خواطر حول تعديل محتوى السنّة وبعض أسس الوحدة العملية
الدكتور أحمد عبدالرحمن شرف الدين
أستاذ جامعة في اليمن ومدرّس في الحوزات العلميّة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين وصلّى الله وسلّم على سيّدنا محمّد وعلى آله الطاهرين وأصحابه المنتجبين ومن اتّبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أمّا بعد:
فإنّ ما سأطرحه – على هذا الجمع المبارك الذي يضم علماء أعلاماً نحسّ أمامهم بالتضاؤل لما نعرفه عنهم من العلم في الميادين المختلفة، بل إنّي أعتبر نفسي تلميذاً لكثير من العلماء الأعلام الذين يتواجدون في هذه القاعة، فقد قرأت كتبهم التي تصل إلينا في مختلف ميادين العلم ودون أن أكون قد عرفتهم شخصيّاً، وقد منَّ الله عليّ أن حضرت هذا المؤتمر المبارك فعرفتهم بذواتهم كما كنت قد عرفتهم بعلمهم، ولذلك فإنّي أستميحهم عذراً مقدّماً عن أيّ هفوة علميّة أو لغويّة أو اصطلاحيّة ترد على لساني – هو خواطر تبدأ ببعض الأفكار العلميّة وتنتهي بتصوّرات علميّة يمكن أن تفيد في سبيل تحقيق الوحدة الإسلاميّة التي نحن بصدد الحديث عنها في هذا المؤتمر المبارك، ولكن قبل أن أبدأ بسرد هذه الخواطر أودّ أن أشير إلى بعض الملحوظات المتعلّقة بالجانب الإجرائي.
ـ(262)ـ
الأُولى: إنّ هذا المؤتمر كما عرفنا من خلال مداولاته في أيّامه الثلاثة هو مؤتمر عام وليس مؤتمراً علمياً، إذ إنّه لو كان مؤتمراً علميّاً لاقتضى أن تكون الاطروحات العلميّة قابلة للمداخلات والمناقشات والتعقيبات العلميّة، وليس مجرد إلقاء كلمات يستمع إليها الحضور دون أن يكون لهم المجال المناسب لكي يعقّبوا أو يُداخلوا أو يعلّقوا على ما طرح من قبل المتكلّمين، ولذلك كنت أودّ أن يكون عنوان المؤتمر محدّداً فيكون «المؤتمر العالمي السادس العام» حتّى يفهم أنّه لا مجال للاطروحات العلميّة التي تأتي بعدها مداخلات وتعقيبات علميّة.
الثانية: تتعلق بنتائج هذا المؤتمر؛ فأرجو أن تكون لهذا المؤتمر نتائج تخرج إلى الناس، وتوصيات يقرؤها أفراد الأُمّة الإسلاميّة حتّى يتمكّنوا من دفع هذا المؤتمر والمؤتمرين فيه إلى آفاق أرحب ولكي يمثّلوا رافداً لقضية الوحدة الإسلاميّة، فلا يكتفى أن يكون حملة لواء الوحدة الإسلاميّة هم الموجودون في هذا المؤتمر، بل لابدّ من رديف واسع من المثقّفين والمهتمين بهذا الجانب يدفعون هذه القضيّة إلى الأمام.
الثالثة: تتعلّق بجانب النَّشر والتوثيق، فلذلك أرجو أن يكون كلّ ما طرح في هذا المؤتمر موثّقاً بصورة دقيقة يخرج بعد ذلك في وثيقة واحدة في صورة كتاب على سبيل المثال، ويوزّع على أوسع نطاق حتّى تُنقل هذه الأفكار التي طُرحت في هذا المؤتمر الكريم من حيّز القاعات إلى الآفاق الأوسع.
وانتقل بعد ذلك إلى الخواطر الفكريّة ذلك أنّه قد أثارت عندي كثيراً من الاهتمام في الجانب الفكري كلمات كثير من العلماء الأعلام الذين تحدّثوا قبلي، فأردت أن أُدلي بدلوي في هذا المجال؛ والموضوع يتعلّق بمصادر التشريع الإسلامي؛ ذلك أنّكم تعرفون جميعاً أنّ مصادر التشريع الإسلامي عند المسلمين على مختلف فرقهم وطوائفهم تنقسم إلى قسمين:
ـ(263)ـ
1 – المصادر الأصليّة: وهي القرآن والسنّة بالاتّفاق، والإجماع على خلاف بينهم من حيث مداه، ومن حيث كونه حجّة من مصادر التشريع.
2 – المصادر التّبعيّة: كالقياس والاستحسان والاستصحاب والمصالح المرسلة وما إلى ذلك.
وأريد أن أُلقي خاطرتي فيما يتّصل بالمصادر الأصليّة، أُركّز على المصدر الثاني الذي هو السنة النبويّة، ذلك أنّ القرآن الكريم من حيث ثبوته لا خلاف فيه بين جميع المسلمين فهو ما نقل إلينا بالتواتر بين دفَّتي المصحف، فهو من حيث الثبوت عند جميع الفرق الإسلاميّة، وعند كل أفراد الأُمّة الإسلاميّة لا خلاف فيه، ولكن الخلاف حاصل بشأن المصدر الثاني من جانبين:
الجانب الأول: يتعلق بثبوته.
الجانب الثاني: يتعلق بدلالاته.
وأنتم تعرفون أنّ هذا المصدر هو أوسع مصادر التشريع ذلك أنّه هو الذي يبيّن مجمل القرآن ويفسّر غموضه ويبيّن دلائله المختلفة، ولذلك فإنّه إذا كان الأقدمون – من سُنّة وشيعة – قد حدّدوا بدقّة محتوى السنّة النبوية المطهّرة بطريقين مختلفين بحيث أصبح كلّ طرف ملتزماً بالنصوص التي وصلت إليه من طريقه، ومتعبداً الله بها ومستنبطاً الأحكام الشرعيّة في مستجدّات الأمور في ضوئها، إذا كان الأمر كذلك فإنّنا نتساءل الآن هل يستطيع العلماء المعاصرون من الفريقين أن يبحثوا من جديد صدق الرواية، وصدق الطريق الموصل إليها ؟
إنّ هذه المسألة لا تخفى عليكم خطورتها، ذلك أنّ البحث في مصدر السنة النبويّة الشريفة في الوقت المعاصر يقتصر على مجال الدراية لا مجال الرواية، ولو سمحنا لأنفسنا أن نبحث في مجال الرواية فإنّ الأمر سيوصلنا إلى التشكيك في سلامة الطريق الذي
ـ(264)ـ
أوصل إلينا هذه السُنّة. هذا من ناحية، ثمّ لأوصلنا من ثمّ إلى تعديل محتوى السُنّة النبويّة الشريفة؛ ثمّ من الذي سيقوم بهذه المُهمّة ؟ وفي أيّ إطار ؟ بمعنى، هل سيقوم بها علماء السنة والشيعة معاً أم أنّ علماء السنة يقومون بهذه المهمة وحدهم، أم يقوم بها علماء الشيعة، وأيّ طريق سيخضع للبحث، هل طريق أهل السُنة في هذا العصر، فإنّه قد يفتح الباب لإجراء تعديلات أُخرى من قبل علماء في المستقبل؛ الأمر الذي يجعل السُّنّة النبويّة الشريفة غير مستقرة، وقابلة للزيادة والنقصان.
إنّنا نعلم أنّ قواعد الجرح والتعديل لرجال الحديث قد استقرت عند الطرفين منذ زمن بعيد، وكلّ طرف قد استقرت عنده بصورة غير قابلة للشك في تلك القواعد المعرّفة بالعدول من الرجال والمجروحين منهم.
فهل بإمكاننا الآن التعديل في هذه المسألة ؟ وإذا عدلناها فإنّ الميزان سيختلّ وتسقط الثقة بالسُّنّة النبويّة كلّها، كما أشرت قبل قليل.
لو قلنا مثلاً: إنّ زيداً من الناس الذي كان عدلاً قد أتت عن طريقه آثار غير صحيحة، فمعنى ذلك التشكيك بكل ما أُتي عن طريقه، فلا يمكن أن يكون الراوي عدلاً في أثر ومجروحاً في آخر؛ وينطبق نفس الأمر على من لو تمّ القول بتعديله في بعض ما ورد عنه بالرغم من كونه مجروحاً، إذ يقتضي ذلك الأخذ بكل ما ورد عنه فيختل الميزان أيضاً.
إنّ القضيّة وفقاً لما أشرت إليه في غاية الخطورة، وإذا لم نتنبه لهذه المسألة فإنّ مؤتمراتنا كلّها ستظلّ تدور في حلقات مفرغة قد لا تصل إلى نتيجة معينة أبداً.
ويمكنني هنا أن أضرب مثالين بإمامين عظيمين أحدهما من علماء السُنّة والآخر من علماء الشيعة لتتضح لنا صعوبة تغيير المنهج، والنظر في الطريق الذي أوصل إلينا السُنّة
ـ(265)ـ
النبوية الشريفة!
الأول: الإمام ابن حجر العسقلاني، وهو من علماء السُّنَّة حيث يقول وهو يتحدّث في مقدّمة كتابه «لسان الميزان» المتخصّص في علم رجال الحديث، عن رجال الجرح والتعديل مامعناه: «عجبت لتعديلهم الناصبي مطلقاً وتضعيفهم الشيعي غالباً إذ إنّ من المفروض أن يعدّل الشيعي ويجرح الناصبي استدلالاً من قوله صلّى الله عليه وآله وسلم لأمير المؤمنين علي عليه السلام «لا يُحبّك إلاّ مؤمن ولا يبغضك إلاّ منافق» فالناصبي هو المبغض لأمير المؤمنين، والمبغض منافق، والمنافق فاسق، والفاسق لا تقبل شهادته أمّا الشيعي فهو محبّ لأمير المؤمنين، والمحبّ مؤمن، والمؤمن مقبول الشهادة فكيف انعكس الأمر، كيف أصبح من يفترض أنّه مجروح عدلاً، في حين أن من يفترض أنّه عدل أصبح مجروحاً ؟
هو يسأل هذا السؤال، ولكن مع اعترافه بهذا الخطأ لم يستطع أن يحلّل نفسه من الطريق الذي أوصل إليه السُنَّة النبويّة، وبما أنّه من علماء السُنّة فهو ملتزم بما وصل إليه من السنة النبوية وفقاً لقواعد الجرح والتعديل وإذا لم يلتزم بضوء ما وصل إليه في ظل هذه القواعد فإنّ الأمر بالنسبة له سيضطرب جداً. ولذلك لجأ إلى المناورة وإيجاد المبررات للنّاصبي لكي يظل ملتزماً بنفس الطريق، فقال: «إنّ البغض هنا جاء لسبب غير ديني وإنّما لسبب دنيوي» ولا شكّ أنّ هذه مناورة لا يخفى ضعفها وهزلها عند ذي البصيرة المنصف.
الثاني: هو الإمام الشهيد محمد باقر الصدر قدس سره؛ ذلك أنّ هذا الإمام الجليل في استنباطاته يعمل العقل بعمق شديد، ومن قرأ كتبه فإنّه يستطيع أن يستجلي هذه الحقيقة، ككتابه في الاقتصاد «اقتصادنا» فإنّ فيه عمقاً عقلياً شديداً، ويعتمد في طرحه هذا على النصوص التي وردت من الطريق المعتمد لديه، ولكنّه أحياناً يجد نصوصاً سطحيّة بالنسبة للعقل ويصعب على مثله في حالة عدم وجود النّصّ التسليم بما جاء فيه،
ـ(266)ـ
ولكنّه لا يستطيع أن يتخلّص منه، لأنّه إذا تخلّص منه جاز التخلّص من النصوص الأخرى في المسائل العقيديّة وفي مسائل أخرى أكثر خطورة، ومن ثمّ فإنّه يحاول التبرير بكلّ وسيلة لهذا النصّ السطحي، وثم تأكيده لا رفضه.
إنّ الأمر يقتضي البحث في آلية مناسبة للتقريب بين المذاهب الإسلاميّة وذلك باتّباع الخطوات العمليّة التالية:
الأولى: الاعتراف بكلّ المذاهب الإسلاميّة، وبصحة التعبّد بها وترك الهجوم من أتباع بعضها على بعضها الآخر.
الثانية: تطبيق مبدأ التسامح المذهبي وغرس مفهومه بين الأتباع، بحيث يمتنع على كلّ مسلم الإنكار على المسلم الآخر الذي يتعبّد بمذهب آخر، وهذه مسألة – لا تخفى عليكم – نشاهدها عملياً في الواقع؛ فإذا رأى رجل من أهل السُنّة شيعياً يتعبّد في مسجد أنكر عليه طريقة تعبّده، وإذا وجد شيعي سُنّيّاً يتعبّد بطريقة لا يعرفها أنكر هذه الطريقة.
ولذلك فإنّنا نقول: إنّ تطبيق مبدأ التسامح المذهبي مبدأ مهم ينبغي أن يتبنّاه العلماء والمفكرون ويطرحوه بين الأتباع بصورة واسعة حتّى يصبح أمراً مستقرّاً في أذهان الأتباع فلا يعمد مسلم إلى الإنكار على مسلم آخر عندما يراه يتعبّد الله سبحانه وتعالى بطريقة غير طريقته.
الثالثة: التوقّف عن محاولات الإقصاء والإبعاد المذهبي، ومحاولات الحلول محل الذي أُقصي أو أُبعد كما يجري حالياً في كثير من البلدان، فما نشاهده عملياً أنّ أتباع بعض المذاهب يحاولون إقصاء المذهب الآخر لكي يحلّوا مذهبهم محلّه ومن ثمَّ إلغائه وإنهائه من الساحة الإسلاميّة وهو أمر في غاية الخطورة.
ولذلك لو تبنّى العلماء والمفكرون هذا المبدأ بحيث دعوا إلى التوقّف عن محاولات الإقصاء والإبعاد المذهبي ومحاولات الحلول محلّ الذي أُقصي، فإنّ الأمر حينئذٍ سيكون
ـ(267)ـ
مهمّاً للتقريب بين المسلمين ممّا يعجّل بالوحدة الإسلاميّة.
الرابعة: الأخذ بمبدأ المقارنة في الدراسات الإسلاميّة حتّى يتيسّر للمسلمين جميعاً الاطّلاع على أحكام جميع المذاهب الإسلاميّة والابتعاد عن المناظرات التي تعضّد هذا وتقلّل من ذاك، ولا شكّ أنّكم تعلمون أنّ كثيراً من الكتابات التي تصدر تسلك منهج المناظرات، ولا تسلك منهج البحث العلمي. إنّ المناظر يحشّد الأدلة التي تؤيّد مذهبه، ولكنّ الباحث يأخذ الأدلّة من أيّ مصدر كان لكي يصل إلى الحقيقة السليمة بعيداً عن التعصّب.
الخامسة: تشجيع مبدأ البحث العلمي الحرّ بعيداً عن الاضطهاد الفكري والإرهاب الثقافي ونشر البحوث العلميّة في كلّ أقطار المسلمين وبمختلف لغاتهم حتّى يتسنّى لكلّ المسلمين الاطلاع على نتائج هذه الأبحاث.
أُضيفُ إلى هذا: أنّ التوصيات المقترحة – بطبيعة الحال – لا يمكن أن تتحقّق واقعياً إلا بخطوات قد لا تكون بأيدي العلماء والمفكرين، وإنّ المسألة تحتاج أولاً إلى لقاءات تصالحيّة بين رجال الفكر في المذاهب المختلفة يتّفقون فيها على توصيات معيّنة، فإذا اتّفق العلماء على ذلك وهم حملة فكر المذاهب المختلفة صارت مسألة التقريب بين المذاهب من جهة، وبين أتباع المذاهب من جهة أُخرى أمراً ممكناً وميسوراً.
ولا نغفل هنا عن العامل السياسي؛ فالفكر يتأثّر بالتوجّهات السياسيّة، والسياسيون لهم تأثير – لا شكّ فيه – على رجال الفكر، ونحن نعتقد أنّ النتاج الفكري للمسلمين الأقدمين لم يبعد عن الواقع السياسي، بل تأثّر به وأفرز توجّهه.
وهكذا فإنّه إذا كان بالإمكان العمل على جمع رجال السياسة في رحاب الإسلام بمفهومه الواسع للاتفاق على تصالح يخدم جانب التّصالح الفكري وفقاً لما أشرت إليه سابقاً فإنّ تلك ستكون الخطوة العمليّة الحاسمة المؤثّرة إيجابياً في هذا السبيل، فلا يغيب
ـ(268)ـ
عن بالنا أنّ المؤسّسات التعليمية والمراكز الثقافية في البلدان الإسلاميّة تخضع للحكومات ذات التوجّهات السياسيّة المختلفة، وتعكس هذه التوجّهات، كما أنّ الوسائل المادّية التي تخدم الجانب الفكري من دور نشر ومكتبات ووسائل إعلام ونقل و... تخضع مباشرة للنّفوذ السياسي، ومن ثمَّ فإنه لا يمكن – في نظري إطلاقاً – إيجاد تقارب بين علماء الإسلام ومفكّريهم وبين مذاهبهم المختلفة ما لم يؤخذ في نظر الاعتبار العامل السياسي الذي أشرت إليه.
ويمكن أن أضيف خطوة عمليّة أخرى هي البحث فيما هو مهمل ومتروك في مصدري السنة عند الفريقين أو البحث في الاستنباطات الخاطئة التي ثبت أنّها قد حكّمت الهوى أكثر من الدليل، ومن ثَمّ يحكّم هذا المهمل وتصحّح الاستنباطات الخاطئة فربّما كان هذا القدر هو ما يحقّق التقريب، ويوجد القدر المشترك الذي يضيّق الشُّقَّة بين الفريقين.
إنَّ القضيّة التي نحن بصددها هي قضيّة عمليّة أكثر من كونها قضيّة نظريّة وعليه فإنّ تحقيق النتائج المرجّوة من هذا المؤتمر المبارك ومثيلاته من المؤتمرات يقتضي فهم هذه الحقيقة أولاً وقبل كلّ شيء، واستميحكم عذراً والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلّم على سيّدنا محمّد وآله.
ارسال نظر