التقريب : مفاهيمه وأهدافه
التقريب : مفاهيمه وأهدافه
الدكتور عبد العزيز بن عثمان التويجري
المدير العام للمنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة (إيسيسكو )
مدخل :
تتطلّب المرحلة الراهنة التي يجتازها العالم الإسلامي، تعبئة الطاقات وحشد الجهود لتعميق الوحدة الثقافية بين شعوب الأمة الإسلامية، من خلال تعزيز الانتماء للأمة، وتجديد الالتزام بالدين الحنيف، وترشيد الاهتداء بتعاليمه ومبادئه وقيمه العليا، وصولاً إلى تحقيق التقدم والنماء في المجالات كافة.
لقد تكالبت قوى معادية على ضرب الحصار حول العالم الإسلامي لإضعاف بنياته، واستنزاف إمكاناته، وهدر قدراته، والدفع به في الاتجاه المعاكس لحركة التاريخ المتصاعدة ـ وفق سنن اللَّه في الكون ـ في مدارج التقدم الذي يتمتع الإنسان في ظلّه، بالكرامة التي جعلها اللَّه حظاً مشتركاً لبني آدم.
والمتأمل في التاريخ الإسلامي، خاصة في المراحل الدقيقة التي عرفت توترات مقلقة في العلاقات بين طوائف الأمة الإسلامية الواحدة، ابتداءً من القرنين الرابع والخامس الهجريين، ومروراً بالأحداث التي وقعت في القرن العاشر الهجري، (السادس عشر الميلادي) حين اضطربت العلاقات بين الدولة العثمانية والدولة الصفوية وتأزمت الأوضاع في هذه المنطقة من جراء الحرب غير المبرّرة بأيّ وجه من الوجوه، التي نشبت بين السلطان العثماني سليم والشاه إسماعيل الصفوي، وانتهاءً بما وقع من فتنة بين عنصرَيْ الأمة في مطلع القرن العشرين في هذه المنطقة أيضاً ـ إن المتأمل في هذا التاريخ الممتد يجد أن ثمّة عوامل خارجية دفعت إلى تأجيج الصراع، وإذكاء العداوة البغضاء، وإضرام نيران الفتن تحت مسمى الصراع بين السنة والشيعة. ولقد اتضح لنا من خلال قراءة متعمّقة في صحائف التاريخ، أن القوى الأجنبية كانت تقف دائماً وراء هذه الأحداث المؤلمة الدامية ؛ فقد تواطأت الدولة البيزنطية مع الغلاة المتطرفين الباطنيين المنحرفين عن جادّة الشرع الحنيف، ممن ينسبون أنفسَهم بالزور والبهتان إلى الشيعة، وما هم من الشيعة في شيء. كما تواطأ هؤلاء جميعاً، مع المغول التتار في القرن السابع الهجري، ضد الإسلام والمجتمع الإسلامي، والثقافة الإسلامية، والحضارة الإسلامية. ثم تكرَّر هذا التواطؤ في زمن الحروب الصليبية ـ وهذه التسمية جاءت ممن أشعل نيران هذه الحروب وليست من المسلمين ـ ، حيث وجدنا الغلاة المارقين عن الدين الحقّ الذين يتبرأ منهم الشيعة، يمدّون أيديهم إلى الغزاة الذين اكتسحوا المنطقة تحت شعار الصليب، ضدّاً على الأمة الإسلامية برمتها.
ولعل مقولة (التاريخ يعيد نفسه) تصدق في زماننا هذا ؛ فها هي القوى الباطشة المهيمنة المحتلة للأرض والغازية للعقل والمستبدة بالباطل بمصائر الشعوب، تسعى جاهدةً، لإيقاظ الفتنة، وبثّ روح الفرقة بين المسلمين تحت الدعاوى الباطلة ذاتها التي تردّدت في المراحل التاريخية السابقة، وهي الإيهام بوجود صراع بين السنة والشيعة في العراق، وفي غيره من البلدان الإسلامية. وهو زعمٌ باطلٌ.
