عوامل نجاح التقريب بين المذاهب الإسلامية
عوامل نجاح التقريب بين المذاهب الإسلامية
الدكتور الشيخ علاء الدين زعتري
[إن هذه أمتكم أمة واحدة، وأنا ربكم فاعبدون. الأنبياء: 92].
[واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا. آل عمران: 103].
[إنما المؤمنون إخوة].
مثل الأمة الإسلامية كمثل دار واسعة الأرجاء، شامخة البنيان، فيها من المنافع ما يناسب ساكنيها على اختلاف مستوياتهم الفكرية ودرجاتهم العمرية، يجمعهم هذا المكان الموحد لهم من الشتات والضياع.
وليس على وجه البسيطة أمة كمثل الأمة الإسلامية لها مقومات التجمع والوحدة والوفاق والتعاون والتنسيق؛ فالدين واحد، والعقيدة واحدة، والتطلعات واحدة، والانتماء واحد، والوجود يفرض وحدة المسار والمصير.
والمسلمون اليوم بحاجة إلى الوقوف صفاً كأنهم بنيان مرصوص أكثر من أي وقت مضى، فالتحديات جسيمة، والعقبات المعرقلة مدروسة؛ تهدف إلى إفناء ما يتصل بالدين الإسلامي، وزعزعة الاستقرار في بلاد المسلمين.
باستخدام أسلوب: نهب الثروات المعلن والضمني، وإضعاف البنية الاقتصادية التحتية، والتشيك في القدرات والإرادة.
ومن أعجب العجب أن يتحد أعداء الإسلام؛ اقتصادياً، وقانونياً، حيث تم توقسع الدستور الموحد لأوروبا رغم كل عدم اجتماعهم على عقيدة واحدة صحيحة، ولا تربطهم قوة إيمانية صادقة، ولا يتحد المسلمون!!؟.
تعريف التقريب
أن يتحد المسلمون على أصول الإسلام، وأن يعذر بعضهم بعضاً في أفهامهم للنصوص؛ ما دامت تحتمل، وهو دعوة إلى التعاون على البر والتقوى لإصلاح أحوال المسلمين.
فالتقريب وسيلة لجمع الشمل ورأب الصدع وتبادل حسن الظن، ومنح التقدير للآخر؛ صيانة لوحدة الأمة الإسلامية.
والقاعدة العقائدية تقول: لا كفر مع التأويل، ولو خرق الإجماع.
وليس المراد من التقريب هو مزج الآراء، ودمج الأفكار، واتحاد المذاهب؛ إذ ليس لأحد ـ مهما بلغ ـ أن يحجر على غيره في الفكر والعقيدة والفهم.
غايات التقريب:
تعارف المسلمين على بعضهم، وأول ما يجب هذا أن يجب على العلماء؛ من خلال الدراسة والنظر في فكر الآخرين.
سعة الأفق والتسامح الحاضن لكل المذاهب الإسلامية.
أهمية التقريب
لا شك بأن العدو يريد اجتثاث الأمة الإسلامية؛ جذوراً وتاريخاً وثقافة، ومُشَاهَد أن قذائف العدو لا تفرق بين مسلم وآخر.
إن الإسلام بعالميته لا يعترف بحدود المكان، وإن شموليته لا تقر بحدود الزمان، فهو يحمل رحمة الله للعالمين، ويعرض نور الله للبشرية الظامئة المتعطشة لمنقذ من ضلالاتها، ومخلص من ترهاتها.
فالحضارة الإنسانية اليوم على موعد مع الإسلام العظيم الذي يحمل الرحمة والانفتاح والتسامح مع غير المسلمين، وهو من باب أولى يحمل هذه المعاني والقيم مع المسلمين أنفسهم، وهذه القيم هي التي تميز حضارة الإسلام عن غيرها من حضارات حوت مثالب ونقائص؛ من الضيق بالآخر، وعدم الاعتراف به.
واليوم وفي ظل المتغيرات الدولية العالمية، وبدافع من إسلامنا العظيم لاستعادة مكانتنا؛ فإنا ـ نحن المسلمين ـ مطالبون وبإلحاح بالعمل الإيجابي مع المسلمين على اختلاف مذاهبهم ومدارسهم الفقهية والفكرية.
