القدس محور وحدة الأمّة
مداخلة الأستاذ/ عثمان محمد جاه
رئيس المركز الإسلامي للتقريب بين المذاهب في جمهورية غامبيا
وقاض بالمحكمة العليا للاستئناف الشرعي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي بنعمته وتوفيقه تتم الصالحات، والصلاة والسلام على حبيب ربّه محمّد، وعلى آله الطيبين الطاهرين وصحابته الكرام المنتجبين... وبعد
تمهيد
توجد لتوحديد الأمّة الإسلامية، عوامل ومقوّمات عدة، كلها تساعد على تحقيقها، ومن أهمّ هذه العوامل، وحدة المنشأ، والمرجع، وبين الوحدتين وحدات كثيرة. فوحدة المنشأ عامل مشترك بين كافة خلق الله تعالى، مؤمنيهم وكفّارهم، يقول المولى سبحانه وتعالى:" يا أيّها الناس اتقوا ربّكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبثّ منهما رجالا كثيرا ونساء، واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إّنّ الله كان عليكم رقيبا:" سورة النساء 1
فوحدة المنشأ يجعل قلب الإنسان يميل إلى أخيه في الإنسانية قبل اعتبار وحدة الاتجاه والمصير التي رسم النبيّ صلى الله عليه وآله وسلّم معالمه عند قوله:" كلكم لآدم وآدم من تراب...، لافضل لعربيّ على عجميّ .. إلاّ بتقوى الله..." ومن نتائج هذه الوحدة، وشروطها، وضوابطها، التعايش السلمي، وعدم الاعتداء على الغير،:" لاينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبرّوهم وتقسطوا إليهم، إنّ الله يحبّ المقسطين، إنّما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون"الممتحنة 7- 9،
فعلاقة الفريقين علاقة ندّ واحترام متبادل، مالم يتعدّ طرف على حرية الطرف الآخر بسبب اختيار اتجاه ومصير يريدهما.
ثم يأتي عامل وحدة المرجع والمصير ليوحّد عامّة الناس، الشاكر منهم والكافر سواء، فالكل مصيره إلى الهلاك ثمّ إلى ربّ واحد وخالق واحد، والكلّ في عرصات واحدة يوم القيامة، فإمّا جنّة وإما النار والعياذ بالله تعالى، وهذا مصداق لقوله تعالى:" .... إنّا لله وإنّا إليه راجعون..."البقرة 156 وقوله تعالى:" كلّ نفس ذائقة الموت..." آل عمران 185 وكان ينبغي أن تكون وحدة المصير من أهم عوامل الجمع والتوحيد، إذ الناس فيها سواء ابتداء، والتمييز بين الناس فيها يكون لأسباب خارجية يكسبها الإنسان من عوامل الوحدات بين الوحدتين، عامل الإيمان والتقوى والطاعة وغيرها من الأعمال التي يكسب صاحبها الجنة وضدها يكسب صاحبها النار والعياذ بالله تعالى. هاتان عاملتان فطريتان، فبقيت العوامل الكسبية التي توحّد جميع المشتركين فيها من مختلف المجتمعات البشرية، وأخصّ بالذكر هنا المجتمع الإسلامي.
مفهوم المجتمع الإسلامي
والمجتمع الإسلامي حين يطلق يقصد منه جميع القطاعات البشرية – بمختلف أشكالها وألوانها ومواقعها الجغرافية وأعراقها- التي تشترك في عقيدتها وأعمالها التطبيقية على مبدإ وحدة الربّ الخالق، والنبيّ الخاتم، والقرآن المنزّل على محمّد صلى الله عليه وسلّم، وقبلة واحدة، والأركان الستة والخمسة للإيمان والإسلام على التوالي بالأساس، والإحسان بالإضافة.
فحين نطلق كلمة الأمّة الواحدة نعني بذلك تلك التي تشكّلت على هذه القاعدة الصلبة، التي كلّ ركن من أركانه يمثّل عاملا قويّا وأساسيّا من عوامل الوحدة الإسلامية التي تواطأت النصوص القرآنية والنبوية الشريفة على الحث عليها وبيان أهمّيتها في بناء أمّة واحدة قويّة مهيبة وعزيزة، وحذّر المصدران القرآن والسنّة معا من الخلاف العقيم والنزاع المشين بين شعوبها، وأنّ ذلك يعيد الأمّة الواحدة إلى الوراء ويشجع أعداءها على الهجوم عليها:" وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا" الأنفال 46
إنّ كلّ عامل من عوامل الوحدة، كفيل بحدّ ذاته لتوحيد الأمّة الواحدة المترامية الأطراف، إذ إنّ أهمّ ما يوحد الناس اليوم هو المصالح، والمصلحة إمّا فردية أو إجتماعية، وكلا الاتجاهين في قضية الوحدة الإسلامية يصب في قالب واحد، إذ إنّ مصلحة الفرد المسلم في خضوعه ورضوخه لربوبة الربّ الواحد رغبة في نيل رضاه وبالتالي في الفوز بالجنة والنجاة من النار، وهذا الهدف ذاته عامل مؤثر من عوامل الجمع، وونتائج هذا الجمع تكوّن مجتمعات مشتركة في المصالح، فتتوحد من أجلها بسبب وحدة مصيرها.
وعلى هذا الأساس، فالعوامل الجامعة الموحّدة أكثر وأهمّ بكثير من العوامل التي تميّز بين المدارس الفكرية المكتسبة والناتجة عن تباين الأفكار حول النصوص، لسببين أساسين هما: تفاوت العقول في فهم النصوص، وتشابه النقول في الأصول والفروع، على أشكال الأحوال والهيئات لا على أسس الأعمال بالأركان.
فأمّة تجمعها وحدة الربوبية، والكتاب الواحد، والرسول الخاتم، وأركان الإيمان والإسلام بتفاصيلهما، ووحدة الموقع الجغرافي، ووحدة العدو المتمثّل في الصهيونية العالمية ومن يوالها من الاستكبار العالمي بملامحه الواضحية، لا ينتظر العاقل الفطن أن تتفرق لأسباب أغلبها سياسية طامعة، أوعرقية جاهلة، أو فكرية ضالة، أو مذهبية متعصّبة، أسباب كلّها مرضية، لاتخدم وحدة الأمّة ولاقوّتها بأيّ شكل من الأشكال. هذا عن العوامل الفطرية والداخلية المكتسبة.
وأمّا العوامل الخارجية، فبالإضافة إلى العوامل المذكورة، أختار منها العلاقات بين شعوب أمّة واحدة حال الحرب والسلم، العلاقات الإقتصادية والسياسية والدفاعية وغيرها التي تجعل صورة الوحدة واضحة جليّة وتجعل معنى الوحدة عملا تطبيقيا، تنكسر من خلاله الحدود الجغرافية الوهمية بسبب عامل الأخوة الدينية ووحدة الاتجاه.
القضية المحورية
وأفضل مثال يضرب في هذا الصدد هو القضية المحورية لهذه الأمّة، وهي قضية فلسطين، التي اكتسبت أهمّيتها ليس فقط لأنّ الشعب الفلسطيني شعب مسلم، ولكن لموقع فلسطين الجغرافي، من ثلاث نواحي، دينية، سياسية، ودفاعية، فهو موقع يحتضن ثالث الحرمين الشريفين، المسجد الأقصى ومسرى الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلّم. سياسية ودفاعية، لأنها تقع في نقطة التماس بين قوّة الشر والخير، فيمكن أن تكون منطلقا للقوات الهجومية من جهة الأمّة، كما دأبت أن تكون عامل مقاومة ودفاع ضد هجومات واعتداءات العدو الصهيوني، العدو المشترك، والوحيد لهذه الأمّة الواحدة منذ نشأتها.
تأكد كون القضية الفلسطينة منبرا صالحا لتوحيد صفوف الأمّة الإسلامية منذ أن أزاح عدوها الوحيد ما تبقى من حجاب الشك على إمكانية التعايش السلمي معه، وذلك حين تعمّد العدو الصهيوني إشعال حريق في المسجد الأقصى يوم 21 أغسطس 1969م الموافق 2 رجب 1389هـ لهدف تدميره تماما وتسويته مع الأرض، وعلى إثر تلك الحادثة الأليمة رأى زعماء الدول الإسلامية بملوكها ورؤسائها، ضرورة عقد قمّة طارئة تهدف إلى وضع حدّ للإعتداءات الصهيونية ضد مقدّسات الأمّة الإسلامية، فانعقدت القمة فعلا في العاصمة المغربية الرباط وتأسست من نتائجها ثانية كبرى المنظمات العالمية حيئذ بعد الأمم المتحدة، حيث ضمّت في عضويتها أكثر من خمسين دولة لأهداف وحدوية نبيلة أهم تفاصيلها توحيد الدول الأعضاء، وتجميع كلمتها وتوحيد صفوفها وتنميتها إقتصاديا على أمل واحد هو تحرير الأراضي المحتلّة وأهمها أرض فلسطين.
معوقات الوحدة
كانت هذه الخطوة هامة وإيجابية، وقد جنت الأمّة منها نتائج فورية ألحقت بالكيان الصهيوني ضررا بالغا وخسارة كبرى، حيث قطعت الدول الإسلامية علاقاتها مع الصهاينة إقتصاديا وسياسيا وغيرهما، ولكن الحالة تلك لم تلبث على سوقها حتى قامت رعاة مصالحها بسدّ جميع الفراغات التي خلّفتها مقاطعة الأمة للصهاينة، وبدأت في تقديم دعمها السخيّ والدائم لها، فانهمكت الصهاينة في بناء شخصيتها وقوّتها الذاتية، ومن خلال تشييد هذا البناء الصلب في مجال الأمن، والعسكرية والدفاعية، استطاعت رعاة العدو الصهيوني أن تحدث خروقات بين صفوف الأمّة الواحدة، فاستمالت بعض الدول ودخلت معها في حلف دفاعيّ وأمني واستخباراتي، وكان على تلك الدول أن تتبنى الحكمة القائلة بأنّ صديق العدو عدو، ولكنها أخذت الاتجاه العكسي فاعتبرت صديق العدوّ صديقا، وهو من المستحيلات في عالم الواقعيات، لذا رفضت الجمهورية الإسلامية الإيرانية قبل شهور فقط أن تدخل في حلف يضم بعضا من قوات الاستكبار العالمي لما يعلنونه محاربة لداعش عدو الأمّة والإنسانية معا، ذلك في اعتقادي لأنّ الجمهورية الإسلامية الإيرانية لاتتصوّرأن تصبح عدو الأمس صديق اليوم أويكون صديق العدو صديقا.
وهذه الجهود والتحالفات الأمنية والدفاعية والاستخباراتية من جهة، والإقتصادية من جهة ثانية نجحت كثيرا وأثّرت في تغيير إتجاه الأمّة وإفشال أهداف منظّمة المؤتمر الإسلامي التي جعلت القدس قضية محورية لكافة الأمة الإسلامية، واعتبرتها عامل توحيد لها. بدأت هذه الفلسفة تنهار حين استطاعت الدول الإسلامية المتحالفة مع صديق العدو تضيّق آفاق القضية، فبدلا من أن تكون قضية لكافة الأمة، تمّكّنت من حصرها وجعلها عربيّة، عرقية وسياسية، بعيدة عن الدين ومبادئه، ثمّ تطوّرت القضيّة في تراجعها وتقليل أهمّيتها وتضييق خناقها حتى دخلها داء المذهبية وغيرها من جراثيم التفريق والتضعيف لهذه الأمّة.
وبنجاح اللّوبي الصهيوني في كسب صداقة كبريات دول العالم وفي تطبيع علاقات استراتيجية مع بعض دول العالم الإسلامي، ونيل تعاطفها، كاد من الممكن إعلان فشل منظّمة المؤتمر الإسلامي في تحقيق الأهداف التي من أجلها أسست.
دور الثورة الإسلامية في توحيد الأمّة
ولمّا فقد ذلك التجمّع الدولي هيبته، ولم يعد يلعب دوره الأممي الجماعي المؤثر، وبقيت الأهداف التي من أجلها أسس هذا التجمّع غير منجزة حتى الآن، هنا أخذت الثورة الإسلامية بعد أن نجحت في تأسيس أولى دولة إسلامية ثورية إنقلابية بقيادة الإمام الراحل آية الله الخميني قدّس سرّه، مسؤولية تحرير القدس الشريف ودولة فلسطين المحتلة من درن العدوالغاصب، فنابت بذلك بقية الأمة التي تراجعت تماما عن تلك المسؤولية.
وقد بدأت المقامة الفلسطينية بسبب الدعم السخي المتواصل من الجمهورية الإسلامية الإيرانية تجني ثمار جهودها، ولولا جراثيم الطائفية والمذهبية وتعريب القضية التي طرأت وأصابت جسم الأمّة وتعمقت فيها لإنضوت عامة دول الأمة تحت مظلّة واحدة، ووقفت وقفة رجل واحد لمحاربة عدوها الأوحد، ولغلبت عليها واستعادت هيبتها ومكانتها الدينية والسياسية والاجتماعية.
علمنا التاريخ قديما وباستمرار، أنّ مركزالتجمع والتوحّد لهذه الأمة هوالقضية الفلسطينية والقدس الشريف، فكلّما اجتمعت الأمّة حولها كلّما تقاربت وتوحّدت، والعكس صحيح.
مفهوم الوحدة الإسلامية
وفي هذا الصدد ينبغي أن نبيّن لمن لايفهم مشروع الوحدة الإسلامية التي تعتبر مقصدا أساسيا من مقاصد الشريعة، بأنّا لاتعني دعوة بعض الشعوب إلى الاندماج الكلي والذوبان في كيان شعوب أخرى، أوذوبان فكر من الأفكار، أو مذهب من المذاهب في الآخر، لا بل المقصود منها الاجتماع والتوحد على نقاط الجمع والتعاون فيها، ثم التسامح في نقاط الخلافات الفرعية.
إن الاتساع الحالي للعالم الإسلامي، وكثرة السكان، وتنوع المشاكل، لاتتأتى معها إقامة دولة مركزية واحدة، ولكن يمكن إقامة دولة كونفدرالية تحتفظ فيها كلّ من الدول الأعضاء بنوع من الاستقلال، ولتحقيق هذا الهدف النبيل لابدّ من تطوير هيكلة منظّمة المؤتمر الإسلامي وأهدافها السياسية لتصبح منظمة للوحدة الإسلامية، والقضية في ظاهرها صعب المنال أو مستحيلة، ولكن الأمر في الحقيقة ليس كذلك، وإنّما يحتاج إلى إرادة سياسية وقرار سياسي يسبقهما التجرد التام والاستسلام الكامل للإرادة الدينية ورغبة أكيدة في التقارب والوحدة، علما بأنّ كل مشروع سياسي، لابدّ له من هندسة وتخطيط وقائد له، فلو أنّ الدول الإسلامية التي تعتبر مركز القلب بالنسبة للعالم الإسلامي تبنّت الفكرة وتشجّعت للمشروع الوحدوي، لتجاوب باقي الدول التابعة لها في ذات الاتجاه.
ولأجل هذا تقدّم بعض الدول الإسلامية مبادرات أوحادية الجانب، تعمل في تشجيع بقة دول العالم الإسلامي على تبنيها وجعلها مكمّلة لجهود منظمة المؤتمر الإسلامي، أو بديلا عنها، وهذه الدول والزعماء يرون في القدس والقضية الفلسطينية نواة صالحة تكون من ثمارها إعادة هيكلة الأمة الإسلامية المنقسمة على نفسها.
إعلان اليوم العالمي للقدس ودوره في توحيد الأمّة
هنا جاء إعلان الإمام الخميني قدس سره الذي اتخذ الجمعة الأخيرة من كلّ رمضان يوما عالميا للقدس الشريف لتكون أعمال ذكراها حافزة ومنبّهة تنجح في لمّ شمل الأمّة وإعادة بنائها صلبة قويّة وقادرة على تجاوز التحدّيات الداخلية والمتمثلة في الخلافات الجانبية، وتنجح أيضا في تحديد العدو الطبيعي الدائم المشترك بين أطياف الأمّة الإسلامية قاطبة، فتستطيع الأمة أن تبني قاعدتها في الولاء والبراء على عوامل الوحدة التي من أهمّها وحدة الرسالة والقرآن والقبلة، لاعلى المعسكرات السياسية، والمصالح الإقتصادية الفردية.
الخاتمة
بذا نكون قد أجبنا دعوة الإمام الراحل التي أعلنها في شهر تموز من عام 1979 م أي بعد رجوعه إلى إيران بستة أشهر، وأربعة أشهر قبل قيام الجمهورية الإسلامية الإيرانية، وكانت الدعوة تهدف إلى إعادة بناء هيبة الأمة التي وضع أساسه نبيّنا محمّد صلى الله عليه وآله وسلّم، ولكن على منبر القدس الشريف وقضية فلسطين المغتصبة.
والله أسأل أن يكلل جهود هذا المؤتمر بنجاح، وأشكر القائمين على المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب، والدولة الإسلامية الراعية لنشاطاته وجهوده الوحدوية.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
ارسال نظر