ندوة ثقافة التقريب بين المذاهب الإسلامية ودورها في وحدة الأُمّة (استئناف الحركة الحضارية والتقريب)
الدكتور محمدعلي آذرشب
مقدمة:
التقريب بين المذاهب الاسلاميّة هدف يتطلّع إليه كل المهتمين بعزّة أمتهم وكرامتها وسؤددها، غير أن الأماني وحدها لا تكفي لتحقيق هذا الهدف الكبير، ولابدّ من تقصّي جذور هذه الظاهرة وتقديم العلاج الاساس لها كي لا تضيع الجهود فيما لا طائل تحته. وفي اعتقادنا أن ظاهرة الصراع المذهبي هي عارض من عوارض مرض عضال ألمّ بالعالم الاسلامي يتمثل في توقّف حركته الحضارية. وهذا المرض له عوارض كثيرة، أهمّها التمزّق والتشتت، ويظهر هذا التمزّق والتشتّت في ألوان شتّى، تارة على شكل مذهبي وآخر على شكلٍ قومي، وأحيانا على شكلٍ قبلي أو قطري أو إقليمي أو… المهمّ أن يكون هناك تمزّق بأي شكل من الاشكال.
من هنا فان معالجة الخلاف المذهبي بدون الاتجاه الى جذور هذه الظاهرة شأنها شأن من يعالج طفحاً جلدياً ناتجاً عن مرض كبدي عن طريق تضميد هذا الطفح ، بينما العلاج الاساس أن يتجه الى الكبد نفسه.
الحركة الحضارية
لسنا مبالغين إذا قلنا إن الدين هو دفع الجماعة البشرية نحو الحركة الحضارية، ذلك لأن الحضارة هي مقدار ما تحققه البشرية من مكتسبات في حقل تقدمها المادّي والمعنوي. وكل تعاليم الاسلام تتجه نحو انتشال الانسان من وهدة الركود والخمود والجمود لتدفعه نحو حركة لامتناهية في مضمار تحقيق الانتصارات على صعيد تسخير الطبيعة وممارسة عملية الاستخلاف، وعلى صعيد السموّ النفسي والروحي والخروج من شرنقة الذاتية ومن أوحال النزعات الهابطة.
جزيرة العرب كانت قبل ظهور الاسلام تفتقد المشروع الحضاري، لذلك كانت تعيش صراعاً قبلياً رهيباً، وأيام العرب تشهد على ذلك، والشعر الجاهليّ الذي يصوّر هذا الصراع يحكي عن ظاهرة سائدة لا يستطيع الجاهليّ إلاّ أن يمارسها وكأنها جزء من حياته اليوميّة. يقول الشاعر مصوراً هذه الروح الجاهليّة التي عاد الحنين اليها في العصر الأموي:
فأيّ رجال بادية ترانا قَناً سُلُباً وأفراساً حسانا
فأعوزهنّ كون حيث كانا وضُبّة إنّه من حان حانا
إذا مـا لـــم نجـــد إلاّ أخـانا
ومن تكن الحضارة أعجبته ومن ربَطَ الجحاش فإنّ فينا
وكنَّ إذا أغرنَ على قبيلٍ أغرن من الضباب على حِلال
وأحيــــاناً على بكرٍ أخينـــا
ويلفت النظر في هذه الأبيات استعمال كلمة (الحضارة) أمام (البادية)، وهذا التقابل ورد في الأحاديث الاسلاميّة التي تنهى عن التعرّب بعد الهجرة، أي الانتقال الى البادية بعد الهجرة الى المدينة، والنهي في هذا المجال شديد يقرب من التكفير. ذلك لأن الحضارة تحتاج الى حياة مدنية، ولايمكن أن يتحقق ذلك في البداوة.
ويلفت النظر في هذه الابيات أيضا أن الإعراض عن الحياة الحضارية يقترن بالصراع مع أي كان ، فإذا لم يجدوا قبيلة غنية هاجموا قبيلة ضعيفة.. وإذا لم يجدوا ذلك أيضا أغاروا على إخوتهم من بني بكر.. المهم الغزو والصراع.
وحين قدّم الاسلام مشروعه الحضاري لهذه القبائل المتصارعة، جعل همومها رسالية عالمية، وحركها على طريق الاهداف الكبرى، وبقدر ما استطاع الاسلام أن يخلق حركة حضارية في المجتمع استطاع أيضا أن يتغلّب على التمزّق والصراع. وكل ظواهر الصراع التي ظهرت في المجتمع الاسلامي في عصر صدر الرسالة أو بعده إنّما كان بسبب الرواسب القبلية المضادة للتوجّه الحضاري.
