كلمة محمد توفيق رمضان البوطي
الدكتور محمد توفيق رمضان البوطي
رئيس اتحاد علماء بلاد الشام
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه
أجمعين وبعد
فإني أتوجه بادئ ذي بدء بالشكر والتقدير لجهود المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية، الذي ينهض بمسؤولية عظيمة في جمع الكلمة وتوحيد الصف بين أبناء الأمة الإسلامية على تعدد ألوانهم وأطيافهم تحقيقاً للواجب الذي فرضه الله على الأمة في جمع كلمتها ونبذ أسباب الفرقة والنزاع، سائلاً الله تعالى أن يوفق مساعيكم لما فيه خير الأمة الإسلامية وقوتها وعزتها. وبعد
فإن من أعظم ما أكد على كتاب الله وسنة نبيه وأمرا بتحقيقه وحذرا مما ينتقص منه: وجوب اجتماع الكلمة وتوحيد الصف، وإقامة العلاقة بين المسلمين على أساس المودة والمحبة والتعاون، من ذلك قوله تعالى: ( وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ)
وجعل مدار كثير من الحكام والآداب حول تحقيق هذا المعنى. فأمر بإصلاح ذات البين، فقال: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) ونهى عن كل ما من شأنه أن يفسد العلاقة بينهما.
وورد في السنة المطهرة ما رواه البخاري عن عبد الله بن عمر أن رسول الله قال: " المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه، ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة، فرج الله عنه كربة من كربات يوم القيامة، ومن ستر مسلما ستره الله يوم القيامة" وروى مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : "
لا تحاسدوا ولا تناجشوا ولا تباغضوا ولا تدابروا ولا يبع بعضكم على بيع بعض، وكونوا عباد الله إخوانا المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره، التقوى هاهنا " ويشير إلى صدره ثلاث مرات "بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام، دمه وماله وعرضه"
وروى الترمذي عن سليمان بن عمرو بن الأحوص قال: حدثنا أبي أنه شهد حجة الوداع مع رسول الله فحمد الله وأثنى عليه وذكر ووعظ ثم قال: " أي يوم أحرم، أي يوم أحرم، أي يوم أحرم؟ " " قال: فقال الناس: يوم الحج الأكبر يا رسول الله، قال: " فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا، ألا لا يجني جان إلا على نفسه، ولا يجني والد على ولده، ولا ولد على والده، ألا إن المسلم أخو المسلم، فليس يحل لمسلم من أخيه شيء إلا ما أحل من نفسه، ألا وإن كل ربا في الجاهلية موضوع، لكم رءوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون غير ربا العباس بن عبد المطلب فإنه موضوع كله، ألا وإن كل دم كان في الجاهلية موضوع، وأول دم وضع من دم الجاهلية دم الحارث بن عبد المطلب، كان مسترضعاً في بني ليث فقتلته هذيل، ألا واستوصوا بالنساء خيرا، فإنما هن عوان عندكم ليس تملكون منهن شيئا غير ذلك إلا أن يأتين بفاحشة مبينة فإن فعلن فاهجروهن في المضاجع، واضربوهن ضربا غير مبرح، فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا، ألا وإن لكم على نسائكم حقا، ولنسائكم عليكم حقا، فأما حقكم على نسائكم، فلا يوطئن فرشكم من تكرهون، ولا يأذن في بيوتكم لمن تكرهون، ألا وإن حقهن عليكم أن تحسنوا إليهن في كسوتهن وطعامهن ": " هذا حديث حسن صحيح "
بقيت مسألة التكفير
