الوحدة الإسلامية في مناهج التفسير واتجاهاته
الدكتور علي رمضان الأوسي
(أستاذ الدراسات العليا في الجامعة العالمية
للعلوم الإسلامية-لندن)
بسم الله الرحمن الرحيم
الوحدة الإسلامية بين مناهج التفسير واتجاهاته
نزل القرآن الكريم فولدت الحاجة إلى بيانه وتفسيره وقد تصدى رسول الله (صلى الله عليه وآله) المعلم الأول لهذه المهمة قال سبحانه: (وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزّل إليهم ولعلهم يتفكرون)([1]).
وقد بيّن رسول الله (صلى الله عليه وآله) كل القرآن الكريم بمعنى انه (صلى الله عليه وآله) كان يفسّـر للعامّة ما يحتاجون من تفسير وحين يسأله المسلمون فلابدّ أن يجيب، إلى جانب إفهامه للخاصة من الناس إفهاماً تفصيلياً فالرسول (صلى لله عليه وآله) لم يتجاوز آية من القرآن الكريم إلا وبيّنها وبدون ذلك لا يكون القرآن حجة على الناس([2]).
وقد وزعت البحث على قسمين:
1- مناهج التفسير، 2- القرآنيون ودورهم في نشر ثقافة القرآن التقريبية
القسم الأول:
التفسير بالمأثور هو أول أنواع التفسير ظهوراً. ويشمل ما جاء في القرآن نفسه من تفسير الآيات بعضها بعضاً، وما نقل عن الرسول عليه الصلاة و السلام وائمّة أهل البيت(ع)، وما نقل كذلك عن الصحابة، وعن التابعين أيضاً([3]).
وقد وقع خلاف فيما نقل عن الصحابة والتابعين، فالبعض يعده من قبيل المأثور، والبعض الآخر يعدّهُ من قبيل الرأي وقد ذهب البعض إلى الأخذ بقول التابعين في التفسير لأن التابعين تلقوا غالب تفسيراتهم عن الصحابة([4]). وبشيء من التفصيل نجد ابن تيمية يتعرض إلى أقوال التابعين فيقول: انّها ليست بحجة على غيرهم ممن خالفهم، أما إذا اجتمعوا على الشيء فلا يرتاب في كونه حجة، فان اختلفوا فلا يكون قول بعضهم حجة على بعض، ولا من بعدهم، ويرجع في ذلك إلى لغة القرآن أو السنة أو عموم لغة العرب أو أقوال الصحابة في ذلك.
ويمثل جامع البيان للطبري رائد المأثور عند المفسرين الذين عنوا بالتفسير النقلي، فَمٍمّا يمتاز به الطبري عن رجال التفسير الأثري: إسناد الأقوال إلى أصحابها مسلسلة، والتعويل على ما روي عن الرسول (ص) والصحابة والتابعين.
وعلى الرغم من حذف السيوطي (ت 911هـ) لأسانيد الآثار في تفسيره (الدر المنثور) فإنّ محاولته في جمع المأثور تعتبر إحياءً له في المأثور من التفسير بعد أن أخذ التفسير بالرأي يتلون بثقافات المفسرين، ويتأثر بالمترجمات العقلية.
وتجدر الإشارة هنا إلى ان بعض المفسرين توسّع في إيراد القصص النبوي، وقصص الأمم الغابرة معتمداً في ذلك على أهل الكتاب في الوقت الذي نجد فيه القرآن الكريم قد أجمل القول فيها، لأن القرآن الكريم يروم في ذلك العبرة والتنبيه إلى سنن الله تعالى في الاجتماع الإنساني. قال تعالى: (وَكُلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاء الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ)([5]).
ويعلل ابن خلدون قبول هذه المرويات باعتبارات اجتماعية ودينية، فقد غلبت على العرب آنذاك البداوة والأمية، وكانوا يتشوقون إلى معرفة ما تتشوق إليه النفوس البشرية من البحث في أسباب المكونات، وبدء الخليقة، وأسرار الوجود؛ وهم في ذلك إنّما يسألون أهل الكتاب قبلهم، ومن الاعتبارات الدينية أن هذه المنقولات ليست مما يرجع إلى الاحكام والعقائد، فتساهل المفسرون في مثل ذلك وملأوا تفسيراتهم بمنقولات عن عامة أهل التوراة([6]). وممن توسع في ذلك أحمد بن محمد إبراهيم الثعالبي النيسابوري (ت 427هـ) في (التفسير الكبير).