ومع كل ماعصف بالحياة الاسلامية في القرنين الاول والثاني من معوّقات قبلية وقوميّة وسياسية فان الدفعة الحضارية العظيمة التي أوجدها الاسلام في نفوس أبنائه ظلّت متواصلة متنامية تؤتي أكلها كلّ حين، وأدّت الى خلق حضارة لا ينكر عظمتها أحد، ودفعت بحركة التقدّم العلمي والاجتماعي نحو ميادين واسعة.
التقريب في ظل الحركة الحضارية
لواستثنينا بعض الظواهر الشاذة التي برزت بين الجهلة البعيدين عن التوجّه الحضاري في القرون الاسلامية الأولى، لرأينا أن المجتمع الاسلامي المتحضّر يطفح بألوان الظواهر التي تدلّ على سيادة روح الحوار والتفاهم وقبول الرأي الآخر والتعايش القومي والمذهبي. ويبرز ذلك بأجلى صوره في العلاقات بين أئمة المذاهب والعلماء والادباء على اختلاف انتماءاتهم الفكرية.
وإذ لا نستطيع هنا استعراض تلك الصور كلّها أنقل ماذكره اليعقوبي في تاريخه عن مجلس من مجالس البرامكة في عصر الحركة الحضارية.
جاء في مروج الذهب: (كان يحيى بن خالد ذا علم ومعرفة وبحث ونظر، وله مجلس يجتمع فيه أهل الكلام من أهل الإسلام وغيرهم من أهل الآراء والنحل، فقال لهم يحيى وقد اجتمعوا عنده: قد أكثرتم الكلام في الكمون والظهور، والقدم والحدوث، والإثبات والنفي، والحركة والسكون، والمماسَّة والمباينة، والوجود والعدم، والجر والطفرة، والأجسام والأعراض، والتعديل والتجريح، ونفي الصفات وإثباتها، والاستطاعة والأفعال، والكمية والكيفية والمضاف، والإمامة أنص هي أم اختيار، وسائر ما توردونه من الكلام في الأصول، والفروع، فقولوا الآن في العشق عَلَى غير منازعة، وليورد كل واحد منكم ماسنح له فيه، وخطر إيراده بباله.)
فقال علي بن هيثم (وكان إمامي المذهب من المشهورين من متكلمي الشيعة): أيها الوزير، العشق ثمر المشاكلة، وهو دليل تـَمازُج الروحين، وهو من بحر اللطافة ، ورقة الصنيعة، وصفاء الجوهر وليس يحدُّ لسعته ، والزيادة فيه نقصان من الجسد.
وقال أبو مالك الحضرمي، وهو خارجي المذهب (وهم الشراة): أيها الوزير، العشق نـَفْثُ السحر، وهو أخفى وأحرّ من الجمر، ولا يكون إلا بازدواج الطبعين، وامتزاج الشكلين، وله نفوذ في القلب كنفوذ صَيِّب المـُزْنِ في خلل الرمل، وهو ملك على الخصال، تنقاد له العقول، وتستكين له الآراء.
وقال الثالث: وهو محمد بن الهذيل العَلاّف ، وكان معتزليَّ المذهب وشيخ البصريين: أيها الوزير، العشق يَخْتم على النواظر، ويطبع على الأفئدة، مرتقى في الأجساد، ومسرعة في الأكباد، وصاحبه متصرف الظنون، متغير الأوهام، لا يصفو له موجود، ولا يسلم له موعود، تسرع إليه النوائب، وهو جرعة من نقيع الموت، وبقية من حياض الثكل، غير أنه من أريحية تكون في الطبع، وطلاوة توجد في الشمائل، وصاحبه جَواد لا يُصْغي إلى داعية المنع، ولا يسنح به نازعُ العذل.
وقال الرابع – وهو هشام بن الحكم الكوفي شيخ الإمامية في وقته وكبير الصنعة في عصره - : أيها الوزير، العشق حِبَالَةٌ نَصَبَها الدهر فلا يصيد بها إلا أهل التخالص في النوائب، فإذا عَلِقَ المحب في شبكتها ونشب في أثنائها فأبعد به أن يقوم سليماً أو يتخلص وشيكاً، ولا يكون إلا من اعتدال الصورة، وتكافؤ في الطريقة، وملاءمة في الهمة، له مقتل في صميم الكبد ومهجة العقل، يعقد اللسان الفصيح، ويترك المالك مملوكاً، والسيّد خَوَلاً حتى يخضع لعبد عبده.
