عنوان الوحدة وضرورة مجابهة التيارات التكفيرية
الشيخ عبد المجيد عمار / لبنان
الكفر في اللغة فرع الإيمان
وبما أن الايمان منبثق من المفهوم الديني يأتي الكفر والتكفير هنا في نفس السياق .
وقد نجد حالات مناهضة داخل الفكر المادي العلماني إلا ان المصطلحات الدارجة بعيدة عن الكفر كمصطلح ومفهوم وقد تلجأ الى مفردات / تمرد / زندقة / مارق ...الخ.
وبهذا يمكن القول ان الكفر كمصطلح جاء في سياق الإيمان ، والمشروع الديني .
ولطالما كان استعمال الكفر كتهمة ضد آخرين انما تكون صادرة عن خلقية دينية كثقافة وانتماء .
كتهم الكنيسة في العصور الوسطى لكلّ من خالفها وتهم بقية المجتمعات الدينية لمن خرج عليها .
واليوم تلتصق هذه الصفة لجماعة من المسلمين تنطلق في مرتكزاتها ومبانيها الفتوائية على تكفير الآخر واقصاءه ولاعتبارات مختلفة .
والتكفير ليس وليد اليوم بتاريخ الاسلام ، بل يعود الى العصر الأول ولعلّ الخوارج الذين خرجوا على الإمام علي (عليه السلام) أول من جنح لذلك ، ثم توالت المدارس الكلامية وخلافاتها حتى أصبح التكفير منهجاً عند بعضها ومبنى فكرياً قائماً حتى
يومنا هذا .
ولعلّ التصاق التكفير بالحالة السلفية يعود الى هذا حتى يكاد يُصبح مرادفاً لها وهذا الذي ترفضه تيارات سلفية تطلق على نفسها تنويرية أو دعوية تنأى بخطابها الديني عن الحركات التكفيرية القائمة اليوم .
ويمكن القول الى حدٍ ما أن ما بين الحالتين السلفية والتكفيرية عموم وخصوص مطلق / فكلُّ تكفير سلفي النشأة في حين بعض السلفي تكفيري , " وهذه مسألة جدلية بينهم "
تختلف ضوابط التكفير تجاه الأشخاص أو الجهات .
ففي حين يتم تكفير المذهب الشيعي بكل تفريعاته وإن بأبعاد متعددة . فإن تكفير جهات اخرى قد يقوم على اختلافات عقدية أو شبهات حكمية كالحكم بكفر من يهادن الضلالة أو الأنظمة العلمانية وغير ذلك.
وهذا يعني ضوابط التكفير لا يمكن حصرها خاصةً انها كمباني فكرية تكاد لا تخلو منها مدرسة أو مذهب .
وإن كان المتفق عليه بين جلّ المذاهب ان المسلم لا يخرجه من الدين الا ما أدخله فيه
( اشارة الى الشهادتين ).
فما دام يؤمن بالوحدانية وبنبوة محمد (ص) فهو مسلم ويخرج من الاسلام اذا انكر أحد هذين الأصلين أو كلاهما .
وإن كان الخلاف بين المذاهب وتعدد الاجتهادات داخل المذهب الواحد حول ضوابط التكفير يضعنا أمام تعقيدات اضافية في مقاربته .
والاجتهادات في هذا المجال أكثر من أن تُحصى .
فمن قائل ان مجرد السّب مدعاة للكفر ومن يفرق بين الكفر الاعتقادي والعملي ومنهم بين الظن والشبهة في تطبيقاته الى كلِّ ما ورد في نقاشات المذاهب الكلامية .
كل هذا قد يندرج في سياق البحث العلمي الموضوعي لهذه المباني وهذا من اختصاص المجاميع العلمية المتخصصة والمراجع الدينية القائمة .
وقد لا يتسع هذا المقام لمثل تلك المطولات وكي لا نستغرق في ذلك المحيط المتلاطم يهمنا أن نركّز على العصر المتأخر الذي أيقظ هذا النقاش وأسسّ لأن يصل الأمر
الى هنا .
ايقاظ الفتنة
ان ما قامت به الوهابية الناشئة في مطلع القرن الماضي من ترتيب الآثار على الفكر التكفيري وقامت بهدم قبور الأولياء والأئمة ولولا قيام العالم الإسلامي لأتت سياستهم على هدم قبر رسول الله (ص) . ولا أدري اذا كانت الكعبة الشريفة ستَسلم منها .
بالاضافة الى اعتماد النظام السعودي على هذه النظرية التي قام بنشرها حتى كاد أن يختزل الاسلام بها ، عاملاً على اقصاء الجميع بدون استثناء وساعد على ذلك ما توفر عنده من امكانيات مادية ومظلة دولية استعمارية داعمة ، حتى نمت هذه الحالة وبات الاسلام لا يُقرأ إلا من كتبهم وفكرهم الهدام .
وعلى هامش هذا نلفت الى ما تعاني منه المجتمعات الغربية من استقطاب الفكر التكفيري لعناصره كظاهرة غير مألوفة ، وإنما يعود السبب في ذلك الى اقفال المجال الغربي أمام الاسلام الأصيل في حين سمح لما تُروج له الوهابية من أفكار فتنوية ظناً منها وإسهاماً في تفكيك المسلمين وضرب وحدتهم ....
ولكن شاءت الأقدار أن يتجرع الغرب من كأس سُمهم ومؤامراتهم .
وكذلك بدأت بعض الأنظمة العربية والتي لطالما شكّلت بيئة حاضنة لهذا الفكر الهدام في مواجهة تداعيات هذه الحالة الشاذة بعدما لامست مخاطرها كياناتهم وأمنهم .
وليس عبثاً أن تنعقد مؤتمرات عدة وفي أماكن مختلفة لمحاصرة هذا الانحراف أو اسقاطه وما المؤتمر الذي انعقد في مدينة غروزني في 25/آب/2016 . وما سبقه في دول اخرى إلا بعض تجليات مخاطر الانحراف التكفيري وتداعياته .
بواعث الانحراف الجديد
يكاد يجمع العالم الاسلامي بمجاميعه العلمية ومرجعياته الفقهية على أن ظاهرة التكفير التي تعصف بالأمة اليوم انما قامت على خلفيات سياسية وإن حاول روادها اضفاء الشرعية عليها وارجاعها الى السلف منهم .
فمنذ تقسيم العالم الاسلامي عشية سقوط السلطنة العثمانية والنظام السعودي يحاول بسط مرجعيته ونفوذه .
فأطلق العنان لفكره الوهابي الهدام لاختزال الاسلام واقصاء كل المدارس الفكرية والمرجعيات الدينية .
بما فيها جامعة الأزهر وباقي المجاميع بفضل التأثير السياسي والامكانات المادية الهائلة مستفيداً من إدارته المغلقة للحرمين وشعائر الحج .
وقد استطاع الى حدٍ ما أن يُعطلَ مفاعيل كل المجاميع الفكرية والمدارس الفقهية في أغلب دول العالم الإسلامي وحواضره العلمية .
إن ما شهده العالم الاسلامي في فترات سابقة من توطيد لأواصر العلاقة بين المسلمين ومذاهبهم الى حدِّ تدريس الفقه الجعفري في جامعة الأزهر في القاهرة حتى كادت الأمة تتوحد باعتبار الاجتهادات الفقهية مجالات مفتوحة ومدعَاة لاستنهاض الأمة وقيامها .
ولكن مع الأسف تراجعت الأمة كثيراً الى الوراء وزادها ما نشهده اليوم من صراعات سياسية بامتياز يعمل كل محور على اصطفافاته ورص صفوفه .
وبتعبير آخر نقول :
إن انتصار الثورة الاسلامية في ايران سنة 1979 من القرن الماضي أحدث تحولاً هائلاً بالمنطقة بل وفي العالم ، وكان بمثابة الزلزال الذي لا زالت ترداداته حتى يومنا الحاضر.
لقد اهتز العالم الغربي وعلى رأسه اميركا ومعها الكيان الغاصب في فلسطين .
ومعها اهتز النظام العربي وخاصة الوهابي منه من تداعيات هذا الحدث .
وقد تقاطعت مصالح الفريقين بالقضاء على هذا الوافد الجديد وبدأت بذلك حروب المنطقة التي لم تهدأ حتى هذا اليوم .
أسعرت الوهابية نار الفتنة في العالم الاسلامي
وحشدت لذلك كل القوى التي طالما جهزتها لهذا الوقت وخاصة بعدما فشلت كل محاولات اسقاط أو محاصرة الثورة الاسلامية في ايران .
اليوم يكاد يكون هذا عنوان المعركة الممتدة من اليمن الى أقاصي بلاد الشام مروراً بالبحرين والعراق ولأسباب لا تخفى على احد .
كاد النظام الوهابي على أبواب التربع على عرش الأمة الاسلامية بعد أزمات ما يسمى بالربيع العربي .
ولكن حضور الجمهورية الاسلامية الايرانية ومشروعها الاستنهاضي أعاد خلط الأوراق.
ففي فلسطين انتصرت المقاومة وهي اليوم تشكل تحدياً استراتيجياً للكيان الغاصب ، وأملاً منبعثاً في نفوس الملايين من المسلمين .
وفي لبنان انتصرت المقاومة على العالم وليس فقط على الكيان الغاصب حتى اعتبرها العدو الصهيوني كما وصفها بالتهديد الأخطر الذي يواجه الكيان .
وفي سوريا لطالما كانت نصيراً ومناصراً ومقراً وممراً لكل الفصائل المقاومة ومشروعها .
وفي العراق الذي أصاب النظام الوهابي بخيبات الأمل عندما رأى أن حلمه القديم الجديد يتهاوى .
هذه الصورة تخنزل كلَّ المشهد .
واذا كنا اليوم أمام تهاوي المشروع التكفيري واندحاره يبقى العمل منوطاً بمحو آثار هذا الفكر وما خلّفَه من تداعيات مدمرة طالت جلَّ مكونات الأمة .
والسؤال :
كيف نحافظ على الوحدة الاسلامية .
وكيف نواجه التيارات التكفيرية وتداعياتها ؟
هناك محطتان بارزتان يجب التوقف مليّاً عندهما والبناء عليهما
الأولى :
فشل المشروع التكفيري ومعه الفكر الوهابي بكلِّ امتداداته وفروعه .
الثانية :
ما حدث في مؤتمر غروزني الذي انعقد بتاريخ 25/آب 2016م. وما صدر عنه من مقررات وازنة .
بالاضافة الى مؤتمرات عدة عُقدت في السعودية ومصر وغيرهما .
ففي المشهد الأول :
نرى انقلاب السحر على الساحر وبدأ العالم أجمع يعيش تداعيات الإرهاب التكفيري الذي أقضَ مضاجع أمنهم وأمانهم ومصالحهم .
وإن كانت مكابرة بعض الأنظمة تستقطع بعض الوقت لتحسين شروطها التفاوضية في التسوية السياسية .
الا ان الوقت ليس لمصلحتها ، وها نحن نسمع صراخها واستغاثتها .
لقد اطلق العالم المارد التكفيري لمحاصرة واسقاط محور المقاومة التي أحكمت سيطرتها بعد انتصارها في تموز 2006 م. في لبنان و2008م. في فلسطين .
واليوم نحن على أبواب انتصارات مجيدة مؤثرة مع تهاوي القوى التكفيرية ومن خلفهم .
حيث يحاول العالم التقاط انفاسه للحفاظ على بعض مصالحه ومعه أنظمة حليفة تعمل على حفظ أمنها قدر الإمكان .
وفي المشهد الثاني :
نرى بداية صحوة جديدة للمجاميع العلمية في الأخذ بزمام المبادرة وتصويب بوصلة الصراع وتشخيص مكان الخطر الفعلي بل وحصره في التيارات التكفيرية الهدامة .
وهذه خطوة كبيرة باتجاه مواجهة التيارات التكفيرية وتجريدها من أيّ انتماء .
يبقى علينا العمل لإعادة الاعتبار للوحدة الاسلامية بين كل مكونات الأمة ومواقع قرارها ومجاميعها لتوحيد الجهود لمنع التداعيات ومحو آثار تلك التيارات .
من هنا
نقترح على مؤتمركم الكريم العمل على :
أولاً : تحديد ثوابت المرحلة والأصول الحاكمة على العلاقة بين المسلمين ومنها لا على سبيل الحصر
- الإسلام أمة واحدة تدين بالقرآن الكريم وأحكامه كما السنة النبوية الشريفة .
- إنّ الاختلافات الفقهية اجتهادات ولا ينبغي لها أن تُحدث خلافات وانقسامات وإصطفافات مذهبية وغيرها .
- إن أعداء الأمة يتربصون بنا الدوائر وعلينا مواجهتهم كأمة واحدة وخاصة لأنهم لا يُفرقون بين مذهب وآخر أو طائفة وأخرى .
وجلّ مشروعهم قائم على تفكيك العالم الإسلامي وضرب وحدته التي هي مصدر قوته وأساسها .
وعلى رأس هؤلاء الاستعمار الجديد والكيان الغاصب في فلسطين المحتلة .
ثانياً : النظر الى ان تهديد التيارات التكفيرية يشكل خطراً وجودياً في حين نعتبر مخاطر الكيان الغاصب تهديداً استراتيجياً للأمة ومن هنا :
على الأمة (كل الأمة) بمذاهبها ، ومكوناتها معنية بمواجهة المشروع التكفيري واسقاطه.
وحيث ثبت ومن خلال التجربة ان التيارات التكفيرية لا تُفَرق بين مذهب وآخر أو فريقاً وآخر .
فكيف اذا رأينا خروجه على من أطلقه وأمَده بكلِّ المقومات والحركة .
ثالثاً :
البناء على مقررات المؤتمرات المنعقدة سابقاً وفي شتى الأقطار والتي استهدفت التيارات التكفيرية ومشروعها . للوصول الى تأليف لجان مشتركة ومنبثقة من جميع المؤتمرات لتوحيد الجهود وتفعيلها والاستفادة من كل طاقات الأمة ومواقعها .
على ان يتم التركيز على لجنة عليا تمثل المرجعية الشيعية والمرجعية السنية لتوثيق المقررات وتحديد سياسات المواجهة ومتابعتها .
رابعاً :
السعي لإنشاء مركز بحثي علمي عالمي يُسهم فيه كبار العلماء المفكرين ويتولى إجراء الأبحاث والدراسات العلمية المتخصصة والموضوعية المتعلقة بالجماعات التكفيرية وجذورها وبيان مخاطرها وسُبل مواجهتها .
خامساً :
محاصرة الفكر المتطرف ولأي جهة إنتمى بغية القضاء أو الحد من الاثارات المذهبية وتداعياتها والتي منها فضائيات الفتنة المنتشرة ، والخطاب الفتنوي المنبعث منها.
مع تمنياتنا بكل التوفيق لمؤتمركم الكريم .
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
الشيخ عبدالمجيد عمار / لبنان
ارسال نظر