أمّا عند الامامية فالمأثور ما جاء في القرآن الكريم من بيان وتفصيل، وما نقل عن الرسول الأكرم (ص)، وأئمة أهل البيت (ع)، فقد ذكر الشيخ أبو جعفر الطوسي (ت 460هـ): ان الرسول (ص) حث على قراءة القرآن والتمسك بما فيه، وردّ ما يردُ من اختلاف الأخبار في الفروع إليه. وأضاف: ان أصحابنا – يعني الامامية – ذكروا بانّ تفسير القرآن لا يجوز إلا بالأثر الصحيح عن النبي عليه الصلاة والسلام، وعن الأئمة (عليهم السلام) الذين هم قولهم حجة كقول النبي (ص)([7]). وذلك لما تواتر من وصية الرسول عليه الصلاة والسلام فيهم: (إني تارك فيكم ما إن تمسّكتُم بهما لن تضلوا بعدي أبداً: كتاب الله وعترتي أهل بيتي، وأنهما لن يفترقا، حتى يردا عليَّ الحوض)([8]).
وأمّا ما نقل عن الصحابة والتابعين فليس بحجة في ذاته. ومن تفاسير الامامية الأثرية: (تفسير محمّد بن مسعود العياشي)، و (تفسير فرات بن إبراهيم الكوفي) و (تفسير علي بن إبراهيم القمي)([9]).
وقد ضعف التفسير بالمأثور بفعل الوضع والإسرائيليات، كما أسهم في ذلك حذف الأسانيد بعد تفسير الطبري([10]) وهو ما حصل لبعض المفسرين- توخياً للايجاز، كالبغوي الفراء (ت 510هـ) وابن كثير (ت 774هـ) والسيوطي (ت 911هـ)، فانظر السيوطي في مقدمة كتابه (الدر المنثور) يقول: (فلما ألفت كتاب ترجمان القرآن وهو التفسير المسند عن رسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم، وتم بحمد الله في مجلدات، فكان ما أوردته فيه من الآثار بأسانيد الكتب المخرج منها واردات رأيت قصور أكثر الهمم عن تحصيله ورغبتهم في الاقتصار على متون الأحاديث دون الإسناد وتطويله، فلخصت منه هذا المختصر مقتصراً فيه على متن الأثر، مصدراً بالعزو والتخريج إلى كل كتاب معتبر وسميته بـ "الدر المنثور في التفسير بالمأثور")([11]).
فمناهج التفسير الأثري التزمت النصوص المروية وآراء المفسرين القدامى وبرز في مصادرها: القرآن نفسه، السنة عن المعصوم، اللغة، تاريخ مناسبات النـزول وأمثال ذلك من الأثر وشيئاً من الاجتهاد.
وعن التفسير بالرأي فأن الرأي يطلق في اللغة على الاعتقاد والقياس والاجتهاد، ويعتبر أصحاب القياس أصحاب الرأي لأنهم يقولون برأيهم فيما لم يجدوا فيه حديثاً أو أثراً.
والمراد به هنا تفسير القرآن بالاجتهاد. وقد نشأ التفسير بالرأي – كمنهج – في وقت متأخر عن نشأة التفسير الأثري، وان كانت هناك بعض المحاولات من قبل بعض المسلمين تبين أنهم مارسوا الرأي في التفسير لا سيما لو لاحظنا ان أحد مصادر التفسير في عصر الصحابة هو (مبدأ الاجتهاد والاستنباط) وفي عصر التابعين كذلك كما مرّ آنفاً.
ويذهب بعض الباحثين إلى أكثر من ذلك فيذكر ان من الممكن القول انّه في عصر النبوة أيضاً أقبل بعض المسلمين بفطرتهم على القرآن، يعملون نظرهم فيه عندما لم يتيسر لهم لقاء الرسول (ص)، فوجد في هذه الفترة من كان يفسر القرآن برأيه([12]).
لكن التفسير كعلم وحاجة نشأ وانطلق من المعلم الأول الرسول (ص) ثم انطلق بلباسه الأثري بعد ان بيّنه الرسول إلى الأمة ليكون حجة على الناس ومن ثم تعددت أساليب التفسير وتنوعت مناهجه عبر تاريخ هذا العلم. فكل الدواعي والملابسات التي أحاطت بنشأة هذا العلم تقضي بأن الرسول (ص) قام بتفسير القرآن في ضوء هذه الحاجة ولم تبق آية واحدة مغلقة على المسلمين في بُعدها التفسيري.