وقال النـَّظام إبراهيم بن يَسَار المعتزلي (كان من نـُظَّار البصريين في عصره): أيها الوزير العشق أرَقُّ من السراب، وأدبّ من الشراب، وهو من طينة عَطِرَة عُجنت في إناء الجلالة، سحابة غزيرة تهمي على القلوب، فَتُعْشِب شعفاً، وتُثْمر كلفاً، وصريعُه دائم اللوعة، ضيّق المتنفس، مُشارف الزمن، طويل الفكر، إذا أجَنـَّه الليل أرق ، وإذا أوضحه النهار قلق ، صومه البلوى ، وإفطاره الشكوى.
ثم قال السادس والسابع والثامن والتاسع والعاشر ومَنْ يليهم، حتى طال الكلام في العشق بألفاظ مختلفة ومعان تتقارب وتتناسب، وفيما مرّ دليل عليه ([1]).
والموضوع الذي دار فيه الحديث (العشق) له ما يشابهه عند اليونان، ثم إن الموضوع تبلور فيما بعد وبلغ قمته على يد أهل العرفان الايرانيين أمثال سنائي والعطار وحافظ والمولوي.
وهذه الرواية تشير الى حقيقتين: الاولى اجتماع أصحاب المذاهب المختلفة في مجلس حوار مفتوح. والثانية: الاشارة الى قدرة (العشق) على توحيد القلوب، وهذا ما سأستعرضه لاحقاً.
الاستئناف الحضاري
قضية الاستئناف الحضاري من الامور التي يجب أن يفكّر بها كلّ المهتمين بشؤون العالم الاسلامي وأن يضعوها في أولويات اهتماماتهم لأنها العامل الوحيد لإزالة مظاهر التخلف في مجتمعاتنا والسبيل الأمثل لاستعادة عزتنا وكرامتنا.
ولعل الباحث المسلم يستطيع أن يستنتج دون عناء من محتوى الاسلام ومن مسيرته التاريخية أنّ الحضارة الاسلامية _ وإن كادت أن تتوقف عن الحركة منذ قرون ـ تمتلك جذوراً عميقة في تربة هذه الامة وفي عقيدتها وأفكارها وعواطفها، مما يؤهلها لاستئناف مسيرتها من جديد، إن توفّرت لها الظروف المواتية.
والظروف المواتية لابد أن تتظافر على إيجادها كل عناصر التأثير في المجتمع الاسلامي من مدارس وجامعات ووسائل إعلام مرئية ومسموعة ومقروءة وفنون جميلة، وأهمّ من ذلك الأسرة وخاصة الأم بما لها من تأثير كبير على تنشئة الثقافة التي تشكل الطاقة الحرارية للحركة الحضارية.
وفي رأينا أن أهمّ المحاور التي يجب أن تتجه إليها عناصر التأثير هي: إحياء المثل الأعلى الحق، وإحياء روح العزّة، والتربية العرفانية.
المثل الاعلى
لكل فرد وجماعة بشرية مثل أعلى، هذا المثل الاعلى أو الإله بالتعبير القرآني إما أن يكون مطلقا وهو الله الواحد الأحد سبحانه، وإما أن يكون سرابياً كالمثل العليا التي ظهرت في التاريخ القديم والمعاصر ثم انهارت لأن الجموع البشرية العطشى حسبتها ماءً حتى إذا جاءتها لم تجدها شيئاً، وإما أن يكون مثلاً أعلى هابطاً كالأهواء الهابطة التي يتخذها بعضهم إلهاً.
وحين يكون المثل الاعلى هو الله سبحانه فإنه يحرك المسيرة البشرية على طريق لانهاية له من العلم والعزّة والقدرة والعطاء والرحمة والخير والبركة، لأن كل هذه هي من صفات المثل الاعلى الحق سبحانه. وحينما يكون المثل الأعلى سرابياً فانه يحرّك الجماعة البشرية نحوه أمداً ثم ينهار، وتصاب الجماعة بالخيبة والتقهقر. أما إذا كان المثل الاعلى هابطاً فان الجماعة البشرية تراوح في مكانها ولا تتقدم، ويعيش كلّ فرد همومه الصغيرة ومصالحه الخاصة التي تصطدم عادة بمصالح الآخرين، فينشأ ثمة النزاع والصراع. ومجتمعاتنا الاسلامية ـ بنظرة موضوعية ـ أقرب الى تبني هذا المثل الاعلى الهابط([2]).
التوجّه التربوي والاعلامي في مجتمعاتنا غالباً مايركّز هذا السقوط في المصالح الذاتية، وكأن غاية الانسان في الحياة هي الاستزادة مما يحقّق هذه المصالح. أفلامنا ومسلسلاتنا وأدبياتنا قلّما تتجه نحو تقديم مثل أعلى يسمو على المصالح الذاتية، بل إنها غالباً ما تركّز الذات باسم (الواقعيّة) وتحوّلها الى إله تذبح على معبده كل القيم والفضائل الانسانية.