عن أبي هريرة : أن رسول الله قال: "إذا قال الرجل لأخيه يا كافر، فقد باء به أحدهما " وروى ابن حجر في المطالب الثمانية عن عمران بن حصين قال: قال رسول الله " لعن المؤمن كقتله، وإذا قال له: يا كافر، فهو كقتله"
ومما قاله العلامة الشهيد في هذا الصدد: ومما قاله العلامة الشهيد رحمه الله في هذا الصدد: عباد الله: عندما توفي رسول الله وكاد أن ينطوي عهد الصحابة وجاء عهد التابعين تنامت فرق إسلامية شاردة عن منهج الإسلام، تكاثرت في كيان الدولة الإسلامية كما تتكاثر الثآليل على الجسد السوي من أمثال المرجئة والجهمية والحشوية والمجِّسَدة والخوارج وما إلى ذلك، هل كَفَّرَ المسلمون أي فرقة من هذه الفرق؟ نهائياً. أصغينا السمع إلى مواقف بقايا الصحابة، إلى مواقف التابعين – وهؤلاء هم السلف الصالح – لم نسمع قط أن فيهم من كَفَّرَ خارجياً أو كَفَّرَ مرجئياً أو كَفَّرَ أيَّاً من هذه الفئات أو الفرق التي شذَّتْ وشردت عن صراط الله سبحانه وتعالى. ويذكرني هذا بالإمام أحمد الذي يزعم اليوم بعضُ المتطرفين أنهم يسيرون وراءه وأنهم يتبعون نهجه. أحمد بن حنبل هو الذي أوذِيَ أشد أنواع الإيذاء عن طريق المعتزلة القائلين بأن القرآن مخلوق، لم يكن كلام الله ثم وجد، أوذِيَ وحُبِسَ وضُرِبَ مدة طويلة في عهد المأمون، ثم إن الله عز وجل شاء أن ترتفع عنه المحنة في عهد المتوكل. جاء بعض أصحابه يقولون له يا سيدي ادع الله على ابن أبي دُؤاد رأس المعتزلة، قال له: وما يفيدك أن يعذب الله عز وجل يوم القيامة أخاً من أجلك، لا بل أدعو الله سبحانه وتعالى له.
عباد الله: هذا هو نهج السلف، وهذا هو المبدأ الذي أرساه ربنا في محكم تبيانه وطبقَّه حبيبنا محمد في حياته.
إن المبدأ العام في هذه المسألة واضح، فلو رجعنا إلى صحيح مسلم فقد روى عن أبي هريرة أن النبي قال: يا أبا هريرة اذهب بنعلي هاتين فمن لقيت من وراء هذا الحائط يشهد أن لا إله إلا الله مستيقناً بها قلبه فبشره بالجنة" وروى البخاري قال: سأل ميمون بن سياه أنس بن مالك قال: يا أبا حمزة، ما يحرم دم العبد وماله؟ فقال: " من شهد أن لا إله إلا الله واستقبل قبلتنا وصلى صلاتنا وأكل ذبيحتنا فهو المسلم، له ما للمسلم وعليه ما على المسلم "
عن عبادة بن الصامت أنه قال: دخلت عليه وهو في الموت، فبكيت فقال: مهلا، لم تبكي؟ فوالله لئن استشهدت لأشهدن لك، ولئن شفعت لأشفعن لك، ولئن استطعت لأنفعنك، ثم قال: والله ما من حديث سمعته من رسول الله لكم فيه خير إلا حدثتكموه، إلا حديثا واحدا وسوف أحد ثكموه اليوم، وقد احيط بنفسي، سمعت رسول الله يقول: " من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله حرم الله عليه النار "
وقد يقول قائل: إن النبي قيد حكم من شهد باليقين في حديث مسلم، ولعل هذا الفريق أو ذاك ليس كذلك. والجواب: أن مسألة اليقين أمره إلى الله، والحكم هنا يفسره قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَتَبَيَّنُواْ وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِندَ اللّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنتُم مِّن قَبْلُ فَمَنَّ اللّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُواْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً ) فسبب نزول الآية ما رواه الطبري عن السدي: يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا تبتغون عرض الحياة الدنيا الآية . قال : بعث رسول الله سرية