وللقضاء على هذه الفتنة من جذورها، وحرصاً على تقوية كيان الأمة الإسلامية، وسعياً وراء بثّ الوعي المستنير بين المسلمين جميعاً، وحتى لا تتكرّر مآسي الماضي، وتطلّعاً نحو المستقبل الآمن المزدهر، اتجهت الإرادات الطيّبة والعقول النيّرة، إلى طرح فكرة التقريب بين المذاهب الإسلامية، التي تبلورت عبر العقود الأخيرة، من منتصف العقد الرابع من القرن الماضي وإلى اليوم، حتى صارت مشروعاً إسلامياً حضارياً يتمثّل في (استراتيجية التقريب بين المذاهب الإسلامية) التي اجتمعت حولها الإرادة الجماعية للأمة الإسلامية ممثّلة في مؤتمر القمة الإسلامي العاشر الذي صادَقَ عليها.
وفي ضوء هذه الاستراتيجية التي أشرف بأني كنت وراء بلورتها وإعدادها وتحضيرها والإشراف على جميع المراحل التي مرت بها، حتى اعتمدها المؤتمر العام للمنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة، ثم أقرها المؤتمر الإسلامي لوزراء الخارجية، إلى أن عرضت على مؤتمر القمة الإسلامي للمصادقة عليها، أقدّم إليكم هذا العرض الذي حرصت على أن يكون مركزاً، ومختصراً، ونافذاً إلى العمق، دونما إغراق في الجوانب الفقهية الي هي من اختصاص العلماء والفقهاء الذين يحملون أمانة العلم الشرعي.
ولابد أن أبدأ بتحديد مفهوم التقريب، رفعاً لأي التباس، وعملاً بمقتضى الدقة والضبط المنهجي.
مفهوم التقريب :
التقريب اصطلاحاً، هو التقريب بين وجهات النظر المختلفة، سواء أكان ذلك فيما يقع للناس في أمور معاشهم وطرائقها، أم كان في نظرتهم مثلاً لبعض الفروع الفقهية واختلافهم بشأنها من جهة ما يعتريها من أحكام. ومن التقريب بهذا المعنى، محاولةُ التقريب بين المذاهب الإسلامية، خاصة بين أهل السنة والشيعة، لما يترتب على ذلك من تقويةٍ لمفهوم الأخوة الإسلامية الجامعة، بعد أن عبثت بها نوازع الفرقة([1]). (1).
ومن الوسائل الفعالة ذات الأثر القويّ في تقوية كيان الأمة ورصّ صفوفها، العمل من أجل التقريب بين المذاهب الإسلامية، بجمع كلمتها من خلال تقريب وجهات النظر في مناهج الأدلة، وفي وضع القواعد الفقهية، ورسم الطرق المؤدية إلى هذا التقريب، وإعداد الوسائل الكفيلة بتحقيقه.
وليس التقريب عملية قسرية أو مصطنعة، أو حركة سياسية يُراد بها ستر جانب من الضعف والنقص، لكي تتم عملية تمويه على الطرف الآخر، بل هي عملية أصلية تقتضيها مجموعة أمور واقعية([2]). (2).
وينبغي أن يكون واضحاً بالقدر الكافي، أن التقريب لا يعني بأي حال من الأحوال، وبأي معنى من المعاني، أن يتخلّى كل ذي مذهب عن مذهبه، وأن يتجاوز معتقداته وينصرف عن ثوابته اليقينية التي يؤمن بأنها جزء لا يتجزأ من عقيدته الدينية، فهذا لا يقول به أحد من العقلاء. وإنما المعنى المقصود بالتقريب، بذل الجهد وإفراغ الوسع، بالتوافق والتراضي، من أجل التقليص من مساحة الخلاف، بحيث لا يكون هذا الخلاف، الذي نرى أنه أمر طبيعي في ظل التراكم التاريخي، سبباً في الاختلاف الذي يفسد علاقات الأخوة بين المؤمنين.
إن إزالة أسباب الخلاف في الأمور العقدية والفقهية، ليس مطلوباً في الوقت الحالي، وليس ثمة ما يؤكد احتمال حدوثه في المستقبل المنظور، لأن من شأن دخولنا إلى هذا المجال، أن نزيد المسألة تعقيداً من حيث أردنا تبسيطها.
فالمهم اليوم وفي المستقبل القريب بمشيئة اللَّه تعالى، هو السعي الجماعي إلى الاتفاق على ما لا يجوز الخلافُ فيه، وما يجب الاعتقاد به، وعلى أن القرآن المتلوّ بين يدي المصحف، هو كلام اللَّه جلّ وعلا، أنزله الروح الأمين على قلب محمد بن عبد اللَّه .