ليس الله سبحانه اسماً فقط نردّده على ألسنتنا، وليس بيننا وبينه فاصلة جغرافية نتحرك نحوه، التوجّه الى الله هو التوجّه الى كل مافي هذا المثل الاعلى من صفات الجمال والجلال. وهكذا كانت حركة المسلمين المتحضرين نحو الله سبحانه.
من هنا فنحن بحاجة الى نهضة شاملة للتحرك نحو الله بالمعنى الحضاري، نحتاج الى أن نقدّم لجيلنا معاني التوحيد والعبادة والسير والسلوك الى الله في هذا الاطار، كي تكون عبادتنا لله سبحانه طاقة حركية تمدّنا بالعود والمدن والتسديد في مسيرتنا الحضارية.
نحن بحاجة الى انتشال مجتمعاتنا من التوجه الى مثل عليا سرابيّة طالما جرّت على أمتنا الويلات بشعاراتها البرّاقة.
نحن بحاجة الى انتشال شبابنا من السقوط في الذاتية والأنانية وضياع الأهداف الكبرى والهزيمة النفسية، وكل ذلك يتحقّق بتوجيه الامة نحو الله توجيهاً يتناسب مع حاجة العصر ولغة العصر.
العزّة
العزّة مفهوم إنساني وإسلامي على غاية من الأهميّة وعكسه الذلّ الذي رفضه الاسلام واعتبره موتاً للفرد والمجتمع. والله سبحانه فوّض الى الانسان أمورَه كلَّها – كما في النصوص الاسلاميّة – إلاّ أن يكون ذليلاً.
وغرس الاسلام روح العزّة في نفوس أبنائه حين قدّم لهم مفهومه عن الانسان بأنه خليفة الله في الأرض، وأن الله أقرب اليه من حبل الوريد، وأنه أكرم عندالله من الملائكة وأشرف من الكعبة.
وأهمّ مانهض به المصلحون الإسلاميون على مرّ التاريخ هو إعادة روح العزّة الى المجتمع متى أوشكت عوامل الإذلال أن تستفحل فيه.
والعزّة موضوع بحثه الفلاسفة الاقدمون والمحدثون. فمنذ القديم تحدث أفلاطون عن (التيموس). وعرّفه بأنه رغبة الفرد والجماعة البشرية بكسب الاعتراف، ورأى أن الانسان قد يضحي بنفسه من أجل ذلك لقوّة هذا النازع في كيان الانسان. ولو أمعنّا النظر فيما يقدمه أفلاطون من توضيحات عن التيموس لوجدناه هو (العزّة) نفسها. ويذهب أفلاطون أن حركة التاريخ وراءها دافع التيموس الذي يجعل الفرد والجماعة يفكرون ويعملون لكي تكون لهم مكانة يُعترف بها بين الناس.
ثم جاء في أيامنا هذه (فوكوياما) ليتخذ من التيموس أساساً لحديثه عما يسميه (نهاية التاريخ)، ذاهباً الى أن هذا التيموس يتحقّق بأعلى صوره في الليبرالية الديمقراطية، ومن هنا فان هذه الليبرالية الديمقراطية هي في زعمه نهاية التاريخ([3]). لانريد أن نناقش هذا الزعم، لكننا نريد أن نبين أهمية العزّة في الحركة الحضارية. فالعزّة هي مظهر الحياة، والمجتمع العزيز هو المجتمع الحي الذي تترابط أعضاؤه ترابطاً عضوياً بحيث إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى. والمجتمع الذليل ميّت لاحراك فيه ولا يوجد بين أجزائه ترابط عضوي، ولا تتأثر سائر الاعضاء إذا أصاب عضواً من أعضاء الجسد مكروه.
وغرسُ روح العزّة يبدأ في الفرد من الأم والاسرة ثم المجتمع بمافيه من وسائل التأثير ومن ثقافة عامّة.
المسألة الاولى في العزّة هي توجيه الامة الى عزّتها الحقيقية ( من كان يريد العزّة فلله العزّة جميعا) وتحذيرها من العزّة الكاذبة: ( يبتغون عندهم العزّة ).
والمسألة الأخرى إبعاد المجتمع عن كل مايشعره بالذلّ والهوان والضعف وعدم القدرة.. لابدّ أن نكون حذرين جداً من أي خطاب يزلزل روح الاعتزاز بالهوية والشخصية والثقافة والتراث والتاريخ، والاتجاه نحو كلّ ما يرسّخ في النفوس الشعور بكرامة الانسان وعظمته ومسؤوليته الكبرى في هذا الوجود.
