والغائب ضد الحاضر وهو هنا كناية عن الجاهل لأن الغيبة تستلزم الجهالة عرفا أي الجهالة بأحوال المغيب عنه فإنها ولو بلغته بالأخبار لا تكون تامة عنده مثل المشاهد أي : وما كنا جاهلين بشيء من أحوالهم لأننا مطلعون عليهم وهذا النفي للغيبة مثل إثبات المعية في قوله تعالى : ( وهو معكم أينما كنتم ) .
وإثبات سؤال الأمم هنا لا ينافي نفيه في قوله تعالى : ( ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون ) وقوله ( فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان ) لأن المسؤول عنه هنا هو التبليغ والمنفي في الآيتين الأخريين هو السؤال لمعرفة تفاصيل ذنوبهم وهو الذي أريد هنا في قوله : ( وما كنا غائبين ) .
( والوزن يومئذ الحق فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون [ 8 ] ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم بما كانوا بآياتنا يظلمون [ 9 ] ) عطفت جملة : ( والوزن يومئذ الحق ) على جملة ( فلنقصن ) لما تضمنته المعطوف عليها من العلم بحسنات الناس وسيئاتهم فلا جرم أشعرت بأن مظهر ذلك العلم وأثره هو الثواب والعقاب وتفاوت درجات العاملين ودركاتهم تفاوتا لا يظلم العامل فيه مثقال ذرة ولا يفوت ما يستحقه إلا أن يتفضل الله على أحد برفع درجة أو مغفرة زلة لأجل سلامة قلب أو شفاعة أو نحو ذلك مما الله أعلم به من عباده فلذلك عقبت جملة : ( فلنقصن ) بجملة : ( والوزن يومئذ الحق ) فكأنه قيل : فلنقصن عليهم بعلم ولنجازينهم على أعمالهم جزاء لا غبن فيه على أحد .
والتنوين في قوله : ( يومئذ ) عوض عن مضاف إليه دل عليه : ( فلنسألن الذين أرسل إليهم ) وما عطف عليه بالواو وبالفاء والتقدير : سوم إذ نسألهم ونسأل رسلهم ونقص ذنوبهم عليهم .
والوزن حقيقته معادلة جسم بآخر لمعرفة ثقل أحد الجسمين أو كليهما في تعادلهما أو تفاوتهما في المقدار وإذ قد كان تساوي الجسمين الموزونين نادر الحصول تعين جعلت أجسام أخرى يعرف بها مقدار التفاوت فلا بد من آلة توضع فيها الأشياء وتسمى الميزان ولها أشكال مختلفة شكلا واتساعا .
والأجسام التي تجعل لتعيين المقادير تسمى موازين وأحدها ميزان أيضا وتسمى أوزانا وأحدها وزن ويطلق الوزن على معرفة مقدار حال في فضل ونحوه قال تعالى : ( فلا تقيم لهم يوم القيامة وزنا ) وفي حديث أبي هريرة في الصحيحين : ( إنه ليؤتى بالعظيم السمين يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضة ) . ويستعار استعارة تمثيلية للتدبير في أحوال كقول الراعي : .
وزنت أمية أمرها فدعت له ... من لم يكن غمرا ولا مجهولا A E فالوزن في هذه الآية يراد به تعيين مقادير ما تستحقه الأعمال من الثواب والعقاب تعيينا لا إجحاف فيه كتعيين الميزان على حسب ما عين الله من ثواب أو عقاب على الأعمال وذلك مما يعلمه الله تعالى : ككون العمل الصالح لله وكونه رياء وككون الجهاد لإعلاء كلمة الله أو كونه لمجرد الطمع في الغنيمة فيكون الجزاء على قدر العمل فالوزن استعارة ويجوز أن يراد به الحقيقية فقد قيل توضع الصحائف التي كتبتها الملائكة للأعمال في شئ خلقه الله ليجعله الله يوم القيامة ينطق أو يتكيف بكيفية فيدل على مقادير الأعمال لأربابها وذلك ممكن وقد وردت أخبار في صفة هذا الميزان لم يصح شئ منها