وليست فكرة التقريب أن ندعو الناس إلى مذهب واحد، بأن يندمج الشيعة في مذهب السنة، ولا مذهب السنة في مذهب الشيعة، ولكن مفهوم التقريب الذي نقول به ونعتمده، هو : أن يصل المسلمون في مختلف طوائفهم إلى لون واضح من ألوان التعاون القائم على المحبّة، وعلى ترك العصبية، والترفّع عن التنابز بالألقاب، والبعد عن سوء الظن، فإن هذا من شأنه أن يطلق العنان للتفكير في حرية وهدوء والتماسٍٍ للحقيقة دون خوف أو اضطراب أو بلبلة، وألاَّ يحول بين السنيّ وانتفاعه برأي أخيه الشيعي، ولا بين الشيعيّ وانتفاعه برأي أخيه السنّي ما دام الجميع يصدرون عن أصل واحد([3]).
نخلص من هذا إلى أنه من المستحيل إزالة الخلاف بين المذاهب الإسلامية وجعلها مذهباً واحداً، لأن الخلاف واختلاف الرأي من طبيعة البشر، وخالق البشر يقول سبحانه وتعالى في سورة هود (ولا يزالون مختلفين إلاَّ من رحم ربّك ولذلك خلقهم). فلا يُجدي التفكير في إزالة أصل الخلاف بين المذاهب، وأقصى ما يمكن الوصول إليه هو إزالة الأسباب التي تجعل هذا الخلاف سبباً للعداء، وأن يكون الإخاء والتقارب بديلاً عن التباعد والتضارب، لأن المسلمين مهما بلغ الخلاف بينهم، فإنهم مُجمعون على الشهادتين، ومن شهد الشهادتين، فقد اتخذ الإسلام ديناً وحرم دمه وماله وعرضه، والمسلم أخو المسلم([4]).
دواعي التقريب وضروراته :
إن الحقيقة التي أجمعت عليها الأمة هي أن الفقه هو علم الفروع، وأن كل المذاهب الفقهية الإسلامية، دون استثناء، قد وقفت اجتهاداتها وتمايزاتها واختلافاتها عند الفروع، وأن هذه الاختلافات الفقهية، قد مثلت سعةً ورحمةً وغنًى في الاجتهاد، مجسدة بذلك التنوّعَ الطبيعيَّ في مناهج النظر الفقهي، والاستجابة المناسبة لتنوّع واقع الأمة ومصالحها عبر الزمان والمكان.
إنَّ فقـهاء الأمـة الـذين أسـسوا هـذه الـمذاهـب الفقــهية، وكـذلك الــذين طـوّروها وأغـنوا اجتـهاداتها، قد تتـلمذوا عـلى المـخالفين لهـم فـي المــذهب الفــقهي، ولقد تركوا لنا المأثورات الشاهدة والقاطعة على أن معيار اختلافاتهم إنما هو "الخطأ"، الذي فيه أجرٌ، أو"الصواب"، الذي فيه أجران، وأنه لا علاقة لهذه الاختلافات الفقهية والتمايزات في الاجتهادات بأي من أسباب القطيعة، ونفي الآخر، التي اتخذت وتتخذ من "التكفير" و"التفسيق" معايير للخلاف والافتراق([5]).
وإذا كان هذا هو حال الاختلاف والتنوّع في المذاهب الفقهية، فإن المذاهب الفقهية الإسلامية لا يمكن أن تكون ـ إجمالاً ـ هي ميدان التقريب المنشود دون تحديد منهجيّ دقيق لمفهوم التقريب المبتغى. بل ربما كانت الأمة في حاجة إلى المزيد والمزيد من فضاءات التنوّع الفقهي، حفزاً للهمم على الاجتهاد الذي ركدت ريحه، واستنفاراً لمَلَكَات الإبداع الفقهي، الذي يعاني من الضيق والتضييق.
إن عالم الفقه الإسلامي ودارسه والمنتفع به، على اختلاف مذاهب هذا الفقه، لا يشعر أي منهم بأن هناك "مشكلة" بين هذه المذاهب، فضلاً عن أن تكون هذه "المشكلة" ضارة بوحدة الأمة الإسلامية ؛ ففضلاً عن أن مسائل الاختلاف بين هذه المذاهب الفقهية محدودة، فإنها قد مثلت ولