تقرير حول (مسيرة التقريب بين المذاهب الاسلامية) في تونس
الاستاذ الدكتور محمد البشير البوزيدي
استاذ الفقه المقارن ومدير المعهد الاعلى لاصول الدين بجامعة الزيتونة
تحية مباركة طيبة، وبعد،
فإنه يسعدني أن أرفع إلى علمكم أن بلادنا تونس كانت رائدة في الدعوة إلى التسامح الديني والمذهبي على امتداد التاريخ، وذلك بسبب موقعنا الجغرافي على ضفاف البحر الأبيض المتوسط الذي جعل منها مركزا مناسبا لكثير من الدعوات السلمية التي قادها رجال اتصفوا بقدر كبير من الحكمة ورحابة الصدر والاعتراف بحق الآخرين في اعتناق الاديان والمذاهب والافكار التي يختارونها دون ان يسجل لنا التاريخ وقوع فتن أو تصادم بين الحضارات المختلفة التي تعاقبت على هذه الارض الطيبة ، ولاشك أننا ورثنا في عصرنا هذا رصيدا كبيرا من هذا التاريخ، فتونس اليوم هي من أشد البلدان استعدادا لتقبل التنوع والتعدد في الاديان والمذاهب، وذلك مع تمسكها رسميا بالاسلام دينا وبالنسبة المالكية مذهبا، غير ان هذا التوجه لم يعرف انغلاقا او دعوة الى مصادرة حق اتباع الاديان والمذاهب المخالفة ، إذ كان الموقع الجغرافي البعيد عن بؤر التوتر المذهبي والصراع بين الفرق المختلفة عاملا أساسياً ومشجعا على ان تتبنى تونس دوما وبلا انقطاع منهج الوسطية والاعتدال، ويبرز هذا المنهج خاصة في المواقف السياسية الرسمية التي تبنت الاستماع الى الفكر التعددي من خلال دعوة سماحة الشيخ محمد سعيد النعماني من إيران إلى إلقاء المحاضرات في تونس في مناسبات متكررة ومختلفة ، منها ما ارتبط بذكرى مولد النبي الاكرم(ص) بدعوة من الوزارة الشؤون الدينية التونسية وتحت سامي إشراف سيادة رئيس الجمهورية زين العابدين بن علي ، ومنها ما كان ليلة السابع العشرين من رمضان بالقصر الرئاسي بقرطاج وبحضور سيادة رئيس الجمهورية، وقد كان لهذه المناسبات اصداء ايجابية انتشرت بشكل واسع في وسائل الاعلام السمعية والمقروءة والمرئية.
وأما في مستوى الجهود العلمية التي ما أنفكت تصدر عن علماء تونس في مستوى الافراد والمؤسسات، فيمكن القول ان العمل على التقريب بين المذاهب الاسلامية امر لا تشوبه اي شائبة من دواعي التعصب او التحريض او الانغلاق، نظرا الى كون بلادنا لم تكن يوما طرفا في الصراعات المذهبية التي عادة ما كان الشرق الاسلامي مسرحا لها، مما جعل العلاقة بين اتباع الفرق والمذاهب الاسلامية في تلكم الربوع بين مد وجزر، أما بلادنا التونسية فيدها بِحَمد الله بيضاء وخدماتها التي اسدتها للاسلام والمسلمين شاهدة على فطرتنا السليمة وعقيدتنا القويمة ودعوتنا الى ضرورة اتحاد اهل الاسلام تحت راية القرآن والسنة المباركة لسب الانام عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام.
