السید محمد رضا مرتضوي*

مدهش ما نراه في بريطانيا وفرنسا وأمريكا وألمانيا من تدفق المحتجين على جرائم العدو الصهيوني

مدهش ما نراه في بريطانيا وفرنسا وأمريكا وألمانيا من تدفق المحتجين على جرائم العدو الصهيوني

مدهش حقًا هذا الذي نراه في بريطانيا وفرنسا وأمريكا وألمانيا من تدفق مئات الآلاف من المحتجين على جرائم العدو الصهيوني وعلى مواقف حكوماتهم مما يجري في غزّة.


برزت في العدوان الغاشم الوحشي الصهيوني على أرض غزّة ظاهرتان مهمتان تستحقان الوقوف عندهما طويلاً ونكتفي بالاشارة داعين المفكرين في أرجاء العالم إلى دراستهما بامعان لأنها من الظواهر الفريدة في تاريخ البشرية:

الأولى: هي اتساع الحديث عن نهاية إسرائيل.
منذ أن هبت عاصفة طوفان الأقصى، راج الحديث في الأوساط العلمية والثقافية عن العدّ العكسي لنهاية الكيان الصهيوني.

جدير بنا أن نستعيد ذكرى مفكر وعالم ملتزم هو الدكتور المصري عبدالوهاب المسيري الذي كرس حياته لدراسة حقيقة الصهيونية ونهاية الكيان الصهيوني.

المسيري رجل قاوم كل الهزائم الفكرية التي مُني بها كثير من المثقفين في عالمنا الإسلامي.. وعلى رأس تلك الهزائم الاعتراف بالكيان الصهيوني باعتباره واقعًا لابدّ من الرضوخ إليه وقبوله شئنا أم أبينا.

وهذه الهزيمة لا تنحصر طبعًا في الموقف من الاحتلال الإسرائيلي، بل هي حالة نفسية تهيمن على نظرة فئة من مثقفينا تجاه الهوية والغرب والاحتلال والمستقبل الحضاري لأمتنا.

لا أزال أتذكّر صرخة الدكتورة عائشة عبدالرحمن (بنت الشاطئ) في مؤتمر بالمغرب قالت فيه بالحرف الواحد: إن مثقفينا يعانون من «الايدز» الفكري. وتقصد بذلك أنهم فقدوا قدرة المقاومة التي اكتسبناها من تراثنا ومن ديننا وتاريخنا النضالي العريق.. وأصبحنا معرضين لفتك الغزو الجرثومي الفكري الذي يرشقنا ليل نهار نفسيًا وفكريًا من وسائل الاعلام وشبكات الاتصال وممارسات العدوّ الذكيّ والصديق الغبيّ.

عبدالوهاب المسيري نموذج يجب أن تسلّط عليه أضواء كل المهتمين بتقوية البنية الدفاعية لأمتنا، لأنه الرجل الذي وعى على خطر الهزيمة النفسية أمام العدوّ الإسرائيلي، وراح بمختلف السبل بناء النفسيّة المقاومة والفكر المقاوم.

كان يتألّم للتراجع المشهود على الساحة العربية والإسلامية تجاه القضايا المصيرية، لكنه لم يشعر يومًا باليأس، بل قاوم وعشق المقاومين والتقى مرارًا ــ كما قال في مقابلة له مع «الجزيرة» بسيّد المقاومة السيد حسن نصر الله، وقال بصراحة: إن السيد نصر الله هو الزعيم الوحيد  الذي كنت أتحدّث إليه بكل جرأة عن نهاية إسرائيل.. مما يعني أن الرجل كان يواجه تشكيكًا بل رفضًا ممن التقى بهم من «الزعماء» بشأن حقيقة آمن بها بكل وجوده وهي: حتمية نهاية إسرائيل .

واضاف: ألفت كتابًا في نهاية إسرائيل سأهديه إلى السيد حسن نصرالله..إننا نرى في المسيري بأنه الرجل الذي نهض بمهمة كبرى، وهي أنه وجّه صرخة علميّة ثقافيّة بوجه اليأس والتراجع والانبطاح، وهو بذلك يندرج في قائمة الإحيائيين المعاصرين.