وهكذا أفاد المسلمون من نهج الرسول في بيان معاني القران الكريم فعنه(ص) صدروا ومن علومه نهلوا لاسيما في الاتجاهات الأولى في التفسير وما ان تعددت المناهج والاتجاهات التفسيرية لاحقا فان علماء القران أكدوا الضوابط والشروط التي يتوفر عليها المفسرون لتبقى الإمامة القرآنية مقترنة بإمامة النبي والعصمة المطهرة في بيان معاني القران الكريم.
ومن هذه المؤثرات يمكن ان نخلص إلى ان فرص التقارب والوحدة هي الحاكمة والمهيمنة على تفسير هذا القران الخالد ومن يقفز على ذلك فهو يحتاج إلى دليل على دعواه .
ومن خلال ذلك التأكيد الواضح لابد ان يعنى بفقه الوحدة والاختلاف ليدخل العمل التقريبي وجهود الوحدة الإسلامية في نظم واجبات هذه الأمة لاسيما بألحاظ التحديات العظيمة التي تهدد كيان هذا الدين والمسلمين جميعهم بلا استثناء وتبقى الاجتهادات في حدود احترام وتقديس الأمة الخيرة الواحدة التي أرادها الله لنا.
المناهج والاتجاهات:
المنهج: هو مجموعة الأسس والقواعد التي تعتمد في استنطاق النص القرآني ولبيان معناه والكشف عن معطياته.
الاتجاه: هو مجموع المعطيات والناتج التفسيري من خلال المنهج([13]).
وتعددت هذه المناهج والاتجاهات بعد انطلاق التفسير العقلي أو التفسير بالرأي والذي يعتمد على التفسير بالمأثور من جهة ومن جهة أخرى على جملة القواعد والأسس العقلية من خلال قاعدة (التدبر القرآني)، قال سبحانه: (أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها)([14]).
لا ضير في تعدد المناهج والاتجاهات التفسيرية ما دام النص القرآني يبقى مادة للعطاء يجيب على التساؤلات ويفضح الشبهات ويدافع عن التوحيد الذي أراده الله لهذه الإنسانية في هذا الكون الرحيب، وقد واجهت الأمة الإسلامية مؤخراً تحديات جساماً على الصعيد العقائدي والفكري والسلوكي، فاهتز الواقع الديني في بعض مستوياته لقصور أو تقصير في المدافعين عنه، رغم ذلك فالنص القرآني بقي فارساً شجاعاً ينطُق حين يُستنطق، والعقبة الكأداء هو في طبيعة هذه القراءة والاستنطاق وهذا هو مبعث الكثير من الاختلافات لكن النص واحد وهو نازل من رب واحد لبناء عقيدة الواحد ولصناعة الأمة الواحدة فكيف نسمح لأنفسنا التنكب عن هذه الوحدة وهي هدف سام سعى إليه القرآن الكريم الذي يجتمع عليه كل من يسعى لاستنطاقه والتعامل معه كما أراد الله سبحانه ونذكّر هنا ببعض ما يقتضيه القرآن الكريم من ضرورة الاجتماع والالتقاء والتقارب بين المسلمين في نقاط:
1- القرآن مصدر العطاء حين يتعاطى المفسرون مع نصوصه الشريفة فالجميع يقبلون عليه ويتأملون ويفسرون ثم يصدرون عنه إلى المجتمع، هذه الحركة تمنح روادها العطاءات القرآنية من غير تمييز بمعنى ان من يتعامل مع القرآن انما يصغي إلى نصوصه ويفيد من معانيها وهذا مشترك مؤثر بين الذين يرومون تفسيره وبيانه.
2- حاجات الناس المتجددة بكل ملابساتها هي الأخرى تدفع باتجاه القرآن الكريم لاستنباط الحكم وبيان الموقف فهو مصدر التشريع الأول.
3- أمام التحديات التي نشهدها من خلال الشبهات بتشويه الحقائق وتضليل الفكر واستهداف العقل المسلم، لم يجد المفسرون إلا الرد ومعالجة هذه التحديات من خلال عرضها على القرآن الكريم والاستدلال به على بطلانها وهذا مجال آخر يدفع إلى الالتقاء حتى ولو اختلفت المناهج وتعددت أساليب الاستنطاق.
4- تدفع المطالبة بجعل القرآن الكريم المصدر الأول في التشريع حين تسنّ الدساتير في بلدان العالم الإسلامي أولئك المطالبين أن يتحركوا في طريق واحد بعد ان صدروا عن كتاب الله الواحد ساعين لغاية واحدة وهي تسييد الدور القرآني في صناعة الدساتير في بلدان العالم الإسلامي بغض النظر عن الاتجاهات المذهبية هنا وهناك.
