ظاهرة التكفير الدلالات والمواقف
ظاهرة التكفير الدلالات والمواقف
أحمد نثاري*[1]
ملخّص
لم ينشغل العالم الإسلامي في السنوات الأخيرة بمثل ما انشغل بقضية «التكفير»،هذه الظاهرة كانت موجودة على مرّ العصور ووراءها الجهل والعقد النفسية، فقد اكتوى بها كبار العلماء والمصلحين في الماضي، وأدت أحيانًا إلى سفك دماء المسلمين، غير أنها اتسعت مع اتساع الجهل وعقد التخلّف بعد سقوط العالم الإسلامي بيد المستعمرين. مما حدا بالعلماء من السنة والشيعة أن يرفعوا أصواتهم بالتأكيد على براءة الإسلام من هذه الظاهرة وإدانة مرتكبيها، وبدراسة الأسباب والدوافع وراءها. وأهم من كل ذلك دخول أعداء الأمة من الصهاينة والدوائر السياسية الغربية لاستغلال هذه الظاهرة ودفعها نحو تحقيق مآربها في تحكيم السيطرة وفرض الهيمنة وإعادة ترتيب المنطقة بصورة تجعل دولة الصهاينة هي المتحكمة في مقدرات ما سموه بالشرق الأوسط الجديد.
التكفير ظاهرة قديمة جديدة، قديمة لأن العوامل الفكرية والنفسية التي تخلق هذه الظاهرة كانت موجودة على مرّ العصور وفي جميع الأديان والمذاهب السماوية منها والأرضية، مع فارق هو أن التكفير في الأديان السماوية ينسب إلى الخروج عن شريعة الله وفي الأرضية ينسب إلى الخروج عن الايديولوجيات الأرضية، وليست ظاهرة الاحتراب الدموي بين التيارات الماركسية عنّا ببعيدة. وهي جديدة اليوم لأنّ الأحداث التي تلت واقعة الحادي عشر من أيلول/(سبتمبر) اتجهت إلى العالم الإسلامي بالذات، فكان غزو أفغانستان والعراق وتبعات هذين الغزوين، وكانت أحداث سوريا ولبنان ومصر، وجميعها تدور بدرجة وأخرى في دائرة الأرهاب، وفي دائرة اتهام المسلمين بأنهم إرهابيون.
اتجهت موجة الإرهاب الجديدة إلى التغطية على الإرهابيين الحقيقيين وهم الصهاينة ومَنْ وراءهم من قوى الهيمنة العالمية والمحلية،واتجهت إلى الطعن في أقدس شعارات المسلمين، وهي الشهادتان، والجهاد، ودولة الإسلام، كما اتجهت إلى خلق جوّ متشنج من الإسلاموفوبيا في العالم، ثم استغلت قوى الهيمنة العالمية المعادية عادة للإسلام هذا الجو لتعبئة الرأي العام العالمي ضد الأمة الإسلامية، ولتقود هذه الجماعات المتطرفة نحو تحقيق أهدافها المبيتة في المنطقة، وعلى رأسها إضعاف جبهة المقاومة والصمود والتصدي في البلدان الإسلامية.
فما هي دلالات هذه الموجة وما الموقف منها.
لكي لا ننسى
تكفير المتطرفين مشهود على مر التاريخ الإسلامي ووراءه كما ذكرنا الجهل والأمراض النفسية .
نستعرض فيما يلي بعض هذه الصور المؤلمة لكي تكون عبرة للجيل الراهن : ([1])
1. محنة الطبري (224 ـ 310 هـ)
قبل أن نشير إلى محنة محمد بن جرير بن يزيد بن كثير الطبري، عن مكانته العلمية قال الخطيب البغدادي: «أحد أئمة العلماء، يحكم بقوله، ويرجع إلى رأيه لمعرفته وفضله، وكان قد جمع من العلوم ما لم يشاركه فيه أحدٌ من أهل عصره، وكان حافظًا لكتاب الله، عارفًا بالقراءات، بصيرًا بالمعاني، فقيهًا في أحكام القرآن، عالمًا بالسنن وطرقها، صحيحها وسقيمها، وناسخها ومنسوخها، عارفًا بأقوال الصحابة والتابعين... . عارفًا بأيام الناس وأخبارهم» .([2])
وقال الذهبي: «كان من أفراد الدهر علمًا، وذكاء، وكثرة تصانيف. قلّ أن ترى العيون مثله. ثم قال: جمع طرق حديث غدير خم في أربعة أجزاء، رأيت شطره، فبهرني سعة رواياته، وجزمت بوقوع ذلك. وأضاف: وكانت الحنابلة حزبَ أبي بكر بن أبي داود([3])، فكثروا وشغَّبوا على ابن جرير، وناله أذى، ولزم بيته، نعوذ بالله من الهوى».([4])
وكان ابن جرير قد دفن ليلًا بداره لأنّ العامّة ـ كما ذكر ابن مِسكويه ـ اجتمعت ومنعت من دفنه نهارًا، واتهموه بأمرين:
أ. ادّعوا عليه الرفض.
ب. ادّعوا عليه الإلحاد.
وكان علي بن عيسى([5]) يقول: «والله لو سُئل هؤلاء عن معنى الرفض والإلحاد ما عرفوه ولا فهموه».([6])
أمّا ابن الأثير فعلّل دفنه ليلًا بداره، بالقول: «إنّ بعض الحنابلة تعصّبوا عليه، ووقعوا فيه فتبعهم غيرهم، ولذلك سبب، وهو أنّ الطبري جمع كتابًا ذكر فيه اختلاف الفقهاء، لم يصنّف مثله ولم يذكر فيه أحمد بن حنبل، فقيل له في ذلك، فقال:لم يكن فقيهًا، وإنّما كان محدّثًا، فاشتدّ ذلك على الحنابلة، وكانوا لا يُحصون كثرة ببغداد، فشغبوا عليه وقالوا ما قالوا».