والإحياء كما ذكرنا مرارًا هو السبيل الوحيد للقضاء على حالة التمزّق في أمتنا، لأن الجسد الحي مترابط عضويًا..

الثانية : إنّ الوجدانُ البشري لا يزال حيًا .
مدهش حقًا هذا الذي نراه في بريطانيا وفرنسا وأمريكا وألمانيا من تدفق مئات الآلاف من المحتجين على جرائم العدو الصهيوني وعلى مواقف حكوماتهم مما يجري في غزّة.

من الطبيعي أن نرى هذا الحماس في الدفاع عن الحق الفلسطيني في البلدان العربية والإسلامية وبلدان أمريكا اللايتينية لكننا حين نراه في عقر دار البلدان التي ساندت العدوّ الصهيوني بكل مالديها من مال وسلاح واعلام و.. فهذا هو العجب العجاب!!

لقد تعرّض الإنسان الغربي خاصة بعد ثورة الاتصالات إلى قصف يومي متواصل بالإعلام المضلل الذي يحاول قلب الحقائق تجاه العالم الإسلامي عامة وتجاه فلسطين وإيران ومحور المقاومة بشكل خاص.

ومن قبل اقتضت المنظومة الفكرية للغرب الى تحويل الإنسان الغربي إلى إنسان فارغ من القيم الإنسانية لا يهمه إلاّ الاستهلاك.

إن الإعلام الغربي نجح في ترسيخ الرؤية الاستهلاكية، كما نجح أيضًا بالفعل في عزل الإنسان عما يدور حوله في العالم، برغم أن جيوش الغرب والولايات المتحدة ومخابراتها تتحرك في كل أنحائه بشكل علني أحياناً، وسري أحياناً أخرى.

وقد أدى هذا إلى تبسيط الوجدان السياسي للإنسان الأمريكي والغربي بحيث يمكن للسلطة الحاكمة أن تملي عليه ما تريد من أفكار يعتنقها بتلقائية مدهشة بحيث لا يستطيع أن يتجاوز الحدود التي فرضت على وجدانه، والتي رسمتها له النخبة الحاكمة وعزلته عما يدور في أنحاء العالم.

بدلا من إرسال الجيوش الإمبريالية لآسيا وأفريقيا لفتح الأسواق، تطلق أدوات الترويض المختلفة مثل البرامج التليفزيونية، والأفلام، والموضة (أو جماليات الصيرورة) لفتح الإنسان ولغزوه وقهره. وبدلا من النظرية العنصرية والتفاوت بين الأجناس التي استخدمتها الإمبريالية العسكرية لفتح الأراضي والقارات، تستند الاستهلاكية (أو الإمبريالية النفسية) إلى نظريتها في الطبيعة البشرية، فهي تنكر عليها أي ثبات، وترى أنها في حالة صيرورة دائمة وتغير دائم، غارقة في النسبية الشاملة، وأن الإنسان ليس بوسعه أن يفرق بين الأبيض والأسود أو الأصفر، فكلهم مجرد مادة نزعت عنها القداسة تصلح للطاحونة التي تدور والتي لا تبقى ولا تذر، كلهم مادة خام محايدة صالحة: التمدد الدائم والانتشار الذى لا نهاية له، أو الانتشار كنقطة ثبات وحيدة، تمامًا كما أن النسبية هي المطلق الوحيد.

مع كل الجهود التي بذلتها الامبريالية الغربية في مسخ الإنسان وتقريع وجدانه من أية نزعة إنسانية، يبقى الوجدان البشري حيًا، لأنه جزء من فطرة الله التي فطر الإنسان عليها، لا تبديل لخلق الله.

وهذا الذي رأيناه بعد اندلاع طوفان الأقصى يثبت هذه الحقيقة.. شوارع باريس وشوارع لندن وشوارع أمريكا تقول الوجدان البشري لا يزال حيًا.