الشباب صُنّاعُ الصحوة.. وأمل التقريب
الشباب صُنّاعُ الصحوة.. وأمل التقريب
يوسف عبد المجيد عباس
بسم الله الرحمن الرحيم
لم يكن للشباب في دورهم وقدرتهم على التأثير موقع متقدم كما هو اليوم؛ إذ أثبتت الثورات المتلاحقة في العالم العربي أنهم الأقدر على صناعة التغيير، الذي ظلَّ المفكرون في عالمنا الإسلامي ينظِّرون له على مدى عقود من الزمن.
هذا الحراك الثوري الذي أطلق الشباب شرارته وشكّلوا وقوده الأساس رسم خارطة جديدة لمنظومة الفعل والتأثير الاجتماعي والسياسي، بات لهم فيها موقعاً مؤثراً؛ ودوراً فاعلاً، أخرج التعاطي معهم من إطار خطاب التشجيع والتأهيل، إلى دائرة الإيمان بقدرتهم على المشاركة في صناعة التغيير على مستويي النظرية والتطبيق.
وقد أثبتت الأحداث أن هذا الجيل الذي امتلئت به الشوارع والساحات مطالباً باستعادة الكرامة؛ لم يكن منطلقه الوحيد هو عنفوان الشباب وحماسته؛ بل ترافق ذلك مع رؤى فكرية تم صياغة الكثير منها بشكل تفاعلي معمق عبر وسائل الاتصال الحديثة، ما فرض على أهل الفكر إعادة النظر في الكثير مما سطّروه في هذا المجال.
غير أنّ الدور المتقدّم للشباب لم ينعكس - إلاّ بشكل محدود - على مخرجات التغيير الثوري والعملية السياسة التي أفرزها؛ فشريحة واسعة من الشباب ترى أنّها قد هُمِّشت بعد ما صنعت الثورة وقادتها وأوصلتها إلى أكثر مما كان يتوقعه من يحصد الثمار اليوم، ما أوجد حالة من الشعور بالغبن في مساحات شبابية واسعة، وهذا ما فتح الباب أمام طرح تساؤلات حقيقية عن موقف الإسلام من مشاركة الشباب في قيادة المجتمع، وهل هناك من قيود أو حدود تفرضها الرؤية الإسلامية على دورهم، خاصة وأنَّ جُلَّ الجَني كان من نصيب الإسلاميين.
دور الشباب من منظور إسلامي
لقد كان الشباب النواة الأبرز للأمة المسلمة، فالمتتبع لسيرة النبي الأعضم يرى أن دعوته (ص) لم تستقطب في بداية انطلاقتها جيلاً كما استقطبت الشباب؛ إذ سارعوا إلى الإيمان برسالته والتفّوا حوله يعملون معه على نشر رسالة السماء بكل وعي وبصيرة: «قُلْ هَـذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ»[1]، ودراسة العيّنة التي بادرت للإيمان برسول الله (ص) من السابقين الأولين تؤكد هذه الحقيقة، التي عبرت عنها شكوى شيوخ قريش لأبي طالب رضوان الله عليه: «إِنَّ ابْنَ أَخِيكَ قَدْ سَفَّهَ أَحْلَامَنَا وَسَبَّ آلِهَتَنَا وَأَفْسَدَ شَبَابَنَا»[2].
وسأكتفي - بما يتناسب مع هذا البحث - بعرض دليلين على أن الإسلام أتاح للشباب - وفي وقت مبكر من أعمارهم - دوراً للمشاركة الكاملة في مختلف مجالات الحياة الاجتماعية والسياسية، دون أن يشكل السنّ مبرراً لإقصائهم أو تقديم من يكبرهم؛ وكيف تعامل رسول الله (ص) مع هذا الجيل؛ حيثُ رَسّخ دورهم في قالب الشراكة الحقيقيّة؛ وفي أخطر المواقع وأدق المراحل، رغم وجود من يكبرهم سنّاً؛ ممن قد يتصور أنه يفوقهم بالكفاءة والخبرة.
وقد ورد عن رسول الله (ص) ما يشير إلى هذه الحقيقة عندما اعترض عليه البعض في تعين عَتَّابَ ابْنَ أَسِيد والياً على مكة قوله بما يشبه القاعدة العامة: «وَلَا يَحْتَجَّ مُحْتَجٌّ مِنْكُمْ فِي مُخَالَفَتِهِ بِصِغَرِ سِنِّهِ فَلَيْسَ الْأَكْبَرُ هُوَ الْأَفْضَلَ بَلِ الْأَفْضَلُ هُوَ الْأَكْبَر»[3].
1- الجانب التشريعي (سن التكليف):
حدد الإسلام - على المشهور - سن الخامسة عشر لبلوغ الذكر ودونها لبلوغ لأنثى، وهو سن التكليف الذي يخرج فيه الإنسان من مرحلة الطفولة التي يكون فيها خلياً من أي مسؤولية شرعية، إلى مرحلة يبدأ فيها بتحمل المسؤوليات الشرعية كأيّ بالغ؛ فله ما لهم وعليه ما عليهم، خاصة إذا ترافق البلوغ مع الرشد، وهذه طائفة من الروايات التي تبين ذلك وتؤكده:
1- عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سِنَانٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (ع) قَالَ: «إِذَا بَلَغَ الْغُلَامُ أَشُدَّهُ ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً وَ دَخَلَ فِي الْأَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً وَجَبَ عَلَيْهِ مَا وَجَبَ عَلَى الْمُحْتَلِمِينَ احْتَلَمَ أَوْ لَمْ يَحْتَلِمْ وَ كُتِبَتْ عَلَيْهِ السَّيِّئَاتُ وَ كُتِبَتْ لَهُ الْحَسَنَاتُ وَ جَازَ لَهُ كُلُّ شَيْءٍ إِلَّا أَنْ يَكُونَ ضَعِيفاً أَوْ سَفِيهاً»[4].
وأوضح ما يفيد المطلوب في هذه الرواية هي عموم قوله "جاز له كل شيء".
2- عن ابن عمر أنه عرض على النبي (ص) يوم أُحد وهو ابن أربع عشرة سنة فلم يجزه، وعرض عليه يوم الخندق وهو ابن خمس عشرة سنة فأجازه.[5]
فإجازة رسول الله (ص) بالمشاركة في الحرب لم تكنتتوقف إلى على بلوغسن التكليف.
3- عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (ع) قَالَ: «سَأَلَهُ أَبِي وَ أَنَا حَاضِرٌ عَنِ الْيَتِيمِ مَتَى يَجُوزُ أَمْرُهُ قَالَ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ قَالَ وَ مَا أَشُدُّهُ قَالَ احْتِلَامُهُ قَالَ قُلْتُ قَدْ يَكُونُ الْغُلَامُ ابْنَ ثَمَانَ عَشْرَةَ سَنَةً أَوْ أَقَلَّ أَوْ أَكْثَرَ وَ لَمْ يَحْتَلِمْ قَالَ إِذَا بَلَغَ وَ كُتِبَ عَلَيْهِ الشَّيْءُ جَازَ أَمْرُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفا»[6].
وقوله (ع) "جاز أمره" مطلق يشمل مختلف المجالات، والمورد - كما هو محرر في علم الأصول- لا يخصص الوارد.
4- عَنْ حُمْرَانَ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا جَعْفَرٍ (ع) قُلْتُ لَهُ: مَتَى يَجِبُ عَلَى الْغُلَامِ أَنْ يُؤْخَذَ بِالْحُدُودِ التَّامَّةِ وَتُقَامَ عَلَيْهِ وَيُؤْخَذَ بِهَا، فَقَالَ: «إِذَا خَرَجَ عَنْهُ الْيُتْمُ وَأَدْرَكَ»، قُلْتُ: فَلِذَلِكَ حَدٌّ يُعْرَفُ بِهِ، فَقَالَ: «إِذَا احْتَلَمَ أَوْ بَلَغَ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً أَوْ أَشْعَرَ أَوْ أَنْبَتَ قَبْلَ ذَلِكَ أُقِيمَتْ عَلَيْهِ الْحُدُودُ التَّامَّةُ وَأُخِذَ بِهَا وَأُخِذَتْ لَهُ» قُلْتُ: فَالْجَارِيَةُ مَتَى تَجِبُ عَلَيْهَا الْحُدُودُ التَّامَّةُ وَتُؤْخَذُ لَهَا وَيُؤْخَذُ بِهَا؟ قَالَ: «إِنَّ الْجَارِيَةَ لَيْسَتْ مِثْلَ الْغُلَامِ، إِنَّ الْجَارِيَةَ إِذَا تَزَوَّجَتْ وَدُخِلَ بِهَا وَ لَهَا تِسْعُ سِنِينَ ذَهَبَ عَنْهَا الْيُتْمُ وَ دُفِعَ إِلَيْهَا مَالُهَا وَ جَازَ أَمْرُهَا فِي الشِّرَاءِ وَالْبَيْعِ وَ أُقِيمَتْ عَلَيْهَا الْحُدُودُ التّامَّةُ وَأُخِذَ لَهَا بِهَا»، قَالَ: «وَالْغُلَامُ لَا يَجُوزُ أَمْرُهُ فِي الشِّرَاءِ وَ الْبَيْعِ وَ لَا يَخْرُجُ مِنَ الْيُتْمِ حَتَّى يَبْلُغَ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً أَوْ يَحْتَلِمَ أَوْ يُشْعِرَ أَوْ يُنْبِتَ قَبْلَ ذَلِكَ»[7].
وهي واضحة في تحمل الذكر والأنثى لجميع المسؤوليات بمجرد وصولهم إلى سن التكليف.
وليس من المبالغة القول أن الروايات في هذا المجال تصل إلى درجة التواتر المعنوي، وفي مقابل ذلك لا نجد أي دليل يشترط عمراً معيناً لتحمل أية مسؤولية مهما بلغت؛ مع توفر الرشد والكفاءة والخبرة اللازمة. وهذا ما ينعكس في البحوث والفتاوى الفقهية عند الحديث عن الشروط التي ينبغي أن تتوافر في من يتحمل إمامة الجمعة والجماعة أو القضاء أو قيادة الجيش بل وحتى القيادة العامة للأمة، فهي لا تذكر شرطاً عُمْرياً غير سن البلوغ، ما يعني أن الإسلام على مستوى النظرية يفسح المجال أمام الشباب لتولي جميع المسـؤوليات والمهام مهما كانت حساسيتها ودقَّتها.
2- الجانب التطبيقي "السيرة النبوية":
وإذا كان الدليل السابق يعطينا الموقف الإسلامي على مستوى النظرية؛ فإن التجربة العملية التي قادها رسول الله (ص) منذ فجر الدعوة وحتى تأسيس الدولة إلى أن رحل إلى الرفيق الأعلى؛ هي التي تعطي الموقف الإسلامي الواضح على مستوى التطبيق.
وفي هذا الإطار يلحظ المتتبع لسيرة المصطفى (ص) أنه قد اعتمد الشباب لأكثر المواقع حساسية وأشدها خطورة، بل وكثيراً ما كان يقدمهم على الشيوخ ما دفع بعضهم للاعتراض في أكثر من موطن، ولا شك أن تقديم الشباب حين تقديمهم ليس عن اعتباط، فقد روي عنه (ص) أنه قال: «إني لأؤمّرالرجل على القوم فيهم من هو خير منه؛ لأنه أيقَظ عيناً وأبصر بالحرب»[8].
ولإيضاح هذه الحقيقة نستعرض النماذج التالية من عمالٍ وولاةٍ وحملة علم وقادة جيش اعتمدهم رسول الله (ص)، وذلك على مستوى المثال لا الحصر:
3- عَتَّابَ بْنَ أَسِيد:
استعمله رسول الله (ص) والياً على مكة بعد فتحها، وكان عمره إذ ذاك ثمانية عشر سنة كما عن "مستدركات علم رجال الحديث"[9]، أو قرابة العشرين عاماً كما عن ابن إسحاق، ويروى أن النبي (ص) قال له: «يا عَتّابُ! تَدري عَلى مَن ِاستَعمَلتُكَ؟! استَعمَلتُكَ عَلى أهلِ اللّهِ عزوجل، ولَو أعلَمُ لَهُم خَيراً مِنكَ استَعمَلتُهُ عَلَيهِم»[10]. وقد بقي على ولايته حتى وفاة رسول الله (ص).
ومن الواضح جداً مدى أهمية ولاية مكة في تلك الظروف، وخطورة المسؤوليّة التي أناطها النبي (ص) بهذا الشاب، وقد اعتبره (ص) خير من يتحمل تلك المسؤولية.
4- عمرو بن حزم الأنصاري:
(استعمله النبي (ص) على نجران، وهم بنو الحارث بن كعب وهو ابن سبع عشرة سنة ليفقههم ويعلّمهم القرآن ويأخذ الصدقات)[11].
5- عثمان بن أبى العاص:
أمَّره رسول الله (ص) على ثقيف وهو شاب، حيث جاء وفد إلى النبي (ص)، «فلما أسلموا وكتب لهم رسول اللَّه (ص) كتابهم، أمّر عليهم عثمان بن أبى العاص، وكان من أحدثهم سناً، وذلك أنه كان أحرصهم على التفقّه في الإسلام..»[12].
وقال الواقدي: «فلمّا أرادوا [وفد ثقيف] الخروج قالوا: يا رسول اللّه، أمّر علينا رجلاً منّا يؤمنّا. فأمّر عليهم عثمان بن أبى العاص، وهو أصغرهم، لما رأى رسول اللّه (ص) من حرصه على الإسلام»[13].
فالمعيار وفق الرؤية النبوية هو الحرص على الإسلام وليس السن.
6- عبداللَّه بن قيس:
أبو موسى الأشعري، كان عامل النبي الأكرم (ص) على أكثر من ناحية في اليمن، وقد جزم البعض أن لم يتجاوز العشرين من عمره عند وفاة رسول الله (ص)، وعلى أكثر الاحتمالات فهو لم يتجاوز الثلاثين.
وفي "الإصابة": «قال أصحاب الفتوح: كان عامل النبيّ (ص) على زبيد و عدن و غيرهما من اليمن و سواحلها)[14].
7- جعفر بن أبي طالب:
كان زعيم المهاجرين إلى الحبشة، حاور نجاشيّها، فأدخله وعدد كبير ممن معه في الإسلام[15]، وهو من دحض بحكمة حجة رسل قريش إلى النجاشي، فعادوا إلى من أرسلهم خائبين.
ولم يزد عمر جعفر رضوان الله عليه عند الهجرة إلى الحبشة عن 23 عاماً حسب ابن حجر العسقلاني؛ حيث اعتبر أنه رضوان الله عليه عند شهادته في مؤتة «سنة ثمان في جمادى الأولى... استوفى أربعين سنة وزاد عليها على الصحيح»[16].
بينما يكون عمره (21سنة) على القول بأن شهادته كانت في الثامنة والثلاثين من عمره كما يرى بعض المحققين.
8- مُعَاذَ بْن جَبَل:
شهد بدراً وهو ابن إحدى وعشرين سنة، وأمّره النبي (ص) على اليمن[17]، وعمره في بدر يعني أنه لم يبلغ عند وفاة رسول الله (ص) التاسعة والعشرين. وكان معاذ قاضياً للنّبيّ (ص) باليمن وحاكماً في الحروب ومصدّقاً إليه لدفع الصدقات[18].
9- عبد الله بن عباس:
وهو من أبرز من نقل حديث رسول الله (ص) بوعي وغزارة، حتى عُرِف بـ «حبر الأمة»، رغم أنه لم يكن يتجاوز من العمر الثالثة عشر عند وفاة النبي الأكرم (ص).
قال الواقديّ: «لا خلاف عند أئمتنا أنه ولد بالشُـعب حين حصرت قريش بني هاشم، وأنه كان له عند موت النبيّ (ص) ثلاث عشرة سنة»[19]. وهذا يؤكد أنه ورغم سنه المبكرة أتيح له المشاركة بشكل مكثف في مجالس العلم، ومن هذا القبيل نماذج أصعب من أن تحصر.
الشباب وصية رسول الله (ص)
10- أسامة بن زيد:
وهو الوصية الأخيرة لرسول الله (ص)، قال ابن سعد: «ولد أسامة في الإسلام، ومات النبي (ص) وله عشرون سنة. وقال ابن أبي خيثمة: ثماني عشرة. وكان (ص) أمّره على جيش عظيم»[20].
وفي اختيار رسول الله (ص) أسامة لقيادة "جيش عظيم" أهمية تفوق كل ما سبق؛ في إثبات ما نحن بصدده، لأسباب عدة:
1- كون ذلك كان في آخر حياته (ص) وبعد أن تكوَّن المجتمع المسلم بكل قادته ورجالاته.
2- خطورة المسؤولية التي أنيطت بأسامة، حيث كان الجيش يمضي لواحدة من أهم الغزوات في تاريخ الإسلام.
3- وضْع كبار الصحابة سناً وشأناً تحت إمرة شاب ولد بعد بعثته (ص).
ولذلك معاني كثيرة قد يكون أوضحها أن مشاركة الشباب في قيادة المجتمع كانت آخر وصايا رسول الله (ص)، والذي ما فتأ يؤكد وهو في مرضه الأخير أن «أَنْفِذُوا جَيْشَ أُسَامَة»[21].
ونكتفي بعرض هذه النماذج لأنها من الأهمية والوضوح بما يكفي لتأكيد ما أراده البحث، خصوصاً إذا لاحظنا أن القائد أو الوالي في ذلك الزمن كان يحكم وفق المعايير العامة التي يأخذها عن رسول الله (ص)، وبشكل شبه مستقل عن القيادة المركزية، وذلك لفقدان وسائل الاتصال المتوفرة اليوم، ما يتطلب أن يكون اختياره أدق، وأن تكون الثقة به أشد.
قادة الحاضر
والمتتبع للسيرة من هذا الجانب يستطيع أن يجزم بأن الشباب لم يكونوا شركاء في قيادة المجتمع المسلم في العصر النبوي فحسب، بل كانوا هم الكتلة القيادية الأكبر، والتي تسلمت أكثر المواقع حساسية وخطورة، وأثتبتت نجاحاً منقطع النظير في النقلة النوعية للأمة من حضيض الضعف والخلافات والنزاعات القبلية، إلى حكم الدولة النموذج؛ التي استطاعت أن تثبت نفسها كأقوى قوة في العالم خلال فترة قياسية، ما لم يشهد لها التاريخ مثيلاً. وهذا يعطي صورة واضحة عن أن الإسلام تعاطى مع جيل الشباب كشريك رئيس في عملية البناء والتطوير، بل والقيادة أيضاً.
فالشباب - إسلامياً - هم قادة الحاضر لا قادة المستقبل، ودورهم في مختلف المجالات يقع في إطار المسؤولية والواجب لا في إطار الحق فحسب.
تكامل بين الأجيال
ومن النافلة الإشارة إلى إنّ الدعوة لتفعيل دور الشباب لا ينبغي أن تُفهم على أنها تكريس لحالة من الصراع العمْري بين الأجيال، بل هي دعوة إلى تكامل ناضج بين الدوائر في سبيل الوصول إلى مجتمع يستثمر بشكل اندماجي حيوية الشباب وعنفوانهم، وخبرة الشيوخ واتزانهم. وقد عبرت التجربة الإسلامية النبوية عن هذا الاندماج والتكامل الأجيالي بأجلى الصور، وتبدى ذلك من خلال النهضة العظيمة التي شاركت فيها كتلة مندمجة متكاملة من مختلف الأجيال.
الشباب اليوم
بعد أن عرفنا النظرية الإسلامية والتطبيق النبوي المعصوم الذي لم يضع حداً أمام الشباب لتحمل أية مسؤولية؛ أو الوصول إلى أي موقع في قيادة الدولة والمجتمع، نتساءل ما هو واقع الشباب اليوم ضمن الحركة الإسلامية الصاعدة، والتي تتجه لاستلام زمام الأمور في عالمنا الإسلامي.
طاقات مجمدة
إن أبرز مشكلة يواجهها شباب اليوم هي إقصائهم عن مواقع القرار والمسؤوليات الكبيرة، والنظر إليهم في أحسن الحالات على أنهم مجموعة يتم تهيئتها وادخارها للمستقبل، فهم- كما يعبَّر في الكثير من الكتابات الإسلامية" -سيستلمون أزمة المجتمع في المستقبل"، دون أن يتاح لهم أن يشاركوا بشكل فعلي وواسع في قيادة الحركة الإسلامية وإدارة شؤونها، إنهم الصف الثاني الذي ينتظر أن يأتيه الدور ليسد الفراغ الذي سيشكله الكبار بعد رحيلهم، وهذا ما عبر عنه قول الشاعر:
يا شباب الإسلام يا أمل الشعـــب وغصناً يلـفه الاخضرارُ
إن يك اليوم عذركم صغر سن ... ... فغداً أنتم الرجال الكبارُ
سوف يمضي الجيل القديم رويداً ... ... كله..أشـقياؤه والخـيارُ
وتكـونون أنتم قـادة العصر ... ... فـهل فيكم يصح المسارُ
فرغم الجمالية العالية لهذه الأبيات إلا أنها تقول للشباب - الذين يراهم الشاعر غصنا طرياً ناعماً - أن عليكم انتظار رحيل "الجيل القديم"؛ حتى يتاح لكم المشاركة في قيادة العصر. وهذا لا ريب خلاف الرؤية الإسلامية.
أسسَّوا ثم همِّشوا
ونلاحظ اليوم أن جلَّ المشاريع والحركات الإسلامية المعاصرة كانت من تأسيس جيل شاب وهو في أوج عنفوانه؛ إلا أن تلك المشاريع والحركات وبعد أن شابت طبقتها الأولى باتت تحيِّد الشباب عن مواقع النفوذ والقرار، ما يدعو إلى التوقف وكثير من إمعان النظر.
ولا معنى للقول أن"شباب اليوم غير شباب الأمس"ففي كل زمان شباب مسؤول وآخر متهتك، وهذا التنوع لا يختص بجيل دون آخر، ويعيدنا ذلك الصحوة الإسلامية التي لا يزال شباب اليوم هم العامل المؤثر الأبرز فيها.
مشاركة أم تشجيع؟
لقد أوجدت الصحوة الإسلامية وما ولَّدته من حراك تغيري متصاعد؛ إيماناً عميقاً بضرور إفساح المجال أمام لشباب الواعي؛ للمشاركة الفاعلة في إدارة شؤون الأمة وحل مشاكلها، والاستفادة بشكل حقيقي من تلك الطاقات الهائلة؛ بدلاً من الاقتصار تجاههم على الخطاب التشجيعي التأهيلي، أو النظر إليهم على أنهم فئة ثانية وكوادر نشطة لا علاقة لها بمواقع القرار.
عشرون عاماً من التقريب
لا يمكن للمنصف إلا أن يقف بإكبار أمام ما أنجزه التقريبيون في العشرين عاماً الماضية، فلقد كان لما بذلوه من جهود وتحملوه من أعباء عظيم الأثر في منع الانزلاق إلا فتن أريد لها في بعض المراحل الحساسة أن تلتهم العالم الإسلامي وتقضي عليه، وفي المقابل فإن الإنصاف أيضاً يقتضى أن نعترف بأن هناك الكثير من الإخفاقات التي رافقت ذلك العمل التقريبي، فالمتوقع منه كان أكبر بكثير مما تم إنجازه، ومن المؤلم أننا وبعد كل تلك الجهود نجد أنفسنا اليوم "عَلَىحَرْفٍ"فيما يرتبط بالعلاقة بين أبناء المذاهب الإسلامية المختلفة. ورغم أن هذا البحث غير مسوق لتقييم المشروع التقريبي خلال تلك السنين، إلا أن الوقوف بتأمل أمام إخفاقاته وإنجازاته وآليات عمله يعيدنا بعمق إلى صلب ما نحن في صدد الحديث عنه.
الشباب والتقريب
لقد غُـيِّب الشباب عن المشروع التقريبي أو غابوا فلم يطلب منهم المشاركة فيه..إلا لَمَمَا، ما أدى إلى فقدان المشروع عنصراً من أهم عناصر الحيوية والانتشار، بل قد يكون الشباب وفي هذا الموضوع بالذات أقدر ممن يليهم من الأجيال على الإنجاز والإنجاح، فهم أبعد عن التعصب الناشئ عن تخشب الفكر، وأقل التصاقاً بالمناصب التي قد يخشى فقدانها بعض من يتوجس من التقارب، وهم مع ذلك يشكلون تهديداً فيما لو تركوا لغير جهة تحاول أن تجعل منهم وقوداً للفتن الطائفية وأن تحرقهم فيأتونها.
ونستعرض في هذا المجال عدة اقتراحات من شأنها أن تُسْهم في استثمار طاقات هذا الجيل وحيوته، ولعل الشباب بمشاركتهم في العمل التقريبي يحققون ما حققوه في الفعل التغييري، خاصة وأن رفع الوتيرة الطائفية في هذه المرحلة التاريخية تستهدف بالدرجة الأولى منجزاتهم الثورية العظيمة، والاقتراحات هي:
1- إشراك الشباب بشكل فاعل وكامل في جميع مشاريع التقريب القائمة، ومنها المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب.
2- العمل على توسيع الحضور الشبابي المشترك في النشاطات الإنسانية والثقافية العامة، كساحات ومواقع الأنترنت، أو البرامج والندوات الثقافية، أو النشاطات الخدمية والاجتماعية.
3- إقامة نشاطات سياحية وترفيهية شبابية مشتركة، لكسر الحواجز النفسية وخلق حالة من التواصل.
4- خلق أطر للتواصل الدائم ضمن فعاليات عامة عابرة للطوائف والمذاهب، كـ "ملتقى الشباب المسلم" الذي يهدف لإيجاد تجمع شبابي من مختلف الدول الإسلامية، للبحث والتعاون في معالجة القضايا ذات الاهتمام المشترك، كقضية فلسطين.
5- إيجاد وسائل إعلامية تخاطب الجيل الشاب بأسلوب معاصر يعرض نقاط الالتقاء الكثيرة بين أبناء الأمة، في مقابل الحملات الإعلامية التفريقية العنيفة.
علّ ذلك يساهم بكسر الحواجز النفسية؛ والوصول إلى جيل تقريبي يعيش الانسجام بالقول والعمل، ويوجّه كل طاقات الأمة لمواجهة الأخطار التي تذْهَب بريحها وتهدد وجودها..
[1] - يوسف: 108.
[2] - بحار الأنوار، ج18، ص182.
[3] - بحار الأنوار، ج 21، ص 121.
[4] - من لا يحضره الفقيه، ج 4، ص 221.
[5] - شرح مسلم، النووي، ج 13، ص 12.
[6] - وسائل الشيعة، ج 18، ص 412.
[7] - الكافي، ج 7، ص 197.
[8] - البيهقي، دلائل النبوة، ج 5، ص52.
[9] - النمازي الشاهرودي، مستدركات علم رجال الحديث، ج 5، ص 202.
[10] - أسد الغابة، ج 3، ص 358.
[11] - مكاتيب الرسول (ص)، ج1، ص 35.
[12] - السيرة النبوية (لابن هشام)، ج2 ، ص،540.
[13] - المغازي، ج 3، ص 969.
[14] - الإصابة في تمييز الصحابة، ج 4، ص 182.
[15] - الإصابة في تمييز الصحابة، ج 1، ص 593.
[16] - الإصابة في تمييز الصحابة، ج 1، ص 593.
[17] - الإصابة في تمييز الصحابة، ج 6، ص 108.
[18] - البداية والنهاية، ج 5، ص 103.
[19] - الاصابة، ج 4، ص 121.
[20] - الإصابة في تمييز الصحابة، ج 1، ص 202.
[21] - تاريخ الإسلام، للذهبي، ج 3، ص 19.