وقدم ذكر نفي الضر على نفي النفع لأن المطلوب من المشركين الإقلاع عن عبادة الأصنام وقد كان سدنتها يخوفون عبدتها بأنها تلحق بهم وبصبيانهم الضر كما قالت امرأة طفيل بن عمرو الدوسي حين أخبرها أنه أسلم ودعاها إلى أن تسلم فقالت : " أما تخشى على الصبية من ذي الشرى " . فأريد الابتداء بنفي الضر لإزالة أوهام المشركين في ذلك الصادة لكثير منهم عن نبذ عبادة الأصنام .
وقد أمر الله نبيه E أن يرد عليهم بتهكم بهم بأنهم قد أخبروا الله بأن لهم شفعاء لهم عنده . ومعنى ذلك أن هذا لما كان شيئا اخترعوه وهو غير واقع جعل اختراعه بمنزلة أنهم أعلموا الله به وكان لا يعلمه فصار ذلك كناية عن بطلانه لأن ما لم يعلم الله وقوعه فهو منتف . ومن هذا قول من يريد نفي شيء عن نفسه : ما علم الله هذا مني وفي ضده قولهم في تأكيد وقوع الشيء : يعلم الله كذا حتى صار عند العرب من صيغ اليمين .
و ( في السماوات ولا في الأرض ) حال من الضمير المحذوف بعد ( يعلم ) العائد على ( ما ) إذ التقدير : بما لا يعلمه أي كائنا في السماوات ولا في الأرض والمقصود من ذكرهما تعميم الامكنة كما هو استعمال الجمع بين المتقابلات مثل المشرق والمغرب .
وأعيد حرف النفي بعد العاطف لزيادة التنصيص على النفي .
والاستفهام في ( أتنبئون ) للإنكار والتوبيخ والإنباء : الإعلام .
وجملة ( سبحانه تعالى ) إنشاء تنزيه فهي منقطعة عن التي قبلها فلذلك فصلت . وتقدم الكلام على نظيره عند قوله ( وخرقوا له بنين وبنات بغير علم سبحانه وتعالى عما يصفون ) في سورة الأنعام .
و ( ما ) في ( قوله عما يشركون ) مصدرية أي عن إشراكهم أي تعالى عن أن يكون ذلك ثابتا له .
وقرأ حمزة والكسائي وخلف ( تشركون ) بالمثناة الفوقية على أنه من جملة المقول وقرأه الباقون بالتحتية على أنها تعقيب للخطاب بجملة ( قل ) . وعلى الوجهين فهي مستحقة للفصل لكمال الانقطاع .
A E ( وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم فيما فيه يختلفون ) جملة معترضة بين جملة ( ويعبدون ) وجملة ( ويقولون لولا أنزل عليه آية من ربه ) . ومناسبة الاعتراض قوله ( قل أتنبئون الله بما لا يعلم ) لأن عبادة الأصنام واختراع صفة الشفاعة لها هو من الاختلاف الذي أحدثه ضلال البشر في العقيدة السليمة التي فطر الله الناس عليها في أول النشأة فهي مما يشمله التوبيخ الذي في قوله ( أتنبئون الله بما لا يعلم في السماوات ولا في الأرض ) وصيغة القصر للمبالغة في تأكيد الخبر لأنه خبر مهم عجيب هو من الحكم العمرانية والحقائق التاريخية بالمكان الأسمى إذ القصر تأكيد على تأكيد باعتبار اشتماله على صيغتي إثبات للمثبت ونفي عما عداه فهو أقوى من تأكيد رد الإنكار ولذلك يؤذن برد إنكار شديد .
وحسن القصر هنا وقوعه عقب الجدال مع الذين غيروا الدين الحق وروجوا نحلتهم بالمعاذير الباطلة كقولهم ( هؤلاء شفعاؤنا عند الله ) وقولهم ( ما نبعدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى ) بخلاف آية سورة البقرة ( كان الناس أمة واحدة ) فإنها وقعت في سياق المجادلة مع أهل الكتاب لقوله ( سل بني إسرائيل كم آتيناهم من آية بينة ) وأهل الكتاب لا ينكرون أن الناس كانوا أمة واحدة فآية هذه السورة تشير إلى الوحدة الاعتقادية ولذلك عبر عن التفرق الطارئ عليها باعتبار الاختلاف المشعر بالمذمة والمعقب بالتخويف في قوله ( ولولا كلمة سبقت ) إلى آخره وآية سورة البقرة تشير إلى الوحدة الشرعية التي تجمعها الحنيفية الفطرية ولذلك عبر عن التفرق الذي طرأ عليها بأن الله بعث النبيين مبشرين ومنذرين ثم جاء ذكر الاختلاف عرضا عقب ذلك بقوله ( وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه ) وأريد به الاختلاف بين أتباع الشرائع لقوله ( وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه ) وتقدم القول في ( كان الناس أمة واحدة ) في سورة البقرة والناس : اسم جمع للبشر وتعريفه للاستغراق . والأمة : الجماعة العظيمة التي لها حال واحد في شيء ما