إن كثيراً من خطابنا الإعلامي يغرس ـ مع الاسف ـ روح الذلّ والهزيمة واليأس والضعف والهوان في النفوس، ولابدّ أن نخطط في إعلامنا ومناهجنا الدراسية وتربيتنا العائلية لغرس روح العزّة والكرامة والشخصية والاعتزاز بالهوية وبالانتماء الى الامة الاسلاميّة. فتلك مقدمة ضرورية وحياتية لاستئناف مسيرتنا الحضارية.
العرفان
أشرت عند تعليقي على مجلس البرامكة الذي جمع التيارات المختلفة الى أن (العشق ) يستطيع أن يوحّد القلوب ويرفع نظرة الانسان الى آفاق سامية ويبارك حياة الانسان ويزكيها.
وهذا ( العشق ) له مفهوم خاص في المدرسة العرفانية تبلورت على يد ( ابن عربي ) وتواصلت عبر العرفاء الكبار في دائرة الحضارة الاسلامية أمثال جلال الدين الرومي والعطار وحافظ وسعدي الشيرازي.
هذه المدرسة ذات خطاب إنساني عظيم يستطيع أن يستقطب البشرية حوله إن أحسنّا تقديمه، ثم إن هذا الخطاب استطاع أن يحافظ على عزّة الامة الاسلامية في القرون التي تجمّعت عوامل الذلّ فيها من الداخل والخارج.
من هنا فانّ إحياء هذه المدرسة وتقديمها بلغة العصر يستطيع أن يجعل خطابنا عالمياً أولاً، ثم يستطيع أيضا أن يربّي أبناءنا على حبّ حقيقي وعلى جمال حقيقي وعلى حركة تكاملية حقيقية تكون منطلقاً لاستئناف مسيرتنا الحضارية. ومن الواضح أن إحياء هذه المدرسة يحتاج الى تفاعل جديد وعلى مستوى العصر بين الادبين العربي والفارسي، وعلى لقاء ثقافي جديد بين الايرانيين والعرب.
وأقف قليلا عند معالم هذه المدرسة.
بنظرة موضوعية الإنسان هو الموجود الوحيد على ظهر الأرض الذي يحمل أشواقاً للتغيير والتطوير، وكل ما في الإنسان من امتياز عن سائر الموجودات إنما يتلخص بهذه الأشواق. والأشواق هذه تدفعه إلى الحركة نحو تحقيق ما يعيشه الإنسان من مثل أعلى.
هذه الحركة المتجهة نحو هدف معين هي (عبادة) بالمفهوم اللغوي الديني، ومنهج هذه الحركة هو (دين )، والمثل الأعلى هو (الإله ).
ونصوص القرآن الكريم تؤكد هذا المعنى حين تتحدث عن تعدد أنواع العبادة:
)لا أعبد ما تعبدون(، وتعدد أنواع الأديان: )لكم دينكم ولي دين( ، وتعدد الآلهة: )لا إله إلا الله(.
والأديان تدعو إلى انتخاب الإله الواحد الحق من بين الآلهة: )ولقد بعثنا في كل أمةٍ رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت(. وتدعو إلى الدين الذي ينسجم مع فطرة الإنسان : )فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله، ذلك الدين القيّم(. وتدعو الإنسان إلى أن يتجه في منهج عمله إلى الحقيقة لا إلى السراب:
)مثل الذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً و وجد الله عنده..(.
فالدين الإلهي الحقّ – إذن – يستثير أولاً هذه الأشواق التكاملية في نفس الإنسان من خلال التركيز على الجانب المتسامى منه: )إني جاعل في الأرض خليفة(.. )ولقد كرّمنا بني آدم(.. و )نفخنا فيه من روحنا(.. و يحثـّه على الحركة في داخل ذاته و في محيطه الخارجي للتخلص من كل ما يعتري مسيرته نحو تحقيق أشواقه.. يدعو إلى الإيمان.. و التقوى.. والتخلص من شحّ النفس و من الالتصاق بالمال والمتاع.. وكلها دوافع حركة للتخلص من المعوقات الداخلية، وهو الجهاد الأكبر.. وللتخلص من المعوقات الخارجية التي تتمثل بالطواغيت و المستكبرين والفراعنة.. و هو الجهاد الأصغر.. كما يدعوه إلى حركة تكاملية لا نهاية لها، ولا تتوقف عند مرحلة من مراحل الطريق.. أي يدعوه إلى التحرك نحو (الله ).
من هنا فالتحرك أو السير والسلوك هو جوهر الدين، وما (العرفان ) إلا تعبير عن هذا الجوهر. ثم إنّ هذا التحرك ليس مكانياً ـ كما ذكرنا ـ بل جوهرياً على طريق التخلّق بأخلاق الله من إبداع وخلق وابتكار.
