرى على ما يقتضيه الإخبار من كون الشيء المخبر عنه نافعا فيخبر عنه بمجرور باللام أو ضارا يخبر عنه بمجرور ب ( إلى ) وأما آية الإسراء ففعل ( أحسنتم وأسأتم ) الواقعان في الجوابين مقتضيان التجريد فجاءا على أصل تعديتهما باللام لا لقصد نفع ولا ضر .
( فإذا جاء وعد الآخرة ليسؤا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة وليتبروا ما علوا تتبيرا [ 7 ] عسى ربكم أن يرحمكم وإن عدتم عدنا وجعلنا جهنم للكافرين حصيرا [ 8 ] ) تفريع على قوله ( وإن أسأتم فلها ) إذ تقدير الكلام فإذا أسأتم وجاء وعد المرة الآخرة .
وقد حصل بهذا التفريع إيجاز بديع قضاء لحق التقسيم الأول في قوله ( فإذا جاء وعد أولاهما ) ولحق إفادة ترتب مجيء وعد الآخرة على الإساءة ولو عطف بالواو كما هو مقتضى ظاهر التقسيم إلى مرتين فاتت إفادة الترتب والتفرع .
و ( الآخرة ) صفة لمحذوف دل عليه قوله ( مرتين ) . أي وعد المرة الآخرة .
وهذا الكلام من بقية ما قضي في الكتاب بدليل تفريعه بالفاء .
والآخرة ضد الأولى .
A E ولامات " ليسوءوا وليدخلوا وليتبروا " للتعليل وليست للأمر لاتفاق القراءات المشهورة على كسر اللامين الثاني والثالث ولو كانا لامي أمر لكانا ساكنين بعد واو العطف فيتعين أن اللام الأول لام أمر لا لام جر . والتقدير : فإذا جاء وعد الآخرة بعثنا عبادا لنا ليسوءوا وجوهكم الخ .
وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وحفص وأبو جعفر ويعقوب ( ليسوءوا ) بضمير الجمع مثل أخواته الأفعال الأربعة . والضمائر راجعة إلى محذوف دل عليه لام التعليل في قوله ( ليسوءوا ) إذ هو متعلق بما دل عليه قوله في ( وعد أولاهما بعثنا عليكم عبادا لنا ) فالتقدير : فإذا جاء وعد الآخرة بعثنا عليكم عبادا لنا ليسوءوا وجوهكم . وليست عائدة إلى قوله ( عبادا لنا ) المصرح به في قوله ( فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد ) . لأن الذين أساءوا ودخلوا المسجد هذه المرة أمة غير الذين جاسوا خلال الديار حسب شهادة التاريخ وأقوال المفسرين كما سيأتي .
وقرأ ابن عامر وحمزة وأبو بكر عن عاصم وخلف ( ليسوء ) بالإفراد والضمير لله تعالى . وقرأ الكسائي ( لنسوء ) بنون العظمة . وتوجيه هاتين القراءتين من جهة موافقة رسم المصحف أن الهمزة المفتوحة بعد الواو قد ترسم بصورة ألف فالرسم يسمح بقراءة واو الجماعة على أن يكون الألف ألف الفرق وبقراءتي الإفراد على أن الألف علامة الهمزة .
وضميرا ( ليسوءوا وليدخلوا ) عائدان إلى ( عبادا لنا ) باعتبار لفظه لا باعتبار ما صدق المعاد على نحو قولهم : عندي درهم ونصفه أي نصف صاحب اسم درهم وذلك تعويل على القرينة لاقتضاء السياق بعد الزمن بين المرتين : فكان هذا الإضمار من الإيجاز