2. هدم جامع (براثا)
قال أبو صالح بن أحمد بن عيسى السليلي في كتابه الفتن بعد أن ذكر فضل جامع براثا الذي يؤمّه الشيعة ببغداد: «فرأيت مسجد براثا وقد هدمه الحنبليون وحفروا قبورًا فيه، وأخذوا أقوامًا قد حُفر لهم قبور فغلبوا أهل الميت ودفنوهم فيه، إرادةَ تعطيل المسجد وتصييره مقبرة، وكان فيه نخل فقُطع، وأُحرق جذوعه وسقوفه، وذلك في سنة اثنتي عشرة وثلاثمائة» .([7])
3. التطرّف في تفسير النصوص
ذكر ابن الأثير في حوادث سنة (323 هـ )، فتنة المتطرّفين (من الحنابلة) في بغداد وأنّهم يأخذون الرجال إذا مشوا مع النساء والصبيان ويحملونهم إلى صاحب الشرطة ويشهدون عليهم بالفاحشة، فأرهجوا بغداد.
إلى أن قال: «وزاد شرّهم وفتنتهم، واستظهروا بالعميان وكانوا إذا مرّ بهم شافعي المذهب أغروا به العميان، فيضربونه بعصيهم حتّى يكاد يموت، فخرج توقيع الراضي العبّاسي بما يُقرأ على الحنابلة ينكر عليهم فعلهم، ويوبّخهم باعتقاد التشبيه وغيره، فمنه: تارة أنّكم تزعمون أنّ صورة وجوهكم القبيحة السمجة على مثال ربّ العالمين، وهيئتكم الرذلة على هيئته، وتذكرون الكفّ والأصابع والرجلين والنعلين المذهَّبين، والشعر القطط، والصعود إلى السماء، والنزول إلى الدنيا، تبارك الله عمّا يقول الظالمون والجاحدون علوًّا كبيرًا، ثم طعنكم على خيار الأئمة، ونسبتكم شيعة آل محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم)إلى الكفر والضلال، ثم استدعاؤكم المسلمين إلى الدين بالبدع الظاهرة والمذاهب الفاجرة التي لا يشهد بها القرآن، وإنكاركم زيارة قبور الأئمة، وتشنيعكم على زوّارها بالابتداع، وأنتم مع ذلك تجتمعون على زيارة قبر رجل من العوام ليس بذي شرف، ولا نسب، ولا سبب برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وتأمرون بزيارته، وتدّعون له معجزات الأنبياء، وكرامات الأولياء، فلعن الله شيطانًا زيّن لكم هذه المنكرات، وما أغواه».([8])
4. فتنة الجهر بالبسملة
يقول ابن الأثير: ([9]) «في هذه السنة (يعني 447 هـ) صارت مسألة الجهر بالبسملة والمخافتة بها سببًا للفتنة بين فقهاء الشافعية والحنابلة، فالطائفة الثانية أنكروا الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم، ومنعوا من الترجيع في الأذان، والقنوت في الفجر، وأتى الحنابلة إلى مسجد بباب الشعير فنهوا إمامه عن الجهر بالبسملة، فأخرج مصحفًا وقال: أزيلوها من المصحف حتّى لا أتلوها».
5. إحراق مسجد الشوافع
لم يكن اختلاف الحنابلة مع الشافعية ــ حسب زعمهم ــ إلاّ في الفروع، لأنّ أئمتهم كانوا مختلفين فيها، لا في الأُصول التي يناط بها الإيمان، ومع ذلك نرى أنّ الحنابلة ربّما يحرقون مسجد الشوافع تعصُّبًا.
وإلى هذا أشار ابن جنيد حيث قال: وقد بنى وزير خوارزم شاه للشافعية بمرو جامعًا مشرفًا على جامع الحنفية، فتعصّب شيخ الإسلام (بمرو) وهو مقدّم الحنابلة بها، وجمع الأوباش، فأحرقه. فأنفذ خوارزم شاه فأحضر شيخ الإسلام وجماعة ممّن سعى في ذلك، فأغرمهم مالًا كثيرًا».([10])
6 . قتل الأشاعرة في المدرسة النظامية
كان أبو نصر بن أبي القاسم القشيري إمامًا على مذهب الأشعري، فلمّا ورد بغداد حاجًّا جلس في المدرسة النظامية يعظ الناس... وجرى له مع الحنابلة فتن، لأنّه تكلّم على مذهب الأشعري ونصرَه، وكثر أتباعه والمتعصّبون له، وقصد خصومه من الحنابلة ومن تبعهم سوق المدرسة النظامية وقتلوا جماعة، وكان من المتعصّبين للقشيري الشيخ أبو إسحاق، وشيخ الشيوخ وغيرهما من الأعيان، وجرت بين الطائفتين أُمور عظيمة».([11])
هذا شيء قليل من أعمال المتطرّفين عبر قرون، وتحاملهم على رجال العلم والإصلاح من دون دليل وبرهان.
مسألة التكفير في المأثور
إدانة تكفير أهل القبلة على لسان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم):
1. روى البخاري عن أُسامة بن زيد قال: «بعثنا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)إلى الحُرَقة ]من جُهَينة [فصبَّحْنا القوم فهزمناهم، ولحقت أنا ورجل من الأنصار رجلًا منهم، فلمّا غشيناه قال: لا إله إلاَّ الله، فكفّ الأنصاري، فطعنته برُمحي حتّى قتلته، فلمّا قدمنا بلغَ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)فقال: «يا أُسامة أقتلته بعد ما قال لا إله إلاّ الله؟» قلت: كان متعِّوذًا، فمازال يكرّرها حتّى تمنيّت أنّي لم أكن أسلمت قبل ذلك اليوم».([12])
2. روى أبو يعلى الموصلي وغيره عن أبي سعيد الخدري، قال: بعث عليٌّ إلى رسول الله من اليمن بذَهَبة في أدَم مقروظ([13])لم تحصَّل([14])، فقسمها بين أربعة نفر: زيد الخيل، والأقرع بن حابس، وعُيَينة بن حِصْن، وعلقمة بن عُلاثة، فقال ناس من المهاجرين والأنصار: نحن كنا أحقّ بهذا، فبلغه ذلك فشقّ عليه... إلى أن قال فقام إليه ]آخر[ فقال: يا رسول الله اتّق الله... فقام خالد... فقال: يا رسول الله ألا أضرب عنقه؟ فقال: لا، إنّه لعلّه يصلّي. قال: إنّه إنْ يصلّي يقول بلسانه ما ليس في قلبه. قال : «إنّي لم أومر أن أشقَّ([15])عن قلوب الناس، ولا أشقّ بطونهم».([16])
3. أخرج أبو داود عن ابن عمر قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم):«أيّما رجل مسلم أكفر رجلًا مسلمًا، فإن كان كافرًا وإلاّ كان هو الكافر»([17]).
4. أخرج مسلم عن ابن عمر أنّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)قال: «إذا كفّر الرجل أخاه فقد باء بها أحدهما»([18]).
5. أخرج الترمذي في سننه عن ثابت بن الضحاك، عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)قال:«ليس على العبد نذر فيما لا يملك، ولاعن المؤمن كقاتله، ومَن قذف مؤمنًا بكفر فهو كقاتله...»([19]).
تكفير أهل القبلة في رأي علماء المسلمين
1. كلمة الشيخ الجليل الأقدم الفضل بن شاذان الأزدي:([20])
«ولو جعلتم للذين تسمّونهم الرافضة ما في الأرض من ذهب أو فضة على أن يستحلّوا قتل رجل مسلم، أو أخذ ماله، ما استحلّوا ذلك إلاّ مع إمام مثل عليّ صلوات الله عليه في علمه بما يأتي وما يذر، وهو المهدي الذي تروون أنّه يعدل بين الناس».([21])
2. كلمة الإمام الأشعري:
قال أحمد بن زاهر السرخسي الأشعري:«لمّا حضرت الوفاة لأبي الحسن الأشعري في داري ببغداد أمر بجمع أصحابه ثم قال: اشهدوا عليَّ أنّني لا أُكفّر أحدًا من أهل القبلة بذنب لأنّي رأيتهم كلّهم يشيرون إلى معبود واحد والإسلام يشملهم ويعمّهم».([22])
3. كلمة ابن حزم
قال ابن حزم الظاهري: «وذهبت طائفة إلى أنّه لا يكفَّر ولا يفسَّق مسلم بقول قاله في اعتقاد أو فتيا، وإنّ كلّ مَن اجتهد في شيء من ذلك فدان بما رأى أنّه الحقّ فإنّه مأجور على كلّ حال، إن أصاب الحق فأجران، وإن أخطأ فأجر واحد. وهذا قول ابن أبي ليلى، وأبي حنيفة، والشافعي، وسفيان الثوري، وداود، وعلي (عليه السلام)، وهو قول كلّ مَن عرفنا له قولًا في هذه المسألة من الصحابة، ما نعلم منهم في ذلك خلافًا أصلًا».([23])
4. كلمة القاضي الإيجي
«قال جمهور المتكلّمين والفقهاء على أنّه لا يكفَّر أحد من أهل القبلة. واستدلّ على مختاره بقوله: إنّ المسائل التي اختلف فيها أهل القبلة من كون الله تعالى عالمًا بعلم أو موجدًا لفعل العبد أو غير متحيّز ولا في جهة ونحوها لم يبحث النبي عن اعتقاد من حكم بإسلامه فيها ولا الصحابة ولا التابعون، فعلم أنّ الخطأ فيها ليس قادحًا في حقيقة الإسلام». ([24])
5. كلمة تقي الدين السبكي
قال شيخ الإسلام تقي الدين السبكي: «إنّ الإقدام على تكفير المؤمنين عسر جدًّا، وكلّ مَن في قلبه إيمان، يستعظم القول بتكفير أهل الأهواء والبدع مع قولهم لا إله إلاّ الله، محمد رسول الله، فإنّ التكفير أمر هائل عظيم الخطر».([25])
6. كلمة التفتازاني
قال: «إنّ مخالف الحقّ من أهل القبلة ليس بكافر ما لم يخالف ما هو من ضروريات الدين كحدوث العالم وحشر الأجساد، واستدلّ بقوله: إنّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)ومن بعده لم يكونوا يفتشون عن العقائد وينبهون على ما هو الحق»... وغيرهم كثير([26]).
التكفير على لسان المعاصرين
جلّ العلماء المعاصرين على اختلاف مذاهبهم أدانوا المكفّرين الذين يستحلون الدماء بأدلة واهية تدلّ على جهلهم وأمراضهم النفسية، نقف عند بيان «هيئة كبار العلماء» في السعودية، وبيان «المؤتمر الإسلامي الدولي بعمان»، وبيان المؤتمر العالمي حول التيارات المتطرفة والتكفيرية في آراء علماء الإسلام» بمدينة قم.
1-بيان هيئة كبار العلماء بالسعودية
«الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه، أمّا بعد:
فقد درس مجلس هيئة كبار العلماء في دورته التاسعة والأربعين المنعقدة بالطائف ما يجري في كثيرٍ من البلاد الإسلاميّة وغيرها من التكفير والتفجير وما ينشأ عنه من سفك الدماء وتخريب المنشآت، ونظرًا إلى خطورة هذا الأمر، وما يترتّب عليه من إزهاق أرواح بريئة، وإتلاف أموال معصومة، وإخافة للناس وزعزعة لأمنهم واستقرارهم، فقد رأى المجلس إصدار بيانٍ يوضّح فيه حكم ذلك نصحًا لله ولعباده، وإبراءًا للذمّة، وإزالةً للّبس في المفاهيم لدى من اشتبه عليه الأمر في ذلك، فنقول ـ وبالله التوفيق ـ:
أوّلًا: التكفير حكم شرعيّ مردّه إلى الله ورسوله، فكما أنّ التحليل والتحريم والإيجاب إلى الله ورسوله، فكذلك التكفير، وليس كلّ ما وُصف بالكفر من قولٍ أو فعلٍ يكون كفرًا أكبر مخرجًا عن الملّة، ولمّا كان مردّ حكم التكفير إلى الله ورسوله، لم يجز أن نكفّر إلّا من دلّ الكتاب والسنّة على كفره دلالةً واضحة، فلا يكفي في ذلك مجرّد الشبهة والظنّ؛ لما يترتّب على ذلك من الأحكام الخطيرة، وإذا كانت الحدود تُدرأ بالشبهات مع أنّ ما يترتّب عليها أقلّ ممّا يترتّب على التكفير، فالتكفير أَولى أن يُدرأ بالشبهات، لذلك حذّر النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم من الحكم بالتكفير على شخصٍ ليس بكافرٍ، فقال: «أيّما امرئٍ قال لأخيه: يا كافر، فقد باء بها أحدهما، إن كان كما قال، وإلّا رجعت عليه».
وقد يرد في الكتاب والسنّة ما يُفهم منه أنّ هذا القول أو العمل أو الاعتقاد كفر، ولا يكفر من اتّصف به؛ لوجود مانعٍ يمنع من كفره، وهذا الحكم كغيره من الأحكام التي لا تتمّ إلّا بوجود أسبابها وشروطها وانتفاء موانعها...
التسرّع في التكفير يترتّب عليه أمور خطيرة، من استحلال الدم والمال، ومنع التوارث، وفسخ النكاح، وغيرها ممّا يترتّب على الردّة، فكيف يسوغ للمؤمن أن يقدم عليه لأدنى شبهة؟!..
وجملة القول: إنّ التسرع في التكفير له خطره العظيم؛ لقول الله عزّ وجلّ: >قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِالله مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ< (الأعراف 33).
ثانيًا: ما نجم عن هذا الاعتقاد الخاطىء، من استباحة الدماء وانتهاك الأعراض، وسلب الأموال الخاصّة والعامّة، وتفجير المساكن والمركبات، وتخريب المنشآت، فهذه الأعمال وأمثالها محرّمة شرعًا بإجماع المسلمين؛ لما في ذلك من هتكٍ لحرمة الأنفس المعصومة، وهتكٍ لحرمة الأموال، وهتكٍ لحرمات الأمن والاستقرار، وحياة الناس الآمنين المطمئنّين في مساكنهم ومعايشهم، وغدوّهم ورواحهم، وهتكٍ للمصالح العامّة التي لا غنى للناس في حياتهم عنها.
وقد حفظ الإسلام للمسلمين أموالهم وأعراضهم وأبدانهم، وحرّم انتهاكها، وشدّد في ذلك، وكان من آخر ما بلّغ به النبيّ ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ أمّته، فقال في خطبة حجّة الوداع: «إنّ دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا» . ثمّ قال ــ صلّى الله عليه وسلّم ــ : «ألا هل بلّغت؟ اللّهمّ فاشهد». متّفق عليه . وقال ــ صلّى الله عليه وسلّم ــ : «كلّ المسلم على المسلم حرام، دمه وماله وعرضه». وقال عليه الصلاة والسلام: «اتّقوا الظلم؛ فإنّ الظلم ظلمات يوم القيامة».
وقد توعّد الله سبحانه من قتل نفسًا معصومةً بأشدّ الوعيد، فقال سبحانه في حقّ المؤمن: > وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا< (النساء: 93). وقال سبحانه في حقّ الكافر الذي له ذمّة في حكم قتل الخطأ > وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةً< (النساء: 92). فإذا كان الكافر الذي له أمان إذا قتل خطأ فيه الدية والكفّارة، فكيف إذا قتل عمدًا ؟! فإنّ الجريمة تكون أعظم، والإثم يكون أكبر. وقد صحّ عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنّه قال: «من قتل معاهدًا لم يرح رائحة الجنة».
ثالثًا: إنّ المجلس إذ يبيّن حكم تكفير الناس بغير برهان من كتاب الله وسنّة رسوله صلّى الله عليه وسلّم، وخطورة إطلاق ذلك؛ لما يترتّب عليه من شرور وآثام، فإنّه يعلن للعالم أنّ الإسلام بريء من هذا المعتقد الخاطىء، وأنّ ما يجري في بعض البلدان من سفكٍ للدماء البريئة، وتفجيرٍ للمساكن والمركبات والمرافق العامّة والخاصّة، وتخريبٍ للمنشآت، هو عمل إجراميّ، والإسلام بريء منه، وهكذا كلّ مسلم يؤمن بالله واليوم الآخر بريء منه، وإنّما هو تصرّف من صاحب فكرٍ منحرف، وعقيدةٍ ضالّة، فهو يحمل إثمه وجرمه، فلا يحتسب عمله على الإسلام، ولا على المسلمين المهتدين بهدي الإسلام، المعتصمين بالكتاب والسنّة، المستمسكين بحبل الله المتين، وإنّما هو محض إفساد وإجرام تأباه الشريعة والفطرة، ولهذا جاءت نصوص الشريعة قاطعة بتحريمه، محذّرةً من مصاحبة أهله.