ويُذكر أن (العرفان ) هو المصطلح المتداول في أدبيات إيران بدل (التصوف )، للتخلص مما لحق الكلمة الأخيرة من تبعات تاريخية ناتجة عن مؤثرات لا تنتمي الى حضارتنا الاسلامية.
وأهم محاور العرفان هي:
1- التركيز على مكانة (الإنسان ) في العالم، وهو ما يخلق روح العزّة والكرامة في نفس المتلقي، ويجعل الكائن البشري يستشعر مهمته على ظهر الأرض، في الخلق والإبداع.
فهو (الإنسان) موجود مكرّم من خالقه، وكرامته ثابتة بغض النظر عن دينه وعقيدته، ويستشهد ابن عربي في هذا المقام بسيرة النبي إذ قام إجلالاً واحتراماً لجنازة يهودي لأنه (إنسان) بقوله: (ألا ترى إلى النبي – صلى الله عليه وسلم – قد قام لجنازة يهودي، فقيل: إنها جنازة يهودي. فقال – صلى الله عليه وسلم – أليس نفساً؟! فما علّل بغير ذاتها، فقام إجلالاً لها وتعظيماً لشرفها ومكانتها. وكيف لا يكون الشرف، وهي منفوخة من روح الله؟! فهي من العالم الأشرف الملكي الروحاني، عالم الطهارة )([4]).
والله كرّم الإنسان بالنفس الناطقة بعد أن نفخ فيه من روحه، وعلّمه الأسماء كلـّها، وهذه النفس شريفة لا يمكن أن تتعرض للعذاب يوم القيامة، إنما يتعرّض للعذاب النفس الحيوانية التي تكبر وتتضخّم عند الإنسان المنحرف عن طريق الله، وتـُغيّب النفس الناطقة. يقول ابن عربي عن الإنسان : (لا يدخل جهنّمَ إلاّ بنفسه الحيوانية، لأن جهنّم ليست موطناً للنفس الناطقة، ولو أشرقت عليها طفئ لهيبها لأن نورها أعظم )([5]).
والتوجّه الإنساني للعرفاء أبعدهم عن التفكير الذكوري وجعلهم يساوون بين الرجل والمرأة في إمكان الوصول إلى درجات الكمال الإنساني يقول ابن عربي: (إعلم – أيدك الله – أن الإنسانية لما كانت حقيقة جامعة للرجل والمرأة، لم يكن للرجال على النساء درجة من حيث الإنسانية )([6]).
وانعكس هذا التوجه في فقههم إذ جوّزوا إمامة المرأة للرجال في الصلاة([7]).
ويؤكد العرفاء على الهمّة، وأن يعرف الإنسان طاقاته ولا يستصغر قدره، يقول جلال الدين الرومي:
پس به ظاهــر عالم اصغر تويـى پـــس بمعنــى عــالم اكبر تويـى
ظاهرِ آن شاخْ اصلِ ميـوه اســت باطناً بهر ثمر شد شـاخ هســت ([8])
أي: (إذن أنت في الظاهر عالَم أصغر/ غير أنك بالمعنى عالم أكبر/ ففي الظاهر الغصن أصل الفاكهة/ وفي الباطن وُجد الغصن من أجل الثمرة ).
وهذا المفهوم مقتبس مما ينسب لأمير العارفين علي بن أبي طالب إذ يقول:
دواؤك فيــك ومــا تـــــشـعـــــــر وداؤك مــنـــــــــك ومـــــا تبصــر
وتحســب أنــك جــرم صغيـــــــر وفيــك انطــوى العالــــــم الأكبـر([9])
2ـ في رأي العرفاء أكبر شيء يصد الإنسان عن حركته التكاملية هو (نفسه )، فإذا تجاوز الذاتيات فقد انطلق في رحاب لا حدّ لها ولا حصر، وإلاّ فَقَدَ جوهره الإنساني الذي يدفعه إلى التكامل ، أي فَقَدَ ما فيه من نفخة رب العالمين، يقول مولانا:
آن يكى با شمع بر مي گشت روز گرد هر بازار دل پـر عشق وسوز
بو الفضولى گفــت اورا كاي فلان هين چه مى جوئى به پيش هر دكان؟
هين چه مى جويى تو هر سو باچراغ در ميان روز روشن چيســت لاغ؟
گفــت مى جـويم بهــرسو آدمى كاو بود حى از حيـات آن دمــى
گفت من جوياي انسـان گشتـــه ام من نيابم هيج وحيران گشتــه ام([10])
أي: (كان شخص يحمل شمعة ويبحث عن شيء في النهار/ يجول في كل سوق حاملاً قلباً مفعماً بالعشق الملتهب/ جاء فضولي وقال له يا فلان عمَّ تبحث في كل دكّان؟/ عمّ تبحث في كل ناحية وأنت تحمل المصباح في هذا النهار المضيء، هل تمزح؟! / قال: أبحث في كل مكان عن آدمي/ يكون حياً من حياة تلك النفخة / أنا لا أزال أبحث عن إنسان فلم / أجده وأصبحت متحيّراً ).