ولقد لاحظ الدكتور محمد اليعلاوي في الصفحة 16 من المقدمة التي كتبها على ديوان الشيخ ابراهيم الرياحي رحمه الله (1180-1266/1767 – 1850م)، وهو من الشيوخ الزيتونة وعلمائها المبررين، شدة تعلق الشيخ بآل البيت وحبه لهم حتى لكأنه شيعي إمامي رغم انتمائه الى مدرسة أهل السنة في الاصول والفروع ، ويتجلى ذلك من خلال قول الدكتور اليعلاوي على ان الذي يلفت الانتباه في المدائح المغربية وهو التعلق بآل البيت الى حد يتوهم معه ان صاحبنا اي الشيخ ابراهيم الرياحي – شيعي لولا أنه يتبرك ايضا بالشيخين وعثمان وحمزة والعباس وسائر الصحابة والتابعين فلئن يذكر الائمة من بيت الرسول (ص) ابتداء من اصحاب الكساء – او العباء كما يقول احيانا – الى المهدي المنتظر فليس يصدر عن انتماء الى الاثني عشرية الامامية، ولكن عن حب لآل البيت يشترك فيه مع كافة المغاربة.
وذكر الدكتور اليعلاوي في الهامش رقم 1 بالصفحة 38 من الديوان ان الشيخ ابراهيم الرياحي (عدّد في هذا التوسل الائمة الاثني عشر عند طائفة الشيعة الامامية، مما يضفي على المدحة نفحة شيعية، ولكن توسله بالشخين – البيت 5 - ، وبعثمان – البيت 6 يمنع من هذا التأويل.. وقد كثر عند الشيخ تعظيم آل البيت، وذكر السبطين والأئمة من بعدهما، مما يشعر بأن اهل تونس، والمغرب بوجه عام، يكنّون احتراما خاصا لعترة الرسول(ص) ، وهم لايزالون على ذلك)…
هذا وسأرسل الى سماحتكم فضيلة الأمين للمجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الاسلامية نسخة مصورة من القصيدة التي وردت في الصفحات 37 – 38 من الديوان، وكذلك صورة من القصيدة التي وردت في الصفحات 178 – 179 وعلق عليها الدكتور اليعلاوي ايضا بقوله: (عدد الشيخ ائمة الشيعة الاثني عشرية، وهم بعد علي زين العابدين، محمد باقر، جعفر الصادق ، موسى الكاظم، علي الرضا، محمد الجواد، علي الهادي والحسن العسكري. وختم بالمهدي المنتظر وهو الذي سيقدم في آخر الزمان بعد الغيبة الطويلة – دور الستر – فيملأ الأرض عدلا. ولا تخلو هذه القصيدة – بل هذا الدعاء – مثل غيرها مما مر في مدح الشيخ النبي وآله ، من نفحة شيعية مستغربة من هذا الفقيه المالكي الكبير، وهي نفحة تفوق بكثير التعاطف المشروع مع آل البيت ومحنتهم الموصى بها).
وتبدو الموضوعية العلمية في كثير من السطور التي دَوّنها علماء تونس بلا تحير او إقصاء، ومن ذلك ما ذكره العلامة التونسي سماحة الامام محمد الطاهر ابن عاشور نقلا عن كتاب المعيار المعرب للشيخ احمد بن يحيى الونشريسي الذي نقل بدوره عن جامع الاصول لابن الأثير من أن المذاهب المشهورة في الاسلام التي عليها مدارس السملمين في اقطار الارض هي مذهب الشافعي وأپي حنيفة ومالك واحمد ومذهب الامامية (أنظر كتاب تحقيقات وانظار – ص 118 – الشركة التونسية للتوزيع – الطبعة الأولى – 1985)، ثم عدد العلامة ابن عاشور في الصفحات 118-19 من كتاب تحقيقات وأنظار، اعتماداً على المصدر الذي نقل عنه آنفا جمعا من أئمة الشيعة وعلمائهم باعتبارهم من المجددين على رأس بعض القرون ألى جانب أحوالهم من علماء اهل السنة وشيوخهم ، فذكر الامام محمد بن علي الباقر من بين مجددي المائة الثانية، وأبو جعفر محمد بن يعقوب الرازي من شيعة المائة الثالثة والشريف المرتضى على رأس المائة الرابعة).
ولم تجد تونس في عيدها الجديد عن خط الدعوة الى التقريب بين المذاهب الاسلامية بصدق واخلاص ، ويبرز ذلك من خلال الدور الريادي لجامعة الزيتونة في احتضان جهود التقريب والتعبير عن استعدادنا لدعم هذا التوجه قولا وعملا فقامت الدولة بتبني تنظيم الندوات واللقاءات لتكريم العلماء الأعلام والفقهاء الكرام، وما الندوة العلمية التي انعقدت فعالياتها في تونس بتاريخ 8-9-10/12 / 1998 في رحاب جامعة الزيتونة العريقة بالتعاون مع المنظمة الاسلامية للتربية والعلوم والثقافة تحت عنوان (ادب الاختلاف في الاسلام) ، وشارك فيها علماء من جميع المذاهب الاسلامية من أهل السنة والشيعة الامامية والزيدية واخواننا من اتباع الفرقة الاباضية، سوى دليل أكيد على جدية مبادراتنا وصدق التزاماتنا واستعدادنا للعمل بإخلاص مع كل الجهات الصادقة والمخلصة في سعيها الى بناء الإتحاد الاسلامي على أسس منيعة تعيد الى الامة الاسلامية أمجادها بمنهج اصلاحي اصيل يوحد كلمتنا ويقوي صفنا ويزل الفوارق بيننا.
ولا ينبغي ان يفوتنا في نفس هذا الإطار التنويه بالاجراءات الرائدة والقرارات الصائبة التي اتخذها جامعة الزيتونة - بتشجيع من الدولة - بإقرار تدريس التفسير عند الشيعة الامامية من خلال (مجمع البيان في تفسير القرآن) للشيخ ابي علي الفضل بن الحسن الطبرسي، كما نصت البرامج الرسمية في جامعتنا على إدراج الفقه الجعفري ضمن مادة الفقه المقارن، وذلك بالاعتماد على كتاب (المبسوط في فقه الإمامية للشيخ أپي جعفر الطوسي ، اضافة الى إقرار كتاب (فرق الشيعة) لأبي محمد الحسن بن موسى النوبختي من أعلام القرن الثالث للهجرة ضمن اختصاص الفرق الاسلامية، وليس من شك في ان هذا الاتجاه الرصين والجريء من شأنه ان يزكو ويشع بإشاعة روح الانفتاح ومناقشة الاتجاهات العلمية المختلفة بروح موضوعية بناءة ونزعة تدعو الى مشاركة جميع المذاهب من أجل التقريب ونبذ الانغلاق والاقصاء، أو تهميش وجود بعض الفرق الاسلامية حساب فرق أخرى.
لكن الكلمة التي يجب علينا أن نقولها في ختام هذا التقرير هي أنه رغم أننا كنا رواد الدعوة الى التقريب بين المذاهب الاسلامية منذ عهود بعيدة، ويعود ذلك ألى موقعنا الجغرافي في الغرب الاسلامي الذي قلما عاش ما يعرف في المشرق بالفتن والخلافات الطائفية.
على أننا نعلن اليوم أن المستقبل واعد بظروف جديدة ستمكّن دول اتحاد المغرب العربي، ولا سيما بلادنا تونس، من الاضطلاع بأفضل الادوار في سبيل العمل على التقريب بين المذاهب الاسلامية، وذلك بالتعاون مع كل الاطراف التي يعنيها تحقيق الوحدة الاسلامية والأخوة الحقيقية بين أبناء جميع المذاهب الإسلامية المختلفة.
وفي ختام هذا التقرير اود حضرة الامين العام للمجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الاسلامية أن أعرب لفضيلتكم عن استعدادي للعمل معكم من أجل تحقيق اهداف المجمع الذي تضطلعون بمسوؤلية أمانته العامة.
تقبلوا مني اسمى مشاعر المودة والتقدير، ودمتم بخير والسلام.
ارسال نظر