ولما كانت العولمة بسلبياتها تريد إغراق العالم بمجموعة من التناقضات القيمية والتفلت الأخلاقي؛ فإن المسلمين مطالبون باستحضار ما لديهم من رصيد حضاري وتقديمِه من جديد إلى البشرية التي تتطلع شوقاً إلى تكرار هذا الأنموذج الحضاري الفريد.
إن مثل هذه اللقاءات لهي أفضل السبل في مواجهة تنامي الدعوات الشاذة الداعية إلى الشقاق والنـزاع كما هو مُلاحظ في الفكرة الخبيثة التي يحاول أعداء الإسلام بثها في العراق على سبيل المثال القريب.
لذا كانت لقاءات التقريب، والشفافية العرض، والوضوح في الرؤية هي الخير الأنسب، وهذا مستفاد من تجارب الأمس، وآلام اليوم، وتوقعات المستقبل.
وحقائق القرآن الناصعة تدعو إلى الوحدة؛ وحدة المعبود، ووحدة الأصل، ووحدة الأهداف.
دعوة الإسلام:
شرع الإسلام أسباب التآلف والتجمع، ونهى عن أسباب التقاطع والتفرق؛ فالتفرق يوزع القوى، أما الوحدة فتجمعها، والتفرق إمارة من علامات عدم النضوج؛ فإن العقل الناضج يلازمه ـ عادة ـ حب الإنصاف:
1 ـ فالإسلام لا يعتبر رابطة تربط المسلمين إلا رابطة الدين؛ أما روابط الجنسية والشعوبية، ورابطة اللون أو اللغة أو القبيلة فهي انتماءات جزئية قد توصل إلى العصبية البغيضة.
قال تعالى: [إنما المؤمنون لإخوة]، وقال تعالى: [يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم. الحجرات: 13].
وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "ليس منا من دعا إلى عصبية أو قاتل عصبية"، وقال صلى الله عليه وآله وسلم: "لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى".
2 ـ ونهى المؤمنين عن التعالي والتكبر، كما نهى أن يسخر بعضهم من بعض، أو يلمز بعضهم بعضاً، قال تعالى: [يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيراً منهم، ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيراً منهن، ولا تلمزوا أنفسكم، ولا تنابزوا بالألقاب؛ بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان، ومَن لم يتب فأولئك هم الظالمون. الحجرات: 11].
ولو أن متبعي المذاهب الفكرية وأهل العلم عملوا بهذه القيم السامية الرفيعة لما وصل المسلمون إلى التعصب الذي تشهده الأمة اليوم، ولما تراشق المسلمون بتهم وألقاب جاهزة يمنة ويسرة؛ بسهام التجهيل والتكفير والتفسيق والتبديع والتضليل ونحو ذلك مما مبعثه الاعتداد بالنفس من جهة، والسخرية بالآخرين.
وجعلت الآيات الآخر من المسلمين كالنفس، قال تعالى: [ولا تلمزوا أنفسكم] وحين لمزت كل طائفة من المسلمين أختها جرَّحت نفسها وأختها أمام الخصوم والأعداء؛ والعدو يحكم على طوائف المسلمين بما يحكم به بعضهم على بعض، فيحتقرونهم جميعاً.
3 ـ ونهى القرآن عن التفرق في الدين، والتشكك في قضاياه، فكل دعوة للتفريق بين المسلمين خيانة لله ولرسوله ولآله، وخيانة للقرآن الكريم، وللأمة الإسلامية، قال تعالى: [ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات].
4 ـ المسؤولية في الوحدة تقع على عاتق أولياء الأمر من المسلمين، وهم العلماء وقادة الفكر؛ حيث تقع عليهم المسؤولية، وهم محاسبون أمام الله عزَّ وجلَّ عن تحقيق هذا الهدف الأسمى؛ فليتق الله قادة الفكر الإسلامي؛ فلا يُطبعوا بطابع الجمود، ولا يخيم عليهم الهوى، وتتحكم فيهم الشهوات السياسية.
5 ـ صلاح الأمة منوط بصلاح علمائها وقادة الفكر فيها؛ فهم بمثابة القلب من الجسد؛ إن صَلَح صَلُح الجسد كله، وإن فسد فَسد الجسد كله.
الأسس الفكرية والعلمية للتقريب بين المذاهب:
ترتكز استراتيجية التقريب على أسس فكرية ومنطلقات علمية ومرحجات عقلية ونصوص نقلية، من أهمها:
1 ـ التأكيد على نقاء الإسلام من التناقضات؛ فجوهر هذا الدين واحد.
2 ـ نقاط الوحدة والاتفاق أكثر من نقاط التفرق والشقاق.
3 ـ أساس الاختلافات الفقهية طلب الحق.
عوامل نجاح التقريب بين المذاهب:
إذا أريد للتقريب أن يكون مثمراً فلا بد من تبني الأفكار الآتية:
1 ـ جعل القرآن الكريم دستور الأمة، واعتباره العنصر الرئيس في أسس أي لقاء، وجعله الحاكم في القضايا بين المسلمين.
2 ـ إقامة التقريب بين المذاهب على أساس علمي رصين؛ بعيداً عن العواطف أو ردات الفعل الآنية؛ لأن ما يقوم على أسس علمية يبقى ويستمر، وما يقوم على الظروف الزمانية يفنى ويضمحل.
3 ـ جعل التقريب قائماً على أساس التعاون الجماعي والاجتماعي؛ بعيداً عن السياسات المتقلبة، أو الانحياز إلى نظام سياسي معين هنا أو هناك، فالأنظمة السياسية لا تدوم، والعمل الجماعي يدوم.
4 ـ حسن النية وسلامة الطوية؛ وذلك بتبني المقاصد لتحقيق الأهداف، وترك الحديث في التفصيلات والجزئيات.
5 ـ الاهتمام بإبراز النقاط المشتركة بين المذاهب، والحديث دائماً عن نقاط التلاقي؛ وبخاصة مع العامة، وتوجيههم إلى أهمية الوحدة الإسلامية كما أرادها القرآن الكريم: [هو سماكم المسلمين من قبل]، وإشاعة ثقافة التقريب، وتضافر الجهود لذلك، وترك الجدل والمناظرات الفكرية والعقدية والفقهية للمختصين في المستويات العليا.
6 ـ التأكيد على أن الاختلاف بين المذاهب الإسلامية هو اختلاف خطأ وصواب، وليس اختلاف كفر وإيمان.
7 ـ عدم تضخيم مسائل الخلاف، وتحويلها إلى منازعات تشاحنية، وخصومات تنافرية، تنسي مقومات الوحدة وعوامل الوفاق، مع أن نقاط التلاقي والاتفاق أكثر بكثير من نقاط الخصام والتفرق.
8 ـ عدم الانشغال بمناظرات جانبية وجدالات داخلية؛ فالأهم هو الدعوة إلى الإسلام بعرض جوهره النقي، وصفائه الروحي، وبيان رسالته الواضحة وإبراز جمال الدين وشموله لكل مجالات الحياة، وأنه يُصلِح الإنسان والزمان والمكان.
والله تعالى سائلنا يوم القيامة عن ديننا: هل بلَّغنا رسالته، وأدَّينا أمانته، ونشرناه في العالمين بثوبه الناصع، أم كان جل اهتمامنا بالانشغال ببعضنا؛ حتى لعبت بنا الأهواء، وعبث بنا الأعداء.
فرسالة الإسلام جاءت لتجعل حياة الإنسان سعيدة، وقد وضح الإسلام سبل النجاة والأمن والاطمئنان للبشر جميعاً، وللعيش فيما بينهم بسلام ومحبة وإخاء، قال تعالى: [وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين. الأنبياء: 107]، وأهم العالمين المسلمون فيما بينهم ليكونوا رحماء برحمة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
9 ـ التخلص من عقدة كمال الصحة المطلقة، وعقدة الوصاية على الدين، فما تحمله حق وصواب يحتمل الخطأ، وما أحمله حق وصواب يحتمل الخطأ، قال تعالى: [وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين]، وإذا كان هذا في الحوار مع غير المسلمين فهو مع المسلمين من باب أولى.
فالمجتهد مهما بلغ لا يستطيع الجزم بأن اجتهاده هو الحق المطلق، وأن اجتهاد غيره هو الخطأ المتيقن؛ فذلك لا يعلمه إلا الله ورسوله، ولا سبيل إلى ذلك العلم بعد انقطاع الوحي.
10 ـ تجنب التعصب المذموم ومحاربته؛ فإنه يعمي ويصم القلوب والعقول والبصائر، ومنهج القرآن النهي عن التعصب المقيت، ويدعو إلى التسامح الديني، ومن باب أولى التسامح المذهبي، ويدعو إلى التآخي البشري فكيف بالتآخي الإيماني؟.
11 ـ الابتعاد عن مواجهة المسلم للمسلم بأشد الكلمات، وأغلظ العبارات، وأقسى الأساليب، وتجنب التجريح والتنقيص، وإحصاء الأخطاء والعثرات لدرجة قد تصل إلى الإهانة، فمثل هذا يولِّد مزيداً من الأحقاد والكراهية والبغضاء، وما أروع منهج القرآن: [ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك. آل عمران: 159].
فما أجمل اللقاء إذا كان بألطف الكلام وأرهف العبارات، وما أحسن الحوار إذا كان بأقوى الحجة وأصدق الدليل.
12 ـ تقدير الرأي والرأي الآخر واحترامهما؛ لضرورتهما وأهميتهما عند الحوار، وحين تبادل الرأي.
13 ـ أن يكون الحوار الفكري قائماً على تبادل المعرفة، وقبول الحجة المنطقية المدعمة بالدليل الشرعي الصحيح؛ دون جمود أو تعصب.
14 ـ ليكن الجدال بالتي هي أحسن، فلا يتعدى الإقناع بالدليل إلى إثارة الفرقة والخصام، ومحاولة التفريق بين المسلمين ليضعف أمرهم، ويتمكن أعداؤهم منهم، فمنهج القرآن مع غير المسلمين رفق ولين فهو مع المسلمين من باب أولى، قال تعالى: [ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة، وجادلهم بالتي هي أحسن. النحل: 125].
15 ـ مراعاة الشعور والعواطف واحترام تباين الآراء واختلاف الأفهام؛ فمثل هذا يولِّد المحبة والصفاء، قال تعالى: [ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم]، وحينها يتحول العدو إلى صديق، والمبغض إلى محب، والبعيد إلى قريب.
16 ـ عدم إثارة الطرف الآخر؛ فالإثارة تولِّد الانفعال وتقطع الحبائل المقرِّبة، اقرأ منهج القرآن مع غير المسلمين: [ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدواً بغير علم. الأنعام: 108]، فالمسلم ليس بالسباب ولا اللعان ولا الفاحش ولا البذئ؛ فالكلمة الطيبة أصل التلاقي، والحوار الهادئ أساس التفاهم.
17 ـ التجرد عن الأحكام المسبقة المبينة على الظن لدى أطراف التقريب، فالعمل لا بد أن يكون قائماً على اليقين، وليس على الوهم والظن والشك:
فقد كان أهل السنة يتصورون الشيعة من الغلاة والرافضة، مع أن الشيعة تكفِّر الغلاة وتعدهم من النجاسات.
وعند العامة من أهل السنة حكم مسبق أن الشيعة يعبدون الأحجار وذلك بسجودهم على أقراص خاصة، والحق أن السجود على جنس الأرض هو فعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كما وصف الصحابة الكرام.
وعند العامة من الشيعة أن أهل السنة يبغضون آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يُظهرون مناقبهم وأخلاقهم، وواقع الحال أن محبة آل البيت لا ينكرها مسلم، بدليل تسمية أبنائهم ـ تبركاً ـ بأسماء آل البيت، ويكاد لا يخلو بيت من اسم أحد أفراده باسم احد آل البيت؛ كعلي وفاطمة، والحسن والحسين ورقية وزينب، وما من قصيدة تمدح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلا ذكرت مناقب آل بيته الكرام.
إننا مطالبون بالتعارف والتعاون؛ لتحقيق المصالح المشتركة لشعوب الأمة الإسلامية، ونشر القيم النبيلة والأخلاق الفاضلة بين شعوب الأرض قاطبة.