ويصور العرفاء الشخص الغارق في ذاتياته كالحمار الغارق في الأوحال، ينبغي أن يتخلص منها، لا أن يتحرك في داخلها لأن الحركة لا تزيده إلا ارتكاساً. فيقول مولانا:
چون خري در گل فتد از گام تيز دمبــــــدم جنبد براى عـزم خيــز
جاي را هموار نكند بهــر باش داند او كه نيست آن جاي معـاش([11])
أي: (مثل حمار سقط في الطين بسبب طفرة قويّة / يتحرك باستمرار من أجل أن يثب من مكانه/ ينبغي أن لا يسعى إلى توسيع مكانه / مَنْ يعلم أنّ هذا ليس مكان معاشة).
ويرى العرفاء أن من يعيش في دائرة ذاته لا يستطيع أن يفهم العوالم الرحبة ولا يستطيع أن يدرك الأبعاد الواسعة لحركته التي خـُلق من أجلها. يقول مولانا:
اي كه اندر چشمه ي شور است جـات توچه دانى شط جيحون وفـرات([12])
أي: ( يا مَن ألِفْتَ العيش في بركة مالحة / ما أدراك ما شط جيحون والفرات؟! ).
3- يرى العرفاء أن الإنسان ينبغي أن يكون في حركة دائبة مستمرة وأن يجدّ في هذه الحركة بعزم وإرادة. فهو في الواقع يسير، غير أن سيره ينبغي أن يكون ذا توجّه مستقبلي، لا أن يلهث وراء حاجات آنيَّة. يقول مولانا جلال الدين:
نيـك بنگـر ما نشسته مــى رويم مى نبيني قـــــــاصد جاى نـويم؟
بهر حالى مــى نگيرى رأس مـال بلكــــه از بهـر غـرضهــا در مآل
پس مسافر اين بود اي ره پرسـت كه مسيروروش درمستقبل اســت([13])
أي: (انظر جيداً، إننا نمضي جالسين / ألا ترى أننا نقصد موضعاً جديداً؟ / إنك لا تأخذ رأس المال من أجل الحاضر/ ولكن من أجل أهداف في المآل / إذن هكذا يكون المسافر يا عابد الطريق/ فإن مسيره و وجهته في المستقبل ).
وهذا هو هدي الدين الذي يأبى على الإنسان أن يركن ويسكن ويستسلم للواقع. وفي القرآن أن الإنسان إذا وجد نفسه غير قادر على الحركة في مكان فعليه أن يهاجر إلى مكان آخر يتخلص فيه من الاستضعاف، وإلا فهو ظالم لنفسه: )الذين توفّاهم الملائكة ظالمى أنفسهم قالوا: فيم كنتم؟ قالوا: كنا مستضعفين في الأرض. قالوا: ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها(.
4- يرى العرفان أن عمر الإنسان لا قيمة له إذا كان الكائن البشري يسير على غير طريق الكمال الانساني، فمثل هذا الانسان يعيش في ضياع، ولابدّ أن يصحو، ويتخلّص من السقوط في وحل الذات والأنا، ويرمزون بالخمرة الى هذا الصحو، والى هذا التخلّص من الارتكاس في نزعة الطين. ويخطئ من يظنّ أن هذه الخمرة هي المشروب المسكر الذي يفقد الوعي. بالعكس، الخمرة عند العرفاء هي حياة الانسان، وهي ساطعة من (نار موسى)، ومكانها (القلب ) وظهورها في (طور سيناء ). والانسان الذي ينتشي بهذه الخمرة لا يصغي الى لوم اللائمين المتهافتين على المال والمتاع.