عليها أسامة بن زيد إلى بني ضمرة, فلقوا رجلا منهم يدعى مرداس بن نهيك معه غنيمة له وجمل أحمر, فلما رآهم أوى إلى كهف جبل واتبعه أسامة, فلما بلغ مرداس الكهف وضع فيه غنمه, ثم أقبل إليهم فقال: السلام عليكم, أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله. فشد عليه أسامة فقتله من أجل جمله وغنيمته. وكان النبيإذا بعث أسامة أحب أن يثني عليه خيرا, ويسأل عنه أصحابه, فلما رجعوا لم يسألهم عنه, فجعل القوم يحدثون النبي ويقولون: يا رسول الله, لو رأيت أسامة ولقيه رجل فقال الرجل: لا إله إلا الله محمد رسول الله, فشد عليه فقتله. وهو معرض عنهم. فلما أكثروا عليه, رفع رأسه إلى أسامة فقال: " كيف أنت ولا إله إلا الله " ؟ قال: يا رسول الله إنما قالها متعوذا, تعوذ بها. فقال له رسول الله : " هلا شققت عن قلبه فنظرت إليه؟ "
وعن عقبة بن مالك، عن النبي أنه قال: " أما بعد، فما بال الرجل يقتل الرجل وهو يقول: أنا مسلم؟ " فقال القاتل : يا رسول الله ، إنما قالها متعوذاً ، فقال رسول الله هكذا وكره مقالته، وحول وجهه عنه، فقال: " أبى الله على من قتل مسلما، أبى الله على من قتل مسلما "
يعجب المرء كيف يحكم البعض على فريق من الناس ...من أهل بلد ما، أو مذهب ما، بالكفر بالتعميم لأن بعض أبناء ذلك البلد أو أتباع ذلك المذهب تكلم بكلام فيه ما يتنافى مع مقتضيات الإيمان... فيعممون الحكم لهوى في أنفسهم، ولتحقيق هدف خارجي لتمزيق الأمة وإثارة الصراع بين أبنائها.
إن الأمة الإسلامية اليوم تعيش فترة عصيبة من تاريخها، والكثير من أبناء الأمة ينفذون من حيث يشعرون أو لا يشعرون مخططات العدو لتدمير وجودهم وتمزيق كلمتهم. فتقارير عملاء مخابراتهم حول خطر وحدة كلمة الأمة ويقظتها لم تعد سراً، وإن أصر بعض الناس عن التعامي عنها ليتابع سيره في برامج وضعها العدو ويرفض أن يقر أنها برامج للعدو. وعندما كشف بعض المطلعين دور الصهيوني الفرنسي برنارد ليفي سخر هؤلاء من هذا الكلام... سخر لأنه مصر على السير تحت الراية العمية التي وضع نفسه في مسالكها ... وعندما دفع الغرب بالكثيرين ليجاهدوا في بلاد الخريف القذر ... بالصورة التي سجلتها وسائل إعلامهم إنما كان يهدف لتشويه الإسلام باسم الإسلام، ويحارب الإسلام بمن يلبسون مظاهر إسلامية ويرفعون شعارات إسلامية. ويصر من ارتضوا أنفسهم والأمة معهم على متابعة السير في هذا النفق المظلم تعصباً وعناداً، أو طمعاً بلعاعة من مكاسب لن يتحقق لهم منها إلا عارها سوف يغدون سبة التاريخ والصورة المشوهة للدعاوى التي يدعونها.
أيها السادة
إن جميع أبناء الأمة مطالبون اليوم من خلال المرجعيات العلمية والقيادات الدينية والسياسية بتوحيد الكلمة ونبذ كل ما من شأنه أن يمزق كلمتهم ويشتت صفهم ويضعف قوتهم. وأن يتجنبوا أسباب النزاع وكل ما من شأنه أن يمنح أهل الفتنة الحجة للنيل من أسباب تضامنهم واتفاقهم.
أعود فأختم بمثل ما بدأت به من ذكر قوله تعالى: ( وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ)
وقوله سبحانه:( وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ)
وإنها لأمانة وضعها ربنا في أعناقنا ... وحدة هذه الأمة ونبذ أسباب التنازع والخصومة مما بين أبناء الأمة سدد الله خطاكم لما فيه وحدة هذه الأمة وقوتها وجنبنا وإياكم مزالق الفرقة والنزاع والسلام عليكم ورحمة الله.
ارسال نظر