والمراد هنا أمة واحدة في الدين . والسياق يدل على أن المراد أنها واحدة في الدين الحق وهو التوحيد لأن الحق هو الذي يمكن اتفاق البشر عليه لأنه ناشئ عن سلامة الاعتقاد من الضلال والتحريف . والإنسان لما أنشئ على فطرة كاملة بعيدة عن التكلف . وإنما يتصور ذلك في معرفة الله تعالى دون الأعمال لأنها قد تختلف باختلاف الحاجات فإذا جاز أن يحدث في البشر الضلال والخطأ فلا يكون الضلال عاما على عقولهم فتعين أن الناس في معرفة الله تعالى كانوا أمة واحدة متفقين على التوحيد لأن الله لما فطر الإنسان فطره على عقل سليم موافق للواقع ووضع في عقله الشعور بخالق وبأنه واحد وضعا جبليا كما وضع الإلهامات في أصناف الحيوان . وتأيد ذلك بالوحي لأبي البشر وهو آدم عليه السلام .
ثم إن البشر أدخلوا على عقولهم الاختلاف البعيد عن الحق بسبب الاختلاف الباطل والتخيل والأوهام بالأقيسة الفاسدة . وهذا مما يدخل في معنى قوله ( لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ثم رددناه أسفل سافلين الا الذين آمنوا وعملوا الصالحات ) فتعين أن المراد في هذه الآية بكون الناس أمة واحدة الوحدة في الحق وأن المقصود مدح تلك الحالة لأن المقصود من هذه الآية بيان فساد الشرك وإثبات خطأ منتحليه بأن سلفهم الأول لم يكن مثلهم في فساد العقول وقد كان للمخاطبين تعظيم لما كان عليه أسلافهم ولأن صيغة القصر تؤذن بأن المراد إبطال زعم من يزعم غير ذلك .
ووقوعه عقب ذكر من يعبدون من دون الله أصناما لا تضرهم ولا تنفعهم يدل على أنهم المقصود بالإبطال فإنهم كانوا يحسبون أن ما هم عليه من الضلال هو دين الحق ولذلك صوروا إبراهيم وإسماعيل يستقسمان بالأزلام في الكعبة . فقال النبي A يوم الفتح كذبوا والله إن استقسما بها قط وقرأ ( ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين ) وبهذا الوجه يجعل التعريف في ( الناس ) للاستغراق .
A E ويجوز أن يراد بالناس العرب خاصة بقرينة الخطاب ويكون المراد تذكيرهم بعهد أبيهم إبراهيم عليه السلام إذ كان هو وأبناؤه وذريتهم على الحنيفية والتوحيد كما قال تعالى ( وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه إنني براء مما تعبدون إلا الذي فطرني فإنه سيهدين وجعلها كلمة باقية في عقبه لعلهم يرجعون ) أي في عقبه من العرب فيكون التعريف للعهد .
وجملة ( ولولا كلمة سبقت من ربك ) إخبار بأن الحق واحد وأن ذلك الاختلاف مذموم وأنه لولا أن الله أراد إمهال البشر إلى يوم الجزاء لأراهم وجه الفصل في اختلافهم باستئصال المبطل وإبقاء المحق . وهذه الكلمة أجملت هنا وأشير إليها في سورة الشورى بقوله ( ولولا كلمة سبقت من ربك إلى أجل مسمى لقضي بينهم ) .
والأجل : هو أجل بقاء الامم وذلك عند انقراض العالم فالقضاء بينهم إذن مؤخر إلى يوم الحساب . وأصرح من ذلك في بيان معنى ( الكلمة ) قوله في سورة هود ( ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين ) وسيأتي بيانها .
وتقديم المجرور في قوله ( فيما فيه يختلفون ) للرعاية على الفاصلة .
( ويقولون لولا أنزل عليه آية من ربه فقل إنما الغيب لله فانتظروا إني معكم من المنتظرين ) عطف على جملة ( ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ) فبعد أن ذكر افتراءهم في جانب الإلهية نفى بهتانهم في جانب النبوة .
والضمير في ( عليه ) عائد للنبي A وإن لم يجر له ذكر قبل ذلك في الآية فإن معرفة المراد من الضمير مغنية عن ذكر المعاد . وقد كان ذكر النبي A بينهم في نواديهم ومناجاتهم في أيام مقامه بينهم بعد البعثة هو شغلهم الشاغل لهم قد أجرى في كلامهم ضمير الغيبة بدون سبق معاد علم المتخاطبون أنه المقصود . ونظير هذا كثير في القرآن .
و ( لولا ) في قوله ( لولا أنزل عليه آية من ربه ) حرف تحضيض وشأن التحضيض أن يواجه به المحضض لأن التحضيض من الطلب وشأن الطلب أن يواجه به المطلوب ولذلك كان تعلق فعل الإنزال بضمير الغائب في هذه الآية مؤولا بأحد وجهين :