والشيخ الكبير بهاء الدين العاملي (ت 1030هـ)، وإن كان متأخراً، يعبّر أفضل تعبير عن هذا المفهوم في أرجوزة نظمها في سفره لأداء فريضة الحج:
يا نديــمي ضاع عمـــري وانقضى قـــــم لادراك زمانٍ قد مضـــــــى
واغسـلِ الأدناس عـــنّي بالمــدام وامــــــــــــــلأ الأقداح منها يا غلام
واسقني كأساً فقــد لاح الصبــاح والثـــــــــــريّا غربت والديك صاح
زوّج الصهبــــاء بالـــــــماء الزلال واجعلـــنْ عقلي لها مهــــــراً حلال
هاتها من غير مهل يا نـــــديم خمـــرة يحيا بها العظم الرميــــــم
بنت كرم تجعلنّ الشيخ شــــاب مــن يذق منها عن الكونين غــاب
خمرة من نار موسى نورهــــــــا دنـّها قلبي وصدري طورهـــــــــا
قم ولا تمهل فما في العمر مهـــل لا تصــعّب شربها فالأمر سهــــــل
قل لشيخ قلبه منها نفــــــور لا تخف فالله تــــــوّاب غفــــــــــور
يا مُغنـّي إن عندي كــلّ غـــم قم وألق الناي فيهــــا بالنغـــــــــم
غنّ لي دوراً فقـــد دار القـــدح والصبــا قد فاح والقمري صـــــدح
واذكرنْ عندى أحاديث الحبيب إن عيشى من سواها لا يطيــــــــب
واحذروا ذكرى أحاديث الفـراق إن ذكر البعد ممّا لا يطــــــــــاق
ردّ لي روحي بأشعار العــــرب كـــي يتمّ الحظّ فينا والطــــــــرب
وافتتح منها بنظم مستطــــــاب قلته في بعض أيــــــام الشبــــــاب
قد صرفنا العمر فــــي قيل وقال يا نديمي قم فقد ضــــــــاق المجال
ثم أطربني بأشعـــــار العجــــم واطردنْ همّاً علـــــــى قلبي هجــم
وابتدئ منها ببيــــت المثنـــوي للحكيم المــولوي المعنــــــــــوي
بشنو از نى چــون حكايت مى كُند واز جدائيها شكـــايت مى كُند([14])
قم وخاطبني بكــــــل الألسنــــة علّ قلبي ينتبه من ذي السِّنــــــة
إنه في غفلة عـــــــن حالـــــــه خابط في قيلـــــه مـــــــع قاله
كل آن فهو في قيــــــــد حـــديــد قائلاً من جهله هل مــــــــن مزيد
تائها في الغيّ قد ضــــــــل الطريق قط من سكر الهوى لا يستفيـــــق
عاكفاً دهراً على أصنامـــــــــــه تهزأ الكفار مــــــــــــن إسلامـــــــه
كم أنادي وهو لا يصغي التناد وا فؤادي وا فـــــــــــؤادي وا فؤاد
يا بهائي اتخذ قلبــــــــاً ســـــــواه فهو ما مبعوده إلا هـــــــــــــــواه
خاتمة
إن هذا المؤتمر الذي يقام في حرم جامعي، وفي ظروف صعبة قاسية مرّة تنطوي على أخطار جسام قلّما شهدتها أمتنا من قبل، حريّ به أن يكون منطلقا للجنة دائمة تضع الخطة الشاملة لمعالجة قضايانا المصيرية، وعلى رأسها مسألة وحدة الامة ومواجهة عوامل التفرقة فيها، ونحن في جامعة طهران نعلن عن استعدادنا لتعاون جامعي علمي في هذا المجال. وبالله التوفيق.
[1] - مروج الذهب 3/ 379 - 381.
[2] - انظر: محمدباقر الصدر، التفسير الموضوعي.
[3] - انظر: فوكوياما، نهاية التاريخ.
[4] - الفتوحات المكية 3/ 263. هذه هي نظرة الاسلام الى الأديان الأخرى، لكنّ الصهيونية أساءت حتى إلى اليهودية، فاستغلّتها لتحقيق مآربها العدوانية على كلِّ البشريّة.
[5] - الفتوحات المكية 3/ 360.
[6] - نفس المصدر، ص 447 .
[7] - محمد تقي جعفري، تفسير ونقد وتحليل مثنوي جلال الدين الرومى (فارسي) ج15، ص304.
[8] - مثنوي چهارم. ص 309، الأدبيات 521 - 522.
[9] - ديوان الإمام علي، ط مصر، بدون تاريخ، ص 57.
[10] - تفسير ونقد وتحليل مثنوي جلال الدين رومي، محمد تقي جعفري، ج 15، ص401.
[11] - نفس المصدر، ص 398.
[12] - نفس المصدر، ص 376.
[13] - نفس المصدر، ص 376.
[14] - أي: اسمع من الناي إذ يقصّ الحكايات ويشكو من تباريح الفراق.
وهذا أول بيت في كتاب »المثنوي) العظيم لمولانا جلال الدين الرومي، وفيه يلخّص برمزية رائعة كلّ الأشواق التي تضطرم في صدر الانسان. إنها أشواق العودة الى الله والاتصال به سبحانه.
الدكتور محمدعلي آذرشب
ارسال نظر