قال الله تعالى: >وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ، وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ، وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ<. (البقرة: 204 ـ 206)
والواجب على جميع المسلمين في كلّ مكانٍ التواصي بالحقّ، والتناصح، والتعاون على البرّ والتقوى، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالحكمة والموعظة الحسنة، والجدال بالتي هي أحسن، كما قال الله سبحانه وتعالى: > وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ< (المائدة: 2). وقال سبحانه: >وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ< (التوبة: 71)، وقالعزّ وجلّ: > وَالْعَصْرِ، إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ، إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ< (سورة العصر). وقال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «الدين النصيحة». قيل: لمن يا رسول الله؟ قال: «لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمّة المسلمين وعامّتهم»، وقال عليه الصلاة والسلام: «مثل المؤمنين في توادّهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمّى»، والآيات والأحاديث في هذا المعنى كثيرة .
ونسأل الله سبحانه بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يكفّ البأس عن جميع المسلمين، وأن يوفّق جميع ولاة أمور المسلمين إلى ما فيه صلاح العباد والبلاد وقمع الفساد والمفسدين، وأن ينصر بهم دينه، ويعلي بهم كلمته، وأن يُصلح أحوال المسلمين جميعًا في كلّ مكان، وأن ينصر بهم الحقّ، إنّه وليّ ذلك والقادر عليه، وصلّى الله وسلّم على نبيّنا محمّدٍ وآله وصحبه» .
2- بيان المؤتمر الاسلامي الدولي في عمان فتوى العلماء حول رفض التكفير
بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وسلّم
)يا أيها الناس اتقوا ربّكم الذي خلقكم من نفس واحدة( (النساء/1).
بيان صادر عن المؤتمر الإسلامي الدولي الذي عقد في عمان، عاصمة المملكة الأردنية الهاشمية، تحت عنوان (حقيقة الإسلام ودوره في المجتمع المعاصر)، في المدة 27-29 جمادى الأولى 1426هـ / 4-6 تموز (يوليو) 2005م.
وفقًا لما جاء في فتوى فضيلة الإمام الأكبر شيخ الأزهر المكرّم، وفتوى سماحة آية الله العظمى السيد علي السيستاني الأكرم، وفتوى فضيلة مفتي الديار المصرية الأكرم، وفتاوى المراجع الشيعية الأكرمين (الجعفرية والزيدية)، وفتوى فضيلة المفتي العام لسلطنة عمان الأكرم، وفتوى مجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الاسلامي وفتوى المجلس الأعلى للشؤون الدينية التركية، وفتوى فضيلة مفتي المملكة الأردنية الهاشمية ولجنة الإفتاء الأكرمين فيها.....
1ـ إنّ كل من يتّبع أحد المذاهب الأربعة من أهل السنة والجماعة (الحنفي، والمالكي، والشافعي، والحنبلي) والمذهب الجعفري، والمذهب الزيدي، والمذهب الإباضي، والمذهب الظاهري، فهو مسلم، ولا يجوز تكفيره، ويحرم دمه وعرضه وماله. وأيضًا، ووفقًا لما جاء في فتوى فضيلة شيخ الأزهر، لا يجوز تكفير أصحاب العقيدة الأشعرية، ومن يمارس التصوّف الحقيقي: وكذلك لا يجوز تكفير أصحاب الفكر السلفي الصحيح.
كما لا يجوز تكفير أي فئة أخرى من المسلمين تؤمن بالله سبحانه وتعالى وبرسوله (ص) وأركان الإيمان، وتحترم أركان الإسلام، ولا تنكر معلومًا من الدين بالضرورة.
2- إن مايجمع بين المذاهب أكثر بكثير مما بينها من الاختلاف. فأصحاب المذاهب الثمانية متفقون على المبادئ الأساسية للإسلام. فكلّهم يؤمنون بالله سبحانه وتعالى، واحدًا أحدًا، وبأن القرآن الكريم كلام الله المنزَّل، وسيدنا محمد عليه الصلاة والسلام نبيًا ورسولًا للبشرية كافة. وكلهم متفقون على أركان الإسلام الخمسة: الشهادتين، والصلاة، والزكاة، وصوم رمضان، وحجّ البيت، وعلى أركان الإيمان: الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وبالقدر خيره وشرّه. واختلاف العلماء من أتباع المذاهب هو اختلاف في الفروع وليس في الأصول، وهو رحمة . وقديمًا قيل: إنّ اختلاف العلماء في الرأي أمر جيد.
3- إنّ الاعتراف بالمذاهب في الإسلام يعني الالتزام بمنهجية معينة في الفتاوى: فلا يجوز لأحد أن يتصدّى للإفتاء دون مؤهّلات شخصية معينة يحددها كل مذهب، ولا يجوز الإفتاء دون التقيد بمنجهية المذاهب، ولا يجوز لأحد أن يدّعي الاجتهاد ويستحدث مذهبًا جديدًا أو يقدّم فتاوى مرفوضة تخرج المسلمين عن قواعد الشريعة وثوابتها وما استقر من مذاهبها.
4- إنّ لبّ موضوع رسالة عمان التي صدرت في ليلة القدر المباركة من عام 1425 للهجرة وقرئت في مسجد الهاشميين، هو الالتزام بالمذاهب وبمنهجيتها؛ فالاعتراف بالمذاهب والتأكيد على الحوار والالتقاء بينها هو الذي يضمن الاعتدل والوسطية، والتسامح والرحمة، ومحاورة الآخرين.
5- إننا ندعو إلى نبذ الخلاف بين المسلمين وإلى توحيد كلمتهم، ومواقفهم، وإلى التأكيد على احترام بعضهم لبعض، وإلى تعزيز التضامن بين شعوبهم ودولهم، وإلى تقوية روابط الأخوّة التي تجمعهم على التحاب في الله، وألا يتركوا مجالًا للفتنة والتدخل بينهم. فالله سبحانه يقول:
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ((الحجرات/10).
وهناك ملحق للبيان الختامي للمؤتمر، يتضمن التوصيتين الهامتين التاليتين:
ـ يؤكد المشاركون في المؤتمر الإسلامي الدولي، وهم يجتمعون في عمّان عاصمة المملكة الأردنية الهاشمية، على مقربة من المسجد الاقصى المبارك والأراضي الفلسطينية المحتلة، على ضرورة بذل كل الجهود لحماية المسجد الأقصى، أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين، في وجه ما يتعرض له من أخطار واعتداءات، وذلك بإنهاء الاحتلال وتحرير المقدسات.
ـ كما يؤكد المشاركون على ضرورة تعميق معاني الحرية واحترام الرأي والرأي الآخر في رحاب عالمنا الإسلامي.
والحمد لله وحده.
3-البيان الختامي للمؤتمر العالمي حول «التيارات المتطرفة والتكفيرية في آراء علماء الإسلام»
بسم الله الرحمن الرحیم
> يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ<.
الحمد الله رب العالمین وصلی الله علی سیدنا محمد وآله الطیبین وصحبه المنتجبین ومن تبعهم بإحسان إلی یوم الدین
علی ضوء الظروف العالمیة الراهنة، وفی الوقت الذي یجب علی الأمة الإسلامیة أن تجد مکانتها اللائقة في الساحة الدولیة، نری أن العالم الإسلامي یمر بمرحلة هي من أکثر مراحلها مرارة وصعوبة .
إن ما تقوم به التیارات المتطرفة والتکفیریة، یؤدي إلی تشویه وجه الإسلام العزیز وبث الفرقة بین المسلمین وصرف الأنظار عن القضایا الرئیسیة للعالم الإسلامي، کما أنه یعزز جبهة الأعداء ویتسبب في استمرار الهیمنة الأجنبیة علی الدول الإسلامیة ونهب ثراواتها. إن هذه التیارات تبیح دماء المسلمین وأموالهم وأعراضهم، وتضحي بهم ــ بکل عنف وقسوة - فی سبیل أفکارها المنحرفة وأعمالها الإجرامیة .
في مثل هذه الظروف، وانطلاقًا من الإیمان بشمولیة دیننا الإسلامي بصفته رسالة کونیة خالدة وصانعة للحضارات، فإن الواجب الرسالي لکبار علماء الدین یتطلب منهم أن یعکفوا علی کشف حقیقة هذه التیارات وبیان انحرافاتها، وتعریف العالم بالمعارف والتعالیم الإسلامیة الأصیلة، لیؤدوا الدور اللائق بهم إزاء هذه البدع وتداعیاتها الضارة، وذلك عملا بقول النبي الأکرم (صلی الله علیه وآله وسلم) : اذا ظهرت البدع فعلى العالم ان یظهر علمه وإذا کتم فعلیه لعنة الله .
بناء علی ما تقدم، ولغرض کشف حقیقة التیارات المتطرفة والتکفیریة وإدانتها، انعقد المؤتمر العالمي حول «التیارات المتطرفة والتکفیریة في آراء علماء الإسلام» في مدینة قم خلال یومي 29 شهر محرم الحرام والأول من شهر صفر لعام 1٤3٦ هـ ق ( الموافق 23 ــ 2٤ نوفمبر 201٤ م) وذلك بناء علی دعوة من عَلَمینِ من المرجعیات الدینیة المرموقة في الحوزة العلمیة بمدینة قم، وبمشارکة مئات العلماء والمفکرین من أکثر من 80 دولة، وقد تم إعلان ما توصلت إلیه مداولات المؤتمر والقرارات الصادرة عنه کما یلي:
1- إن الإسلام دین الرحمة والأخوة والدعوة إلی البر والإحسان وإن النبي الأکرم (صلی الله علیه وآله وسلم) قد أکد بأن الهدف من بعثته هو إتمام مکارم الأخلاق، کما أن القرآن الکریم قد بیّن لنا أن سرّ انتشار الإسلام وانجذاب الناس إلی النبي الأکرم یتمثل فی رأفته ورحمته (صلی الله علیه وآله وسلم ) : > فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ<.
علی هذا الاساس یجب علی جمیع المسلمین سیما العلماء والمثقفین منهم أن یحذوا حذو النبي الأکرم (صلی الله علیه وآله وسلم) وأئمة أهل البیت علیهم السلام وقادة وعلماء المذاهب، في التعامل المتسم بالسلم والمودة، لیس مع أتباع دینهم فحسب وإنما مع أتباع سائر الدیانات أیضًا، وأن یقفوا بوجه أي عمل یؤدي إلی تقدیم صورة عنیفة عن الدین الحنیف.
2- لقد قرر الدین الإسلامي الحنیف المبادئ الثلاثة المتمثلة في الحکمة والموعظة الحسنة والجدال بالأحسن لمواجهة الأفکار المعارضة، کما ورد في قوله تعالی : > ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ<. لذلك فإن أي إساءة إلی مقدسات ورموز سائر المذاهب الإسلامیة أو الدیانات الأخری بعیدة کل بعد عن الآداب والتعالیم الإسلامیة ویتعین علی المسلمین أن یتجنبوا ذلك وأن یعاملوا أتباع سائر الدیانات بالتسامح والحوار ما لم یقوموا بمحاربة الإسلام والمسلمین : > قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا< .
3- حسب التعالیم الإسلامیة الباعثة علی الحیاة، کل من ینطق بشهادتین فإنه یعتبر داخلا فی الإسلام فیحرم دمه وماله وعرضه وکرامته وأنه لایجوز اعتبار أحد خارجًا عن الإسلام طالما یُظهر إسلامه کما جاء فی القران الکریم : > وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِنًا<.
4- بما أن مصطلح الکفر في نظام التفکیر الإسلامي یطلق علی حالة إنکار أحد مبادئ الإیمان بالله والرسول والآخرة، أو إنکار إجمالي لکل ما أنزل الله تعالی ؛ فإن بعض الأفکار المنحرفة التي تقوم بتکفیر سائر المسلمین تحت ذرائع واهیة وبسبب بعض القناعات أو الطقوس الدینیة المقبولة لدی أغلبیة علماء الإسلام، هي أفکار مدانة ومرفوضة. ولما کانت هذه الأفکار المنحرفة تمهّد الأرضیة لشق عصا المسلمین ونفوذ الأعداء أو ــ لاقدرالله ــ فرض إرادة الأعداء علی المجتمعات الإسلامیة، فلابد من تعریة هذه الأفکار ومواجهتها باعتبارها أفکارًا مناقضة للإسلام . وعلی العلماء والمرجعیات الدینیة بوجه خاص أن یتخذوا خطوة کبیرة في سبیل مکافحة التکفیر من خلال قیامهم بإصدار فتاوی حاسمة.
5- إن رواج ظاهرة التکفیر في المجتمع یشکل فتنة طالما أثارت استیاء قاطبة المسلمین وانزعاجهم. لذلك یتعین علی المسلمین أن یشحذوا الهمم لمعارضة تکفیر أهل القبلة وإخماد نار الفتنة الجدیدة وذلك اهتداء بقول النبی الأکرم ( صلی الله علیه وآله وسلم) :«یمرقون من الدین کما یمرق السهم من الرمیة» واحتذاء بالسنة المتبعة لدی المسلمین في مقارعة الأفکار التکفیریة منذ عهد الخوارج في القرن الإسلامي الأول إلی عودة هذه الأفکار في القرن الثاني عشر وانتهاء بالعصر الحاضر الذي صرنا نشهد ارتکاب الجرائم الواسعة النطاق من قبل الزمر التکفیریة في العالم الإسلامي، وذلك بغیة ألاتقضي آثارها الهدامة علی مقدسات ومصالح العالم الإسلامي.
6- نظرًا لحرمة دماء أهل القبلة وأموالهم وأعراضهم وکرامتهم، فإنه یُعتبر المساس بها أو القیام بقتل المسلمین من الذنوب التي لاتغتفر والتي تستوجب الغضب الإلهي واللعن والعذاب:> وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا<. لذلك فإن اتخاذ أي خطوة عملیة مبنیة علی أساس الأفکار التکفیریة ــ بما في ذلك العملیات الانتحاریة، والتفجیرات والاغتیالات وأعمال القتل والذبح وأي إیذاء لأهل القبلة وإباحة أموالهم وأعراضهم وإلحاق الخسائر المالیة بهم أو تدمیر وهدم الأماکن والآثار الإسلامیة ــ کل ذلك حرام شرعًا، کما أن عرض صور هذه الأعمال الإجرامیة تسيء إلی الدین الحنیف وتقدم وجهًا غیر حقیقي متسم بالعنف عن الإسلام مما یُعدّ بدوره حرامًا مضاعفًا . لذلك فإن الواجب یملي علی جمیع المسلمین أن یقفوا بوجه هذه الظاهرة المشؤومة وذلك عبر القیام بالتوعیة لتجفیف جذور التکفیر الفکریة ــ والتي قد امتدت مع الأسف إلی الکتب التعلیمیة في مدارس بعض الدول ــ وکذلك الوقف الفوري لأنواع الدعم المالي والعسکري والسیاسی التي تقدم للجماعات المتطرفة، وبوجه خاص وقف عملیة إرسال المرتزقة للقتال ضد شعوب المنطقة، والعمل علی تعزیز العلاقات والحوار والتعاون بین الدول الإسلامية بالإضافة إلی رصد مستمر لما تواجهه أمتنا الأسلامیة من تطورات ومکامن ضعف وقوة وتهدیدات وتحدیات وفرص.
7- إننا إذ ندین جرائم الجماعات التکفیریة في دول المنطقة، خاصة في العراق وسوریا، ونعرب عن قلقنا من احتمال اتساع نطاقها في حال عدم مواجهتها مما یؤدي إلی نسیان الدفاع عن أولی القبلتین وأرض فلسطین المغتصبة ؛ ندعم انتفاضة الشعب الفلسطیني العادلة من أجل إنقاذ القدس العزیز من براثن الکیان الصهیوني الغاصب مما یشکل مصداقًا بارزًا للدفاع المشروع ویعد من الواجبات الشرعیة لإنهاء احتلال جزء من دار الإسلام، معتبرین أن القیام بالمساندة والمؤازرة لتحریر کل الأراضي الفلسطینیة فریضة دینیة لکل أبناء الأمة الإسلامیة.
8- بما أن الجهل بالتعالیم الإسلامیة وعدم معرفتها بشکل صحیح ــ بجانب مؤامرة الأعداء الهادفة إلی بث الفرقة بین المسلمین وتکفیر بعضهم البعض - یعتبر من العوامل التي تدفع بعض الأشخاص إلی الأفکار المنحرفة والجماعات التکفیریة، فإن رسالة علماء الدین تتطلب منهم أن یجندوا کل طاقاتهم لتوعیة الشباب المسلمین المنخدعین وأن ینبهوا عموم المسلمین إلی خطر التیارات التکفیریة والمتطرفة ویجفف جذورها الفکریة بمدد البرهان والمنطق .
9- بما أن أعداء الإسلام یستخدمون أجهزتهم الاستخباراتیة من أجل استغلال التیارات المتطرفة والتکفیریة بصفتها أداة مؤاتیة لوضع وتنفیذ مشاریع التخویف من الإسلام والحیلولة دون انتشار الإسلام في العالم، فإن العلماء المشارکین في هذا المؤتمر إذ یؤکدون علی ضرورة التحلي بالوعي واتخاذ جانب الیقظة تجاه أحابیل الاستکبار العالمي، یعلنون بصراحة بأن التیارات التکفیریة والمتطرفة لا تمت بصلة بالدین الإسلامي الباعث علی الحیاة. لذا یجب العمل علی تعزیز قدرات الشباب المسلمین الغیاری وتقویة الروح الثوریة المناهضة للکفر والاستعمار لدیهم، والحیلولة دون انحرافهم نحو قتال الأشقاء ومعاداة المسلمین، وذلك من أجل سد الطریق أمام تحقق أهداف الأعداء في الدول الإسلامیة .
10- إذ نؤکد مجددًا أن الوحدة الإسلامیة هي رمز نجاح الأمة فی تحقیق الأهداف الإسلامیة وإعادة بناء الحضارة الإسلامیة الجدیدة ونشر ثقافة الإسلام الحیویة في العالم، نعلن أن علی کل المسلمین أن یتصدوا لمؤامرات أعداء الإسلام في إیجاد الفرقة وبث العداوة بین المسلمین، وألا یسمحوا للأعداء في تطبیق عملیة تشویه حقیقة الإسلام وتقدیم صورة عنیفة لاإنسانیة لهذا الدین المبین والتعتیم علی صفاته الرحمانیة وصولًا لأهدافهم المقیتة معتمدین بذلك علی التیارات المتطرفة والتکفیریة.
11- نظرًا لضرورة التعریف بالمبادئ والتعالیم الإسلامیة والابتعاد عن الترویج للخلافات بین المذاهب ــ والتي ینبغي أن تطرح في إطار النقاشات العلمیة بین المختصین في العلوم الإسلامیة ــ ونظرًا لضرورة توظیف جمیع الآلیات لتوعیة المجتمعات الإسلامیة، نوصي جمیع أصحاب القلم والإعلامیین، والقنوات الإذاعیة والتلفزیونیة، والإعلام المقروء والناشطین في الفضاء الافتراضي أن یتصدوا لکل حالات سوء الاستخدام للعناوین المذهبیة المختلفة والإساءة للآخر، وأن یقاطعوا ویفضحوا کل مبادرة تتعارض مع الوحدة والتقریب، وأن یهتموا بالدفاع عن مقدسات الأمة الإسلامیة ومصالحها في مواجهة أعداء الإسلام اللدودین وعلی رأسهم أمریکا والکیان الصهیوني.
12- نظرًا لدور علماء العالم الإسلامي في إرشاد المجتمعات الإسلامیة، وضرورة البحث عن الحلول الکفیلة والشرعیة للخروج من أزمة المشاکل الراهنة یقترح تأسیس المجمع العالمي لعلماء الإسلام للتوصل إلی أفکار مشترکة وإزالة حالة سوء التفاهم والابتعاد عن إثارة القضایا الخلافیة، وصولًا إلی تعزیز التقارب بین علماء الإسلام والتمهید لمواجهة التحدیات التي تعترض طریق الأمة الإسلامیة وعالم البشریة.
إن تأسیس الأمانة الدائمة للتصدي للتیارات المتطرفة والتکفیریة، وتشکیل وإیفاد مجموعات النوایا الحسنة والوساطة بین الأطراف المتنازعة في العالم الإسلامي بإشراف المجمع العالمي لعلماء الإسلام یعدّان من الضرورات التي ینبغي القیام بها.
وختامًا یتقدم المشارکون في المؤتمر بأسمی آیات التقدیر للدعم المستمر للجمهوریة الإسلامیة الإیرانیة قیادة وحکومة وشعبًا لمسیرة الوحدة الإسلامیة والتقریب بین المذاهب. کما ویثمنون مبادرة مراجع الدین الکبار في تحریم التکفیر وکل إساءة لمقدسات المسلمین.
و یخصون بالذکر سماحة آیة الله العظمی الشیخ ناصر مکارم الشیرازي رئیس المؤتمر وسماحة آیة الله العظمی الشیخ جعفر سبحاني الأمین العلمي له وسائر العلماء الکبار الآخرین الذین ساهموا في معالجة قضایا العالم الإسلامي، ویأملون أن تکون هذه السنّة الحسنة لمراجع الدین وقادة العالم الإسلامي، مثالًا وقدوة لکل العلماء والمثقفین والمفکرین وأبناء الأمة الأسلامیة.
كلمة أخيرة
إن الإرهاب التكفيري كان على مرّ العصور ظاهرة فردية أو على شكل تيار محدود لا وزن له في المسيرة الحضارية الإسلامية، أما اليوم فقد اتخذ صورة تهديد سياسي وأمني لشعوب العالم الإسلامي.
وأكثر من ذلك أصبح تهديدًا لسمعة الإسلام والصحوة الإسلامية، وبات ينفّذ كل ما أراده الصهاينة وأعداء الأمة من إثارة المخاوف من الإسلام أو الإسلاموفوبيا. بل أصبح يسيء إلى أعظم مقدسات المسلمين ومفردات حضارتهم مثل الشهادتين والجهاد ودولة الإسلام. من هنا نقترح مايلي:
1 ــ الكشف عن حقيقة المكفرين ومَنْ وراءهم من القوى المعادية للأمة.
2- بيان حقيقة الإسلام السمحة الإنسانية للمسلمين وللرأي العام العالمي.
3- التأكيد على وحدة الأمة الإسلامية، وتركيز مفهوم وحدة الدائرة الحضارية الإسلامية لسد الثغرات أمام الطاعنين في وحدة هذه الأمة.
4- التأكيد على الأخطار الأساسية التي تواجه العالم الإسلامي وعلى رأس ذلك الخطر الصهيوني وخطر الاستكبار الأمريكي.
الهوامش: