قضية التقريب بين النظر والتطبيق
أ.د. محمد الدسوقي/باحث ومفكر من مصر
إن الحديث عن التقريب بين المذاهب الفقهية يرجع إلى أكثر من قرن مضى، فقد دعا كثير من المصلحين والمجددين إلى نبذ التعصب المذهبي، والالتقاء حول ما اتفق عليه الفقهاء، وهو يمثل الأصول الكلية وأغلب الاجتهادات الفقهية والآراء المذهبية، ويعذر بعضهم بعضا فيما اختلفوا فيه، وهو قليل ولا علاقة له بأصول العقيدة وأركان الإسلام، حتى تظل الأمة معتصمة بحبل الله، لا تعرف التفرق والتنازع والشقاق، وإنما تأخذ نفسها بتحقيق معاني الأخوة والوحدة، والتعاون والتكافل والتناصر حتى تكون جديرة بالخيرية والشهادة على غيرها من الأمم.
ولكن آراء هؤلاء المجددين والمصلحين ظلت في نطاق محدود دون أن تعرف طريقها للتطبيق والالتزام بين جماهير المهتمين بالدراسات الفقهية والأصولية على مستوى العالم الإسلامي، ومن ثم ظلت للنزعة المذهبية المنغلقة هيمنتها ونفوذها، ومع هذا نبهت تلك الآراء إلى ضرورة العمل المنتظم من أجل التقريب بين المذاهب ، فكانت جماعة التقريب التي بدأت سعيها ونشاطها العلمي في سبيل توثيق عُرَى المودة والتقارب بين المذاهب المعتبرة، وانطلق هذا السعي والنشاط في القاهرة منذ أكثر من نصف قرن وآمن بما قامت به هذه الجماعة طائفة من العلماء والباحثين ويتجلى سعي الجماعة في مجلة »رسالة الإسلام« التي ظهر منها ستون عددا في نحو ربع قرن، وتمثل هذه الأعداد ثروة علمية متميزة كتبها أعلام المفكرين من رواد التقريب.
ونظراً لأن جهد هؤلاء الرواد انحصر غالبا في دائرة البحث اللعلمي وبين المهتمين بقضية التقريب لم يتح لجماهير الأمة أن تعرف عن هذه الجماعة ورسالتها شيئا ذا بال بل إن فكر هذه الجماعة ظل بوجه عام بين دعاة التقريب في مصر وإن كان من فقهاء الشيعة في إيران والعراق من تعاطف مع هؤلاء الدعاة وناصر فكرهم، ولم يكتب لجماعة التقريب البقاء طويلا، وقد توقف نشاطها بسبب وفاة أعضائها، وتغير الظروف السياسية في العالم الإسلامي وظهور الاتجاهات القومية والحزبية التي طغت بشعاراتها الزائفة على الاهتمام الديني بالنسبة للشارع العام.
وإذا كانت جماعة التقريب قد ذوي نشاطها أو توقف لما أو مأت إليه آنفا فإن جهدها العلمي كان الخطوة العلمية الأولي على طريق التقريب وكان الصوت الذي نبه إلى ضرورة توحيد الصف الإسلامي لأنه فريضة دينية، بل يأتي جمع شمل الأمة في مقدمة فرائض الإسلام، ومن ثم كان من ينكر وحدة المسلمين وأخوتهم، أو يحارب هذه الوحدة والأخوة، أو يعمل على إضعافها فهو كافر أو مرتد والجدير بالذكر أنه بعد صدور قانون تطوير الأزهر وإنشاء مجمع البحوث الإسلامية عقد هذا المجمع مؤتمره الأول في عام 1963م، وحضره نحو مائة عالم من علماء المسلمين يمثلون 43 دولة من آسيا وأفريقيا وأوروبا و أمريكا اللاتينية وكان من المقترحات التي قدمها بعض أعضاء المؤتمر الدعوة إلى عقد قمة إسلامية لبحث قضية التقريب، ووضع خطة علمية لتحقيق التقارب بين المذاهب بما يعود على المسلمين بالخير، ولكن ظل هذا المقترح حبرا على ورق، كما ظل ما اعتمده وزراء خارجية الدول الإسلامية الذي عقد في طهران في مايو 2003 حول استراتيجية للتقريب بين المذاهب حبرا على ورق أيضا..
وتبنت إيران بعد ثورتها الإسلامية إحياء الدعوة إلى التقريب وذلك بإنشاء المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب، ولهذا المجمع نشاط ملحوظ في إصداراته ومؤتمراته، وهو لا يكتفي بعقد مؤتمر الوحدة الإسلامية كل عام في طهران في ذكري ميلاد رسول الله محمد بن عبدالله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم وإنما إلى هذا يعقد بعض المؤتمرات خارج إيران وبخاصة في مكة في موسم الحج كما يشارك في كل الندوات التي تعقد للتقريب بين المذاهب، فالمجمع بلا مراء لعب دورا مهما – ومازال في نشر أفكار التقريب وتعريف الأمة الإسلامية بآرائه وأهميتها وكان من آثار دور المجمع في نشر أفكار التقريب أن اهتمت مؤسسات جامعية، أو ثقافية بقضية التقريب فعقدت ندوات متعددة في بعض الجامعات، كما عقدت أيضا ندوة من قبل المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة (ايسيسكو) في مدينة الرباط في الفترة من 16 إلى 18/9/1991 م، وستعقد هذه المنظمة بالكويت ندوة أخرى في شهر سبتمبر القادم إن شاء الله .
والذي لا مراء فيه أن مفهوم التقريب لم يعد فكرا غامضا يحتاج إلى مزيد من التفسير والتوضيح، بيد أنه مع هذا مازالت دائرة الاهتمام به محصورة في هؤلاء النفر الذين آمنوا بقضية التقريب، وتحدثوا عنها، ومن ثم ليس لدي أساتذة الفقه والأصول في العالم الإسلامي بوجه عام اهتمام بهذه القضية والدعوة إليها في دروسهم ومؤلفاتهم، بل إن بعض هؤلاء وقف موقفا مناهضا من قضية التقريب، وذلك بترديد ما اشتمل عليه التراث الفقهي وبخاصة في عصور الضعف والتقليد من أحكام وأقوال لو صدقها المسلمون لا ستحل بعضهم دماء بعض، كما حدث في الماضي، بل وكما حدث في الحاضر القريب.
لقد ظهرت عدة مؤلفات ودراسات حديثة نقبت في كتب ذلك التراث لتصيد الهنات، وتعرضها وكأنها ليست أحداثا تاريخية مؤسفة لايجب على الأمة أن تعرفها في حاضرها، وكأنها حلقة في مسلسل نحياه في واقعنا وبعض هذه المؤلفات يقحم الصهيونية في المعركة، وبعضها الآخر يرمي سواه بالكفر والزندقة.
ومن الغريب أن بعض الجهات التي يعهد إليها بمراجعة ما يقدم للنشر من الدراسات الفهية في بعض البلاد الإسلامية تعارض نشر كل دراسة يذكر فيها رأي أو اجتهاد للفقه الإمامي، وأقول هذا عن تجربة شخصية، فقد كتبت دراستين عن الأسرة وبعض مشكلاتها، قدمت دراسة منها في بلد إسلامي، على حين قدمت الدراسة الأخرى في بلد إسلامي آخر، وجاء الاعتراض على الدراسة الأولي لأني كررت بعد اسم الإمام على عبارة كرم الله وجهه ورضي الله عنه، وجاء في حيثيات الاعتراض أن في تكرار هذه العبارة دعوة غير صريحة إلى المذهب الشيعي.
أما الاعتراض على الدراسة الثانية فلأني رجحت رأيا للفقه الإمامي في عدم وقوع الطلاق البدعي، واعتبر هذا الترجيح خروجا على ماذهب إليه الجمهور في الفقه السني، وهو وقوع هذا الطلاق، والمسألة اجتهادية، وليس في ترجيح رأي على آخر مخالفة لنص شرعي، ولكن الذين اعترضوا كأنهم يخرجون الفقه الإمامي من المذاهب الفقهية التي يجوز تقليدها والأخذ بآرائها، وهؤلاء يرفضون التقريب عن جهل وتعصب وهما أخطر عائق في طريق التقريب.
إن طريق التقريب ليس مفروشا بالورود، فهو مترع بالأشواك والعقبات فضلا عن الأخطاء في أفكار علماء كل مذهب واتباعه تجاه المذاهب الأخرى، وسوء الظن من البعض بدعوة التقريب وقصور الجامعات الإسلامية في تدريس مادة الفقه المقارن دراسة تشمل المذاهب الفقهية جميعها في موضوعية ودقة وأمانة علمية، واجترار الروايات والآراء التي لا تعبر إلا عن تعصب كربه وفقه سقيم وممالأة لسلطة جائرة أو نزعة عرفية جاهلية –فضلا عن هذا كله وغيره تسهم بعض الهيئات الدينية والتي لها تاريخ عريق في نشر الثقافة الإسلامية في الماضي والحاضر في إثارة الشبهات والشكوك حول دعوة التقريب، فقد جاء في كتاب نشر بعنوان »بيان للناس من الأزهر الشريف« الجزء الثاني تعريف بالفرق والمذاهب، وجاءت الشيعة على رأس الفرق التي قدم هذا الكتاب ترايخا موجزا عنها، وقد تحدث بعد التعريف المجمل بها عن أشهر الفرق الشيعية الموجودة الآن وهي خمسة بدأها بالزيدية التي ورد الكلام عليها في خمسة أسطر أهم مافيها أن المذهب الزيدي قريب من مذهب أهل الستة، دون بيان لأوجه هذا القرب بين المذهبين، ثم تحدث عن الأمامية وذكر سبب إطلاق هذا الاسم عليها، وحصر أهم أصول هذه الفرقة فيما يلي:
1ـ تكفير الصحابة ولعنهم وبخاصة أبوبكر وعمر (رضي الله عنهما) إلا عددا قليلا كانوا موالين للإمام علي(رضي الله عنه).
2- إدعاء أن القرآن الموجود في المصاحف الآن ناقص، لأن منافقي الصحابة حذفوا منه ما يخص عليا وذريته.
3- رفض كل رواية تأتي عن غير أئمتهم، فهم عندهم معصومون.
4- التقية: وهي إظهار خلاف العقيدة الباطنة لدفع السوء عنهم.
5- الجهاد غير مشروع الآن وذلك لغيبة الإمام والجهاد مع غيره حرام ولا يطاع ، ولا شهيد في حرب إلا ما كان من الشيعة، حتى لو مات على فراشه.
ثم ساق الكتاب بعض التفريعات على هذه الأصول منها عدم الاهتمام بحفظ القرآن الكريم، انتظارا المصحف الإمام وقولهم بالبداء، والجمعة معطلة في كثير من مساجدهم وذلك لغيبة الإمام، ويدينون بلعن أپي بكر وعمر.
وعرف الكتاب بعد الإمامية بكل من الأسماعيلية والنصيرية والدروز، وأورد أهم آراء ومعتقدات هذه الفرق وهي آراء وأفكار تتعارض مع المسلمات الشرعية، ولا مجال لتفصيل القول فيها.
وماجاء في ذلك البيان من الأزهر الشريف يجعل جمهور أهل السنة ومن ليس لهم فقه بالمذاهب يضيقون بكلمة التقريب ولا يرون فيها إلا اعترافا بأفكار وآراء يرفضونها ولا سيما ما ذكر عن الإسماعيلية والنصيرية والدروز.
إن بيان الأزهر صدر منذ نحو خمسة عشر عاما، وكأنه تجاهل كل ما بذله رواد التقريب من رجالات الأزهر وغيرهم، وأن هذا البيان لم يفرق بين الفرق الشيعية المعتدلة، وغيرها من الغلاة، كما أنه لم يشر إلى أن تلك الأصول التي ذكرها عن الإمامية لا تمثل اختلافا يتعلق بأصول الدين وإنما هي اجتهادات وآراء لم تصدر في عصر الأئمة. وإنما ظهرت في عصور التخلف والضعف والأهواء السياسية، وعلى الأمة في حاضرها أن تتجاوز هذه الآراء وتعتبرها ميراثا تاريخيا لا ينبغي أن نردده في عصرنا، وعلينا أن نعمل في جد وإخلاص للالتقاء حول أصول العقيدة التي جعلت من المؤمنين بها جسدا واحدا أو بنيانا مرصوصا يشد بعضه بعضا..
إن كلمة الأزهر في موضوع الفرق تسئ إلى التقريب، فهو جهة علمية ودينية لها وزنها الخاص، وما جاء في ذلك الكتاب قد يتخذه أعداء التقريب ذريعة لمناهضة الدعوة إلى جمع صفوف الأمة، والتحرر من أوزار التخوف وسوء الظن والتقريب بين المذاهب الفقهية.
ونشرت جريدة الدستور المصرية في العدد الثالث الصادر بتاريخ 27 صفر سنة 1426هـ الموافق 6 إبريل سنة 2005 في صفحتين كاملتين تحقيقا عن الشيعة حمل عناوين مختلفة أهمها: الشيعة في بلاد السنة، والسنة في بلاد الشيعة والسنة أخوة أم أعداء، وخريطة الشيعة في الوطن العربي، والشيعة مذهب إسلامي عند شيخ الأزهر، وتهمة عند ضباط المباحث، وهل خمسون في المائة من المسلمين ليسو مسلمين، وأهم المفاهيم المرتبطة بالشيعة والإمامية والغاز مذهبية شيعة ضد الشيعة وسنة ضد السنة، وعلى ابن أبي طالب أحبه الله. ظلمه الأمويون واغتاله الخوارج.
وهذه القضايا تحمل في طياتها الأدلة على عدم المعرفة العلمية بالفقه الشيعي من مصادره الأصلية، وإنما تعبر عن تصورات غير صحيحة عن هذا الفقه تصل إلى درجة الاتهام المتبادل بالكفر والزندقة أو الابتداع بين السنة والشيعة.
إن العقبات في طريق التقريب متعددة ومتنوعة، وكل دعاة التقريب يفقهون ذلك، والمهم كيف يمكن تخطي هذه العقبات حتى تنطلق الدعوة إلى غايتها وتحقيق رسالتها في التقريب كما ينبغي أن تكون.
إن للشيخ محمد الغزالي – رحمه الله – رأيا في تخطي تلك العقبات وقد مهد له بقوله: »منذ ربع قرن عرفت قضية التقريب بين المذاهب الإسلامية ونصرتها بقلبي وعقلي جميعا، وقلت: إن اليهود والنصارى طووا مسافة الخلاف بينهم، وتجمعوا علينا، واغتصبوا أرض فلسطين، وهم الآن يعدون لجعل المسجد الأقصى هيكل سليمان، ومحو إشارات الإسلام في تلك الأرضين كلها.
هل الخلاف بين أهل السنة والشيعة أعظم من الخلاف بين اليهود والنصارى؟ وهل يتعاون هؤلاء وأولئك في الهجوم علينا ونفشل نحن في الدفاع عن أنفسنا، والتساند لرد المعتدين.
من أجل ذلك أيدت قضية التقريب واقترحت لها أسسا فقهية وعلمية، وما فهمت ولا فهم غيري من رجال الشيعة أن التقريب تذويب للفوارق المذهبية، وإدماج لهذا في ذلك، إنه تجميد لأسباب الفتنة القديمة، وحبس لآثارها في الماضي البعيد، وتعاون فيما اتفق عليه، وتلطف فيما اختلف فيه، وجعل موازين الأمور تقع بين أهل الذكر من الخاصة، ونزعها في أيدي العيابين والشتامين من الدهماء.
أما الأسس التي يراها الشيخ الغزالي وسيلة للتقريب مهما تكن العقبات فهي:
1ـ تقرير الأحكام المتفق عليها بين فقهاء الإسلام، أي التي لم يثر حولها الخلاف.
2- في المسائل المختلف فيها اختلاف تنوع يؤخذ بجميع الآراء مادامت ثابتة في الشريعة، ولا معني للاقتصار على واحد منها ومخاصمة غيره.
3- في المسائل المختلف فيها اختلاف تضاد ينظر في دليل كل مذهب ويؤخذ بأقوي الآراء وأرجحها دون تعصب لمذهب.
ـ في المسائل التي يصعب ترجيح رأي من الآراء فيها، وتتساوى أدلتها في القوة يجوز الأخذ بأي رأي منها، ويحسن تقديم ما يحقق مصلحة عامة للمسلمين.
ـ يترك من الآراء ما ظهر بطلانه أو ضعفه([1]).
ويدعو الشيخ الغزالي مع الأخذ بهذه الأسس إلى أن ما وقع من خلاف بين المسلمين([2]). في القرن الأول وما نجم عنه من ظهور الفرق يجب أن يدرس في إطار البحث العلمي والعبرة التاريخية، ولا يسمح بامتداده إلى حاضر المسلمين ومستقبلهم، بل يجمد من الناحية العلمية تجميدا تاما ويترك حسابه إلى الله، وفق الآية الكريمة: »تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون« (البقرة/ 141).
وأقترح تطبيقا لما دعا إليه الشيخ الغزالي وغيره أن يعقد المجمع الموقر مؤتمرا جامعا في رحاب جامعة الأزهر أو يتولى أمر هذا المؤتمر اتحاد علماء المسلمين، ويدعا إليه عمدا كليات الشريعة في العالم الإسلامي وكذلك رؤساء أقسام الفقه والأصول والشريعة في الكليات الجامعية ويحمل هذا المؤتمر عنوان: التقريب بين المذاهب الفقهية المنهج والتطبيق، وتغطي المحاور الخاصة بالمؤتمر كل القضايا المتعلقة بالتقريب من حيث مفهومه وأهميته، والعقبات التي تعترض طريقه ووسائل التغلب عليها، ثم ينتهي هذا المؤتمر إلى إصدار وثيقة عالمية للتقريب تكون دستورا للعمل الجاد من قبل الحاضرين لجعل التقريب حقيقة واقعية وليس مجرد أمل يراود أفكار الذين يحرصون على وحدة الأمة وجمع كلمتها في عصر تداعت فيه الذئاب من كل مكان عليها دون تفريق بين مذاهبها »ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز« (الحج/ 40).
والحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله.
[1] - أنظر دستور الوحدة الثقافية بين المسلمين، ص 147، ط القاهرة.
[2] - المصدر السابق.
ارسال نظر