قوى الاستكبار والتيارات التكفيرية دوافع التقسيم وسبل المواجهة
د.صادق عفيف النابلسي
أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية في الجامعة الدولية اللبنانية ــــ بيروت
صارت الأرض لا تطاق. ينوشها الاضطراب في كل مكان مهدداً التماسك الهش الذي يربط بين أجزائها. الحدود التي رسمتها الحربين الأولى والثانية باتت مثل خشب يقطّع وحجارة تتفتت، وهي اليوم أمام اختبار التحديث إن لجهة الشكل أو الدور، بعدما أدّى التصادم الاستراتيجي بين القوى الإقليمية والدولية على اختلاف أوزانها إلى زعزعة الأسس التاريخية التي قامت عليها التوازنات الجغرافية السابقة . ومثلما انطفأ وهج الأمبراطوريات بمساحاتها الشاسعة أم زحف الدول الوطنية بأحجامها المتواضعة نسبياً خلال القرن التاسع عشر، تخفي حركة التاريخ نموذجاً جديداً للحكم هو محصلة تفاعلات اجتماعية وثورات سياسية وتعبيرات حضارية وحقائق إنسانية ظاهرة ومؤثرة في حسابات القوة والحق على حدّ سواء، وبات بالإمكان ترصّد إحساس عام بأنّ الأرض مهيأة لظهور صيغة أو صيغ تعكس التزاماً أمتن من قبل الفاعلين لإعادة تشكيلها.
إذاً، بدأت المعالم الجغرافية تتغير مع عاصفة التحولات الكبرى التي شهدتها أوروبا لحظة انهيار جدار برلين(1989) وتفكك الإتحاد السوفياتي(1991). قبلها كانت الجغرافيا ثابتة ومستقرة لمدة 45 عاماً وإن عبر عزل أمم بعينها خلف ستار حديدي أو بفعل كبح المشاعر القومية وتجميد المتناقضات السياسة والطبقية والدينية للحفاظ على (وحدة التراب) بالتمسك بــ(وحدة الأيديولوجيا). وفي المنطقة العربية بدأت منهجية التفكيك فعلياً مع رياح (الربيع العربي) أواخر 2010 بغرض أن تصبح الكيانات السياسية الجديدة أكثر ملائمة للجغرافيا العرقية أو الطائفية. التفكيك وإعاة التركيب في أوروبا كانا يشيران إلى حركة الصراع ضد الشيوعية ممثلة بالإتحاد السوفياتي، وفي المنطقة كانا يشيران إلى حركة الصراع مع الإسلام ممثلة بإيران وإلى النتائج المتداعية لهذه الحركة التي فرضتها ظروف القضية الفلسطينية والصراع مع العدو الإسرائيلي. لا أحد اليوم يستطيع أن يجزم بدقة كيف سيرسم الشكل الجديد للأرض. الجغرافيا في حالة استنزاف مستمرة، والحدود ليست في مأمن من التبديل، هي بين مدّ وجزر إما بفعل قوة الطموح وأحلام التوسع وإما تحت وطأة الانكسار والتداعي. يحتفظ
كبير السحرة الامبرياليين (الولايات المتحدة) بدور المهندس الدولي الذي يدأب على استبدال الخرائط القديمة بمقاييس لا توقعه في فخ التكرار وعلى أساس معادلات مطوّرة هدفها الإمساك بحركة النظام العالمي وضبط إيقاعه، غير أنّ الأمر لا يمكن تصوره إلا في إطار صراعات مجنونة محفوفة بالمخاطر وتجارب دموية مريرة قد تكلّف الشعوب فوق ما تطيق. وفي هذا المنظور يبدو فقدان الشعور بالطمأنينة والسكينة عاماً، لا بسبب الحروب والنزعات العنفية فحسب بل نتيجة انحدار البشرية إلى أقصى حدود التحلل الخلقي. كما أنّ تراجع (الوعي بالنوع) وبأهمية التضامن الإنساني والمصالح والعواطف الجماعية يدفع البشرية إلى التشاؤم واليأس، فيما دينامية الفساد والإفساد لا تزيد الفجوة بين الموسرين والمعوزين فقط، ولا تؤجج المشاحنات بين جنوب الأرض وشماله دون توقف، ولا تطيح بمفهوم العدالة الدولية والقانون الدولي وحقوق الإنسان بحسب المعايير المعمول فيها حالياً، وإنما على تغيّر قواعد التوزيع الديمغرافي والاثني والديني، وأبلغ تعابيره وإفرازاته تكمن في تكوين الهويات أو إذابتها، واندماج أوطان أو تشققها. اليوم هناك إدراك متزايد أنّ هذه الأرض تحدق في هاوية المستقبل. ويتمحور جانب كبير من هذا الإدراك بحقائق طبيعية وأخرى بمحتوى السياسات التي تقود دفة البشرية. في البعد الأول اختلال حاد في التوازن البيئي يؤدي إلى سلسلة من الأخطار كالجفاف والزلازل والبراكين والأعاصير والاحتباس الحراري. وفي البعد الثاني سياسات متمادية تقوم على العدوان والاحتكار والهيمنة والاستغلال والطموحات غير المشروعة، كما في الأجواء التي توفر تربة صالحة لنمو الأفكار العنصرية والاتجاهات الطائفية والأيديولوجيات التي تبرر الصراع بين الثقافات والحضارات. تاريخ جديد يولد على هذه الأرض يفتح الطريق واسعاً أمام صدام بين الهويات الدينية والكتل الإثنية والوحدات السياسية تجعل الشعوب جماعات متذررة تبحث باهتياج شديد عن حل دائم ونهائي لأزماتها العميقة من دون معرفة السبيل إلى ذلك.
بعد تأسيس الأمم المتحدة (1945) التي نشأت عقيب فشل عصبة الأمم (1919) في منع الحروب، تجدد الأمل بعالم جديد تتوفر فيه حماية كاملة للإنسان من الاضطهاد والعسف والأعمال الوحشية والتطهير العرقي والديني وبات على المنظمة الدولية واجب احتواء النزاعات وتحميل المسؤولية القانونية والأخلاقية لكل الأفراد والمجموعات والدول التي تلجأ إلى قوة الإخضاع والإبادة والتدخل العسكري المباشر لتحقيق أهدافها، لكن سرعان ما تبدد هذا الأمل بسبب تعارض المصالح القائمة على السيطرة والهيمنة للدول الكبرى كالولايات المتحدة الأميركية وبين تطبيق ميثاق الأمم المتحدة.
بهذا المعنى تبدو أكثر المقاربات تفاؤلاً بشأن المستقبل مليئة بالوساوس والشكوك شاطرة حياة البشر شطرين: الماضي، من جهة، مقترناً بكل ما فيه من تحديات تعكس النضال من أجل البقاء والعيش في ظل حياة كريمة . ومن جهة ثانية، المجهول الذي لا أحد بمقدروه أن يتبيّن في أفقه متى تنتشر بقعة ضوءٍ تفتح العيون على أملٍ سرمدي بالأمن والسلام يخيمان على تمام البسيطة. ذات مرة أفصح برتراند راسل عن بعض الأفكار القاتمة بصدد مصير الأرض. قائلاً:" بعد عصور أعطت خلاله الأرض المفصليات ثلاثية الفصوص والفراشات غير الضارة، تواصل التطور اطراداً حتى بلغ النقطة التي أنجب فيها معشر النيرونيين والجنكيزخانيين والهتلريين. وهذا في ظني كابوس أسود، فمع مرور الزمن ستعجز الأرض مجدداً عن تحمل الحياة" . وليس بعيداً عن هذه الزمر يأتي الأميركيون في هذا الطور الزمني على رأس اللائحة السوداء. وللتذكير فمن ألقى القنابل النووية على هيروشيما ونكازاكي ومن قام بعمليات الإبادة العرقية في العراق وأفغانستان وفيتنام ومن دعم القادة العسكريين في العديد من بلدان أسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية لتطهير مجتمهاتهم وارتكاب جرائم وحشية ، ومَن حاصر بقسوة دولاً كــ (كوبا وإيران وكوريا الشمالية)، ومن دعم عمليات سرية للإرهاب أدت إلى قتل وتشريد وتجويع الآلاف، هي الولايات المتحدة الأميركية التي يتكشّف أيضاً تورطها في صنع الفوضى العربية العارمة تحت مسمى(الربيع العربي) حيث كشف رئيس وكالة الاستخبارات السابق جيمس وولسي ما مضمونه: " سنصنع لهم إسلاماً يناسبنا، ثم نجعلهم يقومون بالثورات، فيتم انقسامهم على بعض لنعرات تعصبية. ومن بعدها قادمون للزحف وسوف ننتصر" . ثم تليها إسرائيل الدولة التي يُعتبر العدوان جزءا من شخصيتها وهويتها حيث مارست وما تزال أبشع صنوف القتل والتدمير والتهجير القسري ضد الفلسطينيين وقد بلغ الخطر الذي تشكله على الأمن والسلم في العالم أشد عيانية من أن يستطيع المرء تجاهله. وما يحصل اليوم في غزة من مجازر مهولة يعزز الاعتقاد أنّ زلزالاً مهولاً سيتحرك لا ليضرب المنطقة فحسب بل العالم بأسره . ثم تأتي الجماعات الإسلامية المتشددة المتعطشة للدم، والمحكومة بخلفية تاريخية ونفسية في ممارساتها وعوائها البربري المتوحش، لتجعل الأرض أكثر إنهاكاً وإرهاقاً ورغبة بالانتقام من إنسان لم يحسن التعامل معها ولا يصلح أن يعيش فوقها بعدما ملأها جوراً وظلماً ونزاعات وحروب أفرزت جوعاً وبؤساً وخوفاً ومتاعب لا تحتمل.
وعلى عكس هذه النظرة السوداوية وفي حوار ذكي بين (أرخيب والقوزاقي) أبطال رواية للأديب الروسي مكسيم غوركي. يقول أرخيب :" يموت الناس جوعاً..حتى الخنافس تموت جوعاً. السبب
الرئيسي هي الأرض.هذه الأرض ما عادت تنتج. لقد استنفدناها. هز القوزاقي رأسه: الأرض؟ الأرض يجب أن تنتج باستمرار، وهي ما أعطيت للإنسان إلا في سبيل ذلك. قل بالأحرى إنها ليست الأرض بل الأيدي، الأيدي السيئة"!.
في الواقع، إنّ ما يؤكد جذرية هذه التحولات ما نعاينه من ظواهر ومخططات وسياسات كبرى. القليل من الاكتراث والبحث على محرك (غوغل) الشهير بمستطاعه أن يُخرج لنا عشرات الأسماء المخططة والمساهمة والفاعلة على خط التخلّص من (سايكس-بيكو).
برنارد لويس،كارتر، بريجنسكي، وغيرهم ممن ضجت بأسمائهم مراكز الأبحاث والصحف ومواقع التحليل الإخباري مؤخراً، عملوا بلا هوادة منذ عشرات السنين على استدعاء كل عوامل التقسيم واستجرار كل بذور الانشقاق في الأفكار والمصالح والعقائد والهويات التي تحتّم الصدام في سعة لا حدود لمأساويتها. جهد سري ضخم بُذل لإيقاظ العصبيات الدينية والإثنية والأهليّة من سباتها الطويل تحت مسمى (الفوضى الخلاقة) التي أنتجت (ربيعاً عربياً) أنهى بالكامل قرناً من وهم الوحدة العربية.على أنّه منذ الرسمة الأولى للمنطقة على يد الآباء المؤسسين، لم يعرف العرب أي تحوّل ديمقراطي استثنائي يجعل من الكيانات القطرية دولاً ذات مضمون حقوقي إنساني لها منافذ على المستقبل، ومن الدول أمة تامة التطلعات الثقافية والمادية والروحية بحيث لا ينقطع اتصالها باللغة والتاريخ والأرض والزمن. نما العرب وهم مصابون بالاكتئاب والعجز والكراهية الشديدة لكل من البريطاني مارك سايكس والفرنسي فرانسوا جورج بيكو لكونهما السبب في التفسخ والتبعثر والتخلف والاستبداد الذين عاينوا أقبح صنوفه عبر حكام ودّ مظفر النواب أن لم يرهم قائلاً:(يا رب كفى حكاماً مثقوبين)، وأنظمة جرّت ندماً وأعقبت سدماً، جعلت الوطن الممتد من البحر إلى البحر سجوناً متلاصقة سجان يمسك سجان! حتى وصل الحال اليوم إلى ما وصل إليه من وحشية وثنية وفظاعات قبائلية ونزعات عنصرية ودموية مفرطة لا ترقى إليها التعابير.
الاتفاقية المشؤومة التي عكست بؤساً عربياً منذ إعلانها عام 1916 صارت اليوم محل ترحّم، وبات كبار القوم من منظري الوحدة العربية لا يعتبرون إثمها جريمة ، فهؤلاء لم يطف في بالهم أنّ الأعراب يمكن أن يصلوا إلى هذا المستوى من الضلال واللعنة، وكأنّه كان ينقص أعضاء المؤتمر القومي العربي الذين اجتمعوا مؤخراً في بيروت أن يرفعوا توصية استثنائية بمنح الرفيقين سايكس وبيكو أوسمة بمفعول رجعي !
في الواقع، ليس ما يحصل في عالمنا العربي من عمليات تفكيك هو يقظة الأقليات التي تبحث عن خصوصية تقاليدها واحترام شخصيتها التاريخية التي يمكن إيجادها وتحقيقها في إطار دولة وطنية تحرص على توسيع قواعد التفاعل والتعايش الثقافي والاجتماعي بين مختلف العناصر المكونة لها ، ذلك أنّ جوهر النزاعات يتخلص في العلاقات الاجتماعية القائمة على الغلبة والقهر والظلم، وعلى الحقوق السياسية والاقتصادية التي امُتصت من قبل أكثرية تتمتع بسلطة التفوق وتتعامل مع الأقلية بالجشع وضيق الأفق، ومن استمرار نظام الضغوط الخارجية التي لها جميعها فعلاً هائلاً في تغيير خرائط المنطقة. الانثروبولوجي الفرنسي (ميكائيل بارا) وفي مقابلة أجرتها معه مجلة (مدارات غربية) منذ عشرة أعوام تقريباً وكأنها أُجريت الآن توّقع للعالم العربي ما يحصل له اليوم. أ- معارضة الشكل الإقليمي الحالي بمشروعات انفصالية يتم تشجيعها من قوى خارجية ترى في التقسيم مزيد من السيطرة وضمانة لأطماعها الاستراتيجية ومن ضمنها الحصول على قاعدة أفضل لمصالحها في المنطقة. ب- كسر البنيات الوطنية سيؤدي إلى إعطاء الأفضلية لانغلاق الخصوصيات المحلية على نفسها . ج- خطر يهدد بقوة التماسك المعلن للأمم الراهنة. د- انهيار الدول القوية سيفضي إلى ولادة كيانات مستقلة جديدة . ه- إعادة تقطيع الشرق الأوسط المفخخ بتصورات من النوع الإتني والطائفي والتي تتجه لدفع العصبيات نحو ذروتها. و- الانغلاقات الطائفية لا يمكنها توليد الطمأنينة. ومع (بارا) يبدو أننا لن ننتظر طويلاً. يتفق ما قاله مع الأحداث الجارية ورغم أننا لسنا على عجلة من أمرنا إلا أنّ نهاية سايكس بيكو عليه اللعنة سيظهرنا كعرب مرهفي الإحساس على بلاد تضيع أمام زحف الوحوش الملتحية !
ولا بأس أن نطل على التناقضات التي أفرزتها الأوضاع في السنوات الأخيرة بالنسبة للمسيحيين ولو كنا نناقش أحوال المسلمين في مؤتمر للوحدة. فلا خوف كخوف المسحيين هذه الأيام، يخشون الغور في هذه الأرض أو وداعها إلى منافي الغرب. أكثر من مؤتمر انعقد في الآونة الأخيرة يعكس حيزاً كبيراً من المخاوف التي يواجهها المسيحيون المشرقيون، ويحاول أن يقترح مداخل إلى حلول ممكنة رغم كل ما يلحق هذه المنطقة من تهشيم وتدمير وتفكيك للبنى الثقافية والدينية والاجتماعية ورغم كل الفضاءات الذهنية التي تحمل الكثير من سموم الفكر وصدام الرؤى، وما ذلك إلا لكون العبقرية المسيحية كما يقول جورج قرم: "تكمن في هذا الرجاء الاستثنائي في القدرة على التغلب على الموت".
ولكن قبل أن نشارك المسيحيين قلقهم وهمومهم بتقديم بعض الاقتراحات لمواجهة التحديات التي تعترض كينونتهم ووجودهم وتموضعهم الحضاري في هذا الشرق، فإنّه من المفيد التوطئة ببعض المفاهيم التأسيسية وإن كان قد سال فيها وحولها حبر كثير.
أولاً: إنّ المسيحية المشرقية هي جزء عضوي من الواقع التاريخي والاجتماعي والثقافي العربي والإسلامي. شهادة ميلادها صادرة عن هذه الأرض. هنا نشأت ونمت واستقرت وتوهجت ببريق المحبة وأصبحت منبعاً للإلهام الفلسفي والروحي.
ثانياً: إنّ حضور المسيحيين في المشرق حضور أصيل داخل النظام الحضاري العربي والإسلامي. عملوا وتحركوا تحت شمس العروبة والإسلام ما يعني أنهم أصلاء وليسوا طارئين ولا غرباء بل من لحم هذه المشرق وترابه وروحه.
ثالثاً: إنّ هذا المشرق مجال مفتوح على الإيمان الحر. أراضيه أراضٍ رسولية ورسالية. على هذه الأرض تصنع عجينة الإيمان وتصدّر إلى كل بلاد العالم.
بناء عليه جاءت ركيزة التعايش ضمن السياق الطبيعي لمسلكية التاريخ ومن أصول التطور الروحي لكل الأجيال التي تعاقبت وعاشت في هذا الشرق، وبوصفها قوة إحيائية، تعلو فوق التباينات
والفروق الاعتقادية، بمقدورها التجسّد من خلال الرغبة المستمرة عند جميع أتباع الأديان والمذاهب في أن تبقى هذه الأرض ميداناً مشعّاً للخير والتفاعل والجمال. إلا أنّ واقع الحال اليوم استقر على شقاقٍ رهيب وبات عرضة للهمجية والعنف وتصدّع التوازنات السياسية والتوافقات الاجتماعية. والمسألة الأكثر خطورة وسط موج الانحلال الزاحف من قبل الجماعات الجهادية الإرهابية تكمن في غياب البديهيات في تصرفاتها. حرمة دماء الأبرياء من أطفال ونساء وشيوخ، حرمة المساس بأموال وأعراض المدنيين، حرمة التمثيل بالقتلى،حرمة الاعتداء على دور العبادة، وغيرها من البديهيات التي أخرجت هذه الجماعات من كونها تنتمي إلى دين الرحمة والتسامح والاستقامة إلى كونها تتبع أيديولوجيا عدمية عبثية لا تستوي على معايير محددة ومعروفة.
ووسط جو هُجاسي يغذي المخاوف الوجودية للمسيحيين في الشرق، من فلسطين المحتلة التي لم يبق من مسيحييها إلى النزر القليل، إلى العراق الذي وصل عدد المسيحيين الذين غادروه أكثر من مليون ونصف المليون، إلى مصر حيث يواجه الأقباط فتنة طائفية لا مثيل لها، وصولاً إلى سوريا التي هجرها معظم المسيحيين ودمرت معالمهم الدينية التاريخية، يقف المسيحيون ، أمام تساؤلات متزايدة، أيتجهون لطلب حماية الغرب، والغرب هو أصل محنتهم وويلاتهم حين تدخل مقسماً وناهباً وصانعاً لكل التكوينات الطائفية السياسية في المنطقة بمعناها السياسي تحت مسمى ( الأقليات) كي تحفظ له نفوذه عبر تصادمها واقتتالها الأبدي، أم يسعون لمقاومة ديناميات العنف والدموية والبربرية في ظل العواصف العاتية الآتية من الخارج التي تضرب المنطقة بهدف قلب الأوضاع والتوازنات وبسط نظام وواقع جديدين ! لسان حال المسيحيين القلقين التائهين اليوم، يقول: كيف السبيل للخروج من هذا الواقع الداكن الذي لا ينفذه نور العقل والإيمان والإنسانية؟ كيف السبيل للئم الجروح وسد الصدوع ووقف هذا المسلسل الدموي المفتوح على الكراهية والتعصب والذي يذكرنا بزمن الحروب
الدينية المتوحشة في أوروبا. لا شك أنّ الإجابات صعبة ولكن لنساهم معاً بوضع بعضها على سكة التداول والنقاش العلمي.
أولاً: إنّ أزمة المسيحيين ليست أزمة خاصة بهم وإنما هي أزمة الوجود الجماعي لكل أهل المشرق على اختلاف مشاربهم الثقافية والسياسية وانتماءاتهم الدينية. وهي أزمة الحضارة المشيّدة على هذه الأرض التي بارك الله فيها، كما هي بنحو قاطع أزمة المسلمين فكراً ومنهجاً وسلوكاً.
ثانياً: على المسيحيين المشرقيين الذين لم يكونوا يوماً جزءًا من هموم الغرب، أن يتفحصوا من جديد توجهات وأنساق السياسات الاستعمارية الاستغلالية التوسعية التسلطية التي لم تكن تأبه وتهتم لما يتعرضون له، بل لا بد من العمل على كشف مخاطر هذه التوجهات والسياسات على الوجود المسيحي المشرقي نفسه.
ثالثاً: لا بدّ من إعادة إرساء الدين وما يدعو إليه من قيم الخير والمحبة والسلام وباعتباره مفتاحاً لتطوير حياة الإنسان وتحريره من الاستعباد والاستغلال والظلم، وبوصفه التعبير الأرقى عن العقلانية في وجه التيارات العدمية الهمجية والأيديولوجيات ذات الطابع التكفيري .
من جانب آخر وبينما العرب منشغلون بفتنتهم الكبرى من الخليج إلى المحيط، يدفعون عجلة التقسيم بسرعة مجنونة عن طريق زيادة الايقاع في طقوس العنف. المصريون جيران الغزيين أوصدوا الأبواب وانسحبوا بهدوء إلى مشاكلهم الخاصة.. روسيا مقاطَعَة ومعاقَبة من أوروبا على إثر الأزمة في أوكرانيا، وإيران مهمومة بتفكيك العُقد حول برنامجها النووي. أحدثت الحرب على غزة شيئاً لم يكن منتظراً . ظهر الجيش الإسرائيلي في أسوء مشهد وأتعس حالة لجهة الحافز والأداء وتحقيق الأهداف. قوات مشلولة. دروع كالصفيح. وعجزٌ عن التقدم أمام قوة نيران تنطلق من أماكن متحركة ومجهولة. وقيادة مأخوذة ومفاجأة بما يجري على أرض الميدان، فما رأته كان أبعد الأشياء عن تقديراتها وتصوراتها. وشكل التنادي الواسع للحرب بدعوة الاحتياط للجيش بعد أيام قليلة على بدء عملية (الجرف الصامد) صدمة للمجتمع الإسرائيلي الذي كان يتهيأ لنصر حاسم يحقق أمناً طويل المدى ويعكس حقائق الظروف المتغيرة في المنطقة التي يُفترض أن تصبّ جميعها لصالح "إسرائيل". لكن
تبيّن أنّ هناك تغييراً مهولاً في طبيعة قوة المقاومة وهو الأمر الذي فرض على الجيش الإسرائيلي تغييراً فورياً في طبيعة قوته وموارده البشرية واللوجستية تداركاً لما هو أفدح .
لم تكن حرب غزة الثالثة مغامرة ولا غواية ، كانت العملية محسوبة بدقة، لكن الجيش لم يكن يعلم أنّ ساحة الصراع قد تغيّرت إلى هذا الحد. أخطأ في التحليل وتقييم المعلومات وتقدير الموقف السياسي من أزمات المنطقة بما فيها الذي جرى قبيل الحرب في الموصل ، بحيث ظن أنّه يصعب على محور المقاومة تفسيرها والرد عليها بالسرعة الكافية على جبهة غزة.. الحرب أنهت بشكل قاطع ونهائي إحساساً تاريخياً بالتفوق، ولا شك أنّ مرحلة جديدة بدأت مقدماتها بتطوير المقاومة لخياراتها العسكرية وهذه المرة على أرض الضفة الغربية، بعدما أوحى إلى ذلك مرشد الثورة الإيرانية في أكثر من مناسبة . المهم في هذا كله ما يبدو الآن من تقدّم صادم للمقاومة الفلسطينية قلب كل التوقعات، ووسط كل هذه التحولات والتحديات نجح محور المقاومة ليس في الثبات بل انجاز مهمات إسلامية وتاريخية ووحدوية حطمت كل التوقعات وهدمت مخططات الأعداء وأصابتهم بالإحباط!
ارسال نظر