5- لكتاب الذي يجمع عليه المسلمون كافة هو القرآن الكريم وهذا يعزز من مكانته في النفوس وأثره في العقول ودوره في بناء النفس والمجتمع، اذن المسلمون يجتمعون ويجمعون على شيء معيّن وهذا مشترك قرآني آخر تتحرك فيه أدوات التفسير ومناهجه.
6- التنوع الفكري المتعدد في القرآن الكريم يجمع اكبر عدد ممكن من الباحثين في هذه المجالات فالقرآن الكريم ينظّم الكثير من محاولاتهم الفكرية ويهذبها في أطار واحد أو متقارب وهذا عامل آخر يدفع للتقارب الفكري بلحاظ التجانس في المصدر الذي يعتمدون عليه.
فالقرآن الكريم جامع في تنظيم الفكر وتهذيب الأخلاق وصناعة الجماعة ولابد من يريد ان يدلي بدلو في هذه المجالات وأمثالها ان يلتقي على مائدة القرآن الكريم يستنطق نصوصه الشريفة ومستخدماً أدوات بيانه التفسيرية وهذا مشترك آخر نجتمع عليه، وقد يسلك أحد منهجاً ما في التفسير وآخر يستخدم منهجاً آخر سواء في المنهج التجزيئي أو الموضوعي ومهما غلبت على ذلك الاتجاه ألوان لغوية أو أثرية أو كلامية أو فلسفية وغيرها فالأمر يبقى جامعاً لهؤلاء المفسرين.
القسم الثاني:القرآنيون وجهودهم في نشر ثقافة القران التقريبية:
ما المقصود بالقرآنيين:
علينا ان نحدد أولاً المعنى المقصود بالقرآنيين لنتجنب ما اصطلح مؤخراً عن مجموعة القرآنيين في أمريكا الذين لم يعتمدوا إلا القرآن الكريم وأهملوا السنة، وأخذوا باستنطاقات قرآنية غريبة تنكبوا بها المنهج القرآني في التفكير.
ولابد ان يكون المقصود من القرآنيين هو من يقوم بوظيفته الرئيسة وهي نشر الثقافة القرآنية بين الناس من خلال قدرته - ولو بمستويات مختلفة - على تمثّل الروح القرآنية في نفسه وسلوكه وفكره وإلا لا يمكنه ان يعرض النص القرآني كما يريده القرآن نفسه وهو كلام الله المجيد.
فالذي يفهم أغراض الخطاب القرآني ويلتزم ادوات الاستنطاق السليم للقرآن الكريم ولا يهمل السنة المشرفة ويستعين بما استعان به علماؤنا الأوائل الذين رسموا لنا مناهج التفسير القرآنية، فهو أجدر أن يكون من هؤلاء القرآنيين الذين يقصدهم البحث ويعنيهم بشكل واضح.
ما معنى الثقافة القرآنية:
الثقافة القرآنية هي مجموعة المعلومات والمعطيات القرآنية التي تترشح من علم التفسير وعلوم القرآن المختلفة وتشكل اتجاهات تفسيرية وليس هناك حد يمنع هذا التوالد القرآني إذا ما كان يترشح من خلال قواعد التفسير وضوابطه، ولا يمكن ان توصف المعطيات القرآنية كما توصف النتاجات البشرية الصرفة فهذه ثقافات إنسانية بينما القرآن الكريم تترشح من نصوصه المقدسة معان وأفكار وإشارات لم يكن بالسهولة مطابقتها مع الجهد البشري المحض. لذا لا يمكن ان نطلق كلمة الثقافة القرآنية ونقصد بها ذات المعنى الذي تشتمل عليه معنى كلمة (الثقافة) الدارجة في استعمالاتنا اليومية. ليبقى المقصود منها هو مجموعة الإفهام والمعطيات التي تترشح عن النظر والاستنطاق وما يثار حول النص القرآني كذلك.
لماذا نتحمل مسؤولية النشر القرآني:
1- ابتداء اننا مأمورون بالقرآن الكريم لممارسة التبليغ الديني وإيجاد حالة الوعي للنص والواقع معاً.
قال الله سبحانه: (هذا بلاغ للناس ولينذروا به وليعلموا إنما هو إله واحد وليذكر أولوا الألباب)(سورة إبراهيم: 52). وآيات كثيرة تحكي هذا الإلزام للمسلم في تبليغ كتاب الله سبحانه للناس.
2- من جهة أخرى هناك تحديات حقيقية تعرض الأمة والإنسان الفرد معاً للانحراف وتتسبب بتدمير البنى الاجتماعية للمجتمع المسلم وفي مقدمة هذه التحديات استهدافهم للعقل المسلم والعمل على تمرير ثقافات غريبة عن الواقع الإسلامي وهذا يستدعي المزيد من العمل لمواجهة هذه التحديات من خلال نشر الثقافة الإسلامية الأصيلة والفهم القرآني الأصيل نحو الإنسان والواقع ومجمل المستجدات والتطورات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية وغيرها.
3- شهد العالم الإسلامي مواجهات فكرية وحملات نقد وتشويه للفكر الإسلامي لا سيما في القرنين الميلاديين الماضيين، واتخذت تلك الحملات انماطاً مختلفة وكان للتبشير دور كبير للتأثير على طبيعة المجتمعات الإسلامية ناهيك عن الفكر الإلحادي والأباحي من أجل تعجيز الدور الديني في الأمة، وأمام تلك التحديات تصدى علماء الأمة ومفكروها للرد على هذه المفتريات وحملات التشويه والهجوم الثقافي والسياسي وكان سلاح علمائنا النص القرآني الذي أعانهم على ذلك التصدي واسقط في العدو الكثير من المخططات حتى قال غلادستون: (ما دام هذا القرآن موجوداً في أيدي المسلمين فلن تستطيع أورپا السيطرة على الشرق، ولا أن تكون هي نفسها في أمان)([15]).
4- القرآن الكريم هو خير رصيد موحد للمسلمين بمختلف مذاهبهم وهذا المشترك الكبير يقتضي منا اهتماماً اكبر بالخطاب القرآني مع المسلمين أنفسهم الذين تستهدفهم مخططات الفرقة والاختلاف في الدين الواحد وفي المذهب الواحد من خلال ذلك وغيره نجد مسؤولية إلزامية على الجميع كل حسب موقعه ومسؤوليته وعلمه ومعارفه للتصدي وحمل نور الرسالة المحمدية وبذلك نتحمل مسؤولية النشر القرآني عن وعي لما نحن فيه بهدف أعادة الدور القرآني لهذه الأمة الخيّرة كما وصفها القرآن الكريم (كنتم خير أمة أخرجت للناس)([16]).
أنسب صيغ التفسير القرآني معاصرة للواقع:
ونقصد به اليوم وفي هذا العصر الحديث وفي ظل تحولاته، لا يمكننا ان نقصر تفسير القرآن الكريم على بحوث أكاديمية بحتة أو نجمد على طرق تفسيرية معينة لا تنهض بالمعطيات القرآنية ولا تلبي حاجات الفرد والمجتمع المسلم ولا التشريع في مساحاته المرنة ومناطق الفراغ.
لذا تنبّه المفسرون المحدثون إلى المنهج الموضوعي في التفسير وكان الشهيد السيد محمد باقر الصدر (رضوان الله عليه) من أبرز من تصدى لهذا اللون من التفسير رغم قلة منتوجه التفسيري للمنية التي عاجلته ولم تسمح للأمة ان تستفيد من هذا النبع الزاخر وبالتالي حرم العالم الإسلامي بل الإنسانية كلها من هذا العطاء الثر.
رغم كل ذلك نحن نقف أمام مدرسة تجديدية ونظرات جديدة في استنطاق النص حيث يدعو الشهيد الصدر من يريد استنطاق القرآن الكريم ان يذهب أولا إلى الواقع فيستقرأه ويستطلع ما فيه ثم يعرض حصيلة ذلك على القرآن الكريم لا سيما الموارد القرآنية ذات العلاقة بالموضوع المعين ومن ثم بيان ذلك الاستنطاق بالعودة ثانية للناس والواقع.
ان هذا المنهج الموضوعي للتفسير فتح آفاقاً كبيرة لتأسيس النظريات القرآنية في مختلف المواضيع والعناوين مما يساعد على التصدي الواسع لما أثير ضد المسلمين مؤخراً. وهذا من شأنه ان يدفع للتلاقي بين جهود المفسرين والمصلحين، يوحدهم الهدف الذي يسعون إليه والمنهج القرآني الذي به يستعينون على رد الشبهات وتأسيس النظريات الإسلامية من واقع قرآني.
وقفة مقارنة:
لقد بات الفرق واضحاً بين هذا المنهج الموضوعي الذي سلكه الشهيد الصدر (رضوان الله عليه) وطوّره حيث كان يستهدف من ذلك إظهار النظريات القرآنية من خلال هذا المنهج الموضوعي في التفسير الذي مارسه مفسرون آخرون ولكن ليس بهذا العمق والهدفية ولنذكر تناوله للثروة والمال فالشهيد الصدر (رض) استطاع ان يخرج بنظريات واضحة اقتصادية إزاء المال الذي يمتلكه الإنسان والثروة العامة بينما بقيت محاولات مدرسة السيد جمال الدين في مصر وتلميذه رشيد رضا ومحمد عبده في تناول موضوع المال والثروة تتراوح في جانبين:
1- أهمية الإنفاق وتأثيره الاجتماعي.
2- التأكيد على الجانب الروحي والأخلاقي في مسألة الإنفاق.
فهذه المحاولة رغم أهميتها لا تنهض لاستكشاف النظرة الاقتصادية الإسلامية الشاملة بينما نجد الشهيد الصدر (رض) استطاع ان يؤسس لمذهب اقتصادي إسلامي ناقداً المدارس الاقتصادية الكبرى السائدة اليوم واعتبر كتابه (اقتصادنا) وبحوثه الأخرى في الموضوع نفسه كشفاً مهماً لهذه النظريات الأساسية رغم ان الباب لابد ان يبقى مفتوحاً أمام الباحثين لتطوير هذه النتاجات المباركة.
وعليه فهذا الاتجاه في التفسير لدى المدرسة الصدرية ومدرسة السيد جمال الدين كلاهما تركاً أثراً واضحاً في ما نطلق عليه بالتفسير الاجتماعي للقرآن الكريم. وهذا مدخل كبير لتأسيس موسوعة اجتماعية قرآنية فهي مشروع من مشاريع التقارب والوحدة لا سيما إذا ما ركزت على المشتركات وانتهجت الأسلوب المشترك في البحث العلمي وفي عرض الفكرة
وهذا اللون من التفسير ليس بدعاً في جهود المفسرين ولا يتنكب الأصول والقواعد التفسيرية التي تسالم عليها العلماء وهنا حديث طويل في بيان هذا النوع من التفسير الذي نحن بأشد الحاجة إليه في عالمنا المعاصر وقد استوفيناه في أبحاث أخرى ألقينا بعضها في مؤتمر تكريم الشيخ محمد جواد البلاغي (رحمه الله) الذي أقيم في قم المقدسة قبل سنوات.
نحو موسوعة قرانية اجتماعية للتقريب:
هذه الموسوعة التي أود الحديث حولها من أبرز ما يهتم به حملة القرآن الكريم والمعنيون بنشر معارفه ومفاهيمه.
نقصد بالموسوعة الاجتماعية: هي الجمع الواعي والعلمي لكل الدراسات القرآنية التي نجدها في كتب التفسير وفي المقالات والمؤتمرات والكتب والمؤلفات التي تركها أصحابها، وهذا العمل يحتاج إلى الكثير من الجهود لأبرازه ليتصدر المكتبة القرآنية. وبالخصوص الدراسات التي تعنى بالتقريب والوحدة من خلال استدلال قرآني.
ماذا تحتاج هذه الموسوعة حتى تكتمل؟
المكتبة القرآنية بحاجة إلى هذه الموسوعة الاجتماعية التقريبية للقرآن الكريم ويمكن ان يعطى المشروع إلى مؤسسة تقوم بما يلي:
1- البحث عن الموضوعات التي عولجت قرآنياً داخل التفاسير وخارجها لا سيما ذات الطابع التقريبي.
2- تبويب الموضوعات.
حيث توجد مقالات وأبحاث كثيرة متنوعة بُحثت فيها مسائل اجتماعية أو اقتصادية أو سياسية أو ثقافية وغيرها من خلال رؤى قرآنية.
3- ترتيب هذه الموضوعات على نظام المواضيع والحروف الأبجدية وتبقى الموسوعة مفتوحة لسنين قادمة لتصدر أجزاء على التوالي.
4- محاولة إنزال هذه الموضوعات على الكومبيوتر منذ الشروع في العمل.
5- يفضل ان يكون هناك بعض الأكاديميين المتخصصين في الشؤون المذكورة (اجتماعية – اقتصادية – سياسية – ثقافية) من خلال الاشراف على هذه الأقسام.
وهذه الموسوعة تشكل ركناً كبيراً من هذا الجهد القرآني التقريبي النافع لغرض نشره للناس وسنجد فراغات كثيرة بحاجة إلى ملء ونحتاج إلى مبادئ حقيقية لملء هذه الفراغات.
مسؤوليات قادمة تنتظر القرآنيين في نشر الثقافة القرآنية التقريبية:
1- لو أخذنا بنظر الاعتبار النشأ والجيل الجديد ومدى تحملهم لهذه المسؤولية وتحصينهم بها لما تنتظرهم من تحديات في أصول هذا الكتاب الإلهي ومحاولات التشويش على النص القرآني في أذهان هذا الجيل فان الجهود المبذولة في تأسيس مدارس تحفيظ وتجويد وقراءة القرآن الكريم تحتل أهمية كبيرة في إنقاذ الموقف. وكلها نشاطات تدخل في الجهد التقريبي بين المسلمين.
2- أخذت التحديات أنماطاً معقدة أمام القرآن الكريم حتى عاد البعض لم يأبه بجهود القدامى من المفسرين وان على الأمة ان تتحرر من عقال تلك التفاسير ولتضرب عرض الجدار القواعد التي أقرّها العلماء في تفسير القرآن الكريم فظهرت ألوان من التجديد والتجديف وغمط الحقيقة وقلب الموازين من ذلك تفاسير وردت عن محمد عيتاني حين فسر القرآن بأسلوب ديالكتيكي ومحاولات نصر حامد ابو زيد والشحرور السوري وجابر عصفور وغيرهم كثير. وهي من جهتها تعبث في وحدة المسلمين والرؤية الأصيلة للقرآن الكريم.
فهنا تتأكد المسؤولية على من يتقن فهم النص القرآني ان يتصدى لهذه المحاولات بأسلوب علمي مؤثر وينشر الثقافة القرآنية الأصيلة والتي تترشح عن الاستنطاق القرآني الصحيح.
3- ظهرت كتب ضمن المكتبة المسيحية التبشيرية تؤكد بعضها على إظهار التناقضات الظاهرية بين الآيات القرآنية والتي تكفل المفسرون بحلّها لكنهم لم يلتفتوا إلى تلك النتائج سعياً منهم للطعن في اعجازية القرآن الكريم فجاءت كتبهم مليئة بالطعون ولمز الاعجاز القرآني. فالتصدي لها يوفر فرصاً كثيرة للعمل المشترك في البحث العلمي.
4- هناك انصاف المفسرين يعقدون الاجتماعات هنا وهناك مع بعض مريديهم ليحمّلوا القرآن الكريم آراءهم وينسفوا مبادئ واضحة من المعطيات القرآنية والسنة الشريفة من قبيل العصمة والشفاعة والأمامة وغيرها فيجمعون الآراء الشاذة ويعرضونها بأسلوب جديد تثير الإشكالات والتناقضات لدى قرائهم ومستمعيهم، مما أوجدوا أجواء من الشبهات والتشويه والطعن استهدافاً للعقل المسلم بالدرجة الأولى، وهذه محاولات لا يمكن السكوت عنها وتحتاج إلى مشورة وطرح آليات مؤثرة أزاء هذه المدعيات الفارغة.
5- هناك من عمل على حذف أو تغيير بعض الروايات الواردة في مصادر أهل السنة بحق أئمة أهل البيت (ع) لتطبع تلك الكتب والمصادر بطبعات خالية من تلك الفضائل المروية عن النبي محمد (ص) بحقهم سلام الله عليهم.
وفي هذا السياق ظهرت مواقع الكترونية لأدعياء العلم والمتطرفين عمدوا إلى عرض حقائق التاريخ بشكل مقلوب كحادثة الغدير وموضوع السقيفة وقلب تفسير حديث (فاطمة بضعة مني من آذاها فقد آذاني) بدعوى انه نهي لعلي (ع) إلا يتزوج على فاطمة وغير ذلك كثير.
وهنا يتجلى دور القرآنيين في تصحيح هذا المسار بشفافية البحث العلمي بأن هذه الدعاوى والمساعي التحريفية تقضي على الحقيقة العلمية، وسيتعاطى مع ذلك كل باحث معتدل غير متطرف وفي المقابل كذلك إذا ما حصل شبيه تلك الأعمال فلابد من التصدي العلمي لها أيضاً.
6- سياسة منع نشر الثقافة القرآنية لمدرسة أهل البيت على أكثر من صعيد، اضف إلى ذلك كله قلة الجهود المبذولة في اطار هذه المدرسة التفسيرية وعدم انتشارها بشكل واسع فقد تسبب ذلك أيضاً في إيجاد فراغات مؤثرة في صياغة العقل المسلم مما يقتضي ملء هذه الفراغات من خلال تكثير المواقع الالكترونية النافعة والكتاب المؤثر والنشاطات العلمية السليمة، ان احياء مدرسة أهل البيت التفسيرية يُسهم بشكل كبير في ردم الهوّة بين المذاهب الإسلامية، ولابد ان تبذل جهود حقيقية لأبراز هذه المدرسة لتصادر كل التوهمات والشبهات التي يتصيدها المتربصون في طريق وحدة المسلمين.
7- هناك قنوات فضائية تطرح ثقافة قرآنية تحتاج إلى الكثير من التهذيب والتدقيق العلمي للأسف وكأنها لا تخاطب ملايين البشر حيث يحتاج هذا الخطاب إلى الكثير من العناية والدقة والموضوعية مما يشكّل أفهاماً لدى المستمعين نحتاج إلى الكثير من الجهود في تهذيبها وبيان الحق فيها.
8- هناك دعم كبير لجهود المتطرفين في المذاهب الإسلامية للتركيز على نقاط الاختلاف واغماط نقاط التوافق وقد بذلت اموال طائلة في هذا الطريق وترشح عنها اعمال اعلامية من فضائيات ومواقع الكترونية وكتب حتى بلغت ذروتها في فتاوى التكفير، وقد حصل النص القرآني على سهم كبير في هذه المواجهات المتنكبة لأصول العلم الحقيقية. فهنا حاجة ماسة أيضاً لتصدي القرآنيين لبيان المعنى الصحيح لمعطيات النص القرآني ولابد ان تستخدم نفس الآليات المستخدمة في الجانب الثاني فالهدى لا ينتشر إلا من حيث انتشر الضلال، رحم الله السيد شرف الدين.
9- هناك أهمال واسع على صعيد الأسرة الواحدة فهي تفتقد للقرآن الكريم بين الأطفال وداخل الأسرة حيث لا يوجد لديهم إقبال أو اهتمام بالقرآن الكريم وهذا أمر مشكل في ذاته ينتج لنا أسرة ضعيفة قرآنياً. فدور التقريبيين من حملة القرآن يصنع أسرة صالحة وأجيالاً صحيحة وهذا لا يتوقف عادة على لون مذهبي معين وإنما بروح القرآن والإسلام يجب ان تنعم الأسرة عموماً بكل مكوناتها وأفرادها.
10- لو دققنا أكثر لوجدنا تحديات أخرى تقتضي الكثير من العناية لكننا نتركها للباحثين الآخرين ولفرص أخرى.
والحمد لله رب العالمين
[1] - سورة النحل: 44.
[2] - راجع بحث، د. علي الأوسي مؤثرات التقارب والوحدة من خلال التفسير النبوي للقرآن الكريم، ص13.
[3] - التفسير والمفسرون في ثوبه القشيب، محمد هادي معرفة، الجامعة العالمية للعلوم الرضوية، مشهد، 1418هـ، 1/173، 307، 323، 469.
[4] - المصدر السابق نفسه.
[5] - سورة هود: 120.
[6] - مقدمة ابن خلدون، عبد الرحمان بن محمد، مؤسسة الاعلمي، بيروت، ص: 439-440.
[7] - التبيان في تفسير القرآن، الشيخ الطوسي، مكتب الإعلام الإسلامي، الطبعة الأولى، سنة 1409هـ، 1: 4.
[8] - سنن الترمذي، محمد بن عيسى، دار الفكر، بيروت، الطبعة الثانية، سنة 1403هـ، 5 : 328-329/ 3876. وانظر المستدرك على الصحيحين، الحاكم النيسابوري، دار المعرفة، بيروت، سنة 1406هـ، 3/109.
[9] - الذريعة إلى تصانيف الشيعة، الشيخ آقا بزرك الطهراني، دار الأضواء، بيروت، 4 : 295/1299 و 4: 298/1309 و 4 : 302/1316.
[10] - التفسير والمفسرون في ثوبه القشيب 2/29-87.
[11] - الدر المنثور، جلال الدين السيوطي، دار المعرفة، بيروت، الطبعة الأولى، سنة 1365هـ، 1 :2.
[12] - التفسير والمفسرون في ثوبه القشيب 1: 305.
[13] - راجع: د. علي الأوسي، البلاغي مفسراً ص67.
[14] - سورة محمد: 24.
[15] - راجع كتاب الإسلام على مفترق الطرق ص 39.
[16] - سورة آل عمران: 110.
ارسال نظر