ثم جرهم الغلو في تقديس المسيح فتوهموا أن علم الله اتحد بالمسيح فقالوا : إن المسيح صار ناسوته لاهوتا باتحاد أقنوم العلم به فالمسيح جوهران وأقنوم واحد ثم نشأت فيهم عقيدة الحلول أي حلول الله في المسيح بعبارات متنوعة ثم اعتقدوا اتحاد الله بالمسيح فقالوا : الله هو المسيح . هذا أصل التثليث عند النصارى وعنه تفرعت مذاهب ثلاثة أشار إلى جميعها قوله تعالى ( ولا تقولوا ثلاثة وقوله لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم وقوله أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله ) وكانوا يقولون : في عيسى لاهوتية من جهة الأب وناسوتية أي إنسانية من حهة الأم .
وظهر بالإسكندرية راهب اسمه " آريوس " قال بالتوحيد وأن عيسى عبد الله مخلوق وكان في زمن " قسطنطينوس سلطان الروم باني القسطنطينية " . فلما تدين قسطنطينوس المذكور بالتصرانية سنة 327 تبع مقالة " آريوس " ثم رأى مخالفة معظم الرهبان له فأراد أن يوحد كلمتهم فجمع مجمعا من علماء النصارى في أواخر القرن الرابع من التاريخ المسيحي وكان في هذا المجمع نحو ألفي عالم من النصارى فوجدهم مختلفين اختلافا كثيرا ووجد أكثر طائفة منهم على قول واحد ثلاثمائة وبضعة عشر عالما فأخذ قولهم وجعله أصل المسيحية ونصره وهذه الطائفة تلقب " الملكانية " نسبة للملك .
واتفق قولهم على أن كلمة الله اتحدت بجسد عيسى وتقمصت في ناسوته أي إنسانيته ومازجته امتزاج الخمر بالماء فصارت الكلمة ذاتا في بطن مريم وصارت تلك الذات ابنا لله تعالى فالإله مجموع ثلاثة أشياء : الأول الأب ذو الوجود والثاني الابن ذو الكلمة أي العلم والثالث روح القدس .
ثم حدثت فيهم فرقة اليعقوبية وفرقة النسطورية في مجامع أخرى انعقدت بين الرهبان . فاليعقوبية ويسمون الآن " أرثودكس " ظهروا في أواسط القرن السادس المسيحيي وهم أسبق من النسطورية ؛ قالوا : انقلبت الإلهية لحما ودما ؛ فصار الإله هو المسيح فلأجل ذلك صدرت عن المسيح خوارق العادات من إحياء الموتى وإبراء الأكمة والأبرص فأشبه صنعه صنع الله تعالى مما يعجز عنه غير الله تعالى . وكان نصارى الحبشة يعاقبة وسنتعرض لذكرها عند قوله تعالى ( لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم ) في سورة المائدة وعند قوله تعالى ( فاختلف الأحزاب من بينهم ) .
والنسطورية قالت : اتحدت الكلمة بجسد المسيح بطريق الإشراق كما تشرق الشمس من كوة من بلور فالمسيح إنسان وهو كلمة الله فلذلك هو إنسان إله أو هو له ذاتيتان ذات إنسانية وأخرى إلهية وقد أطلق على الرئيس الديني لهذه النحلة لقب " جاثليق " . وكانت النحلة النسطورية غالبة على نصارى العرب . وكان رهبان اليعاقبة ورهبان النسطوريين يتسابقون لبث كل فريق نحلته بين قبائل العرب . وكان الأكاسرة حماة للنسطورية وقياصرة الروم حماة لليعقوبية . وقد شاعت النصرانية بنحلتيها في بكر وتغلب وربيعة ولخم وجذام وتنوخ وكلب ونجران واليمن والبحرين . وقد بسطت هذا ليعلم حسن الإيجاز في قوله تعالى ( ولا تقولوا ثلاثة ) وإتيانه على هذه المذاهب كلها . فلله هذا الإعجاز العلمي .
والقول في نصب ( خيرا ) من قوله ( انتهوا خيرا لكم ) كالقول في قوله تعالى ( فآمنوا خيرا لكم ) .
والقصر في قوله ( إنما الله إله واحد ) قصر موصوف على صفة لأن ( إنما ) المقصور وهو هنا قصر إضافي أي ليس الله بثلاثة .
وقوله ( سبحانه أن يكون له ولد ) إظهار لغلطهم في أفهامهم وفي إطلاقاتهم لفظ الأب والابن كيفما كان محملهما لأنهما إما ضلالة وإما إيهامها فكلمة ( سبحانه ) تفيد قوة التنزيه لله تعالى عن أن يكون له ولد والدلالة على غلط مثبتيه فإن الإلهية تنافي الكون أبا واتخاذ ابن لاستحالة الفناء والاحتياج والانفصال والممماثلة للمخلوقات عن الله تعالى . والبنوة تستلزم ثبوت هذه المستحيلات لأن النسل قانون كوني للموجودات لحكمة استبقاء النوع والناس يتطلبونها لذلك وللإعانة على لوازم الحياة وفيها انفصال المولود عن أبيه وفيها أن الابن مماثل لأبيه فأبوه مماثل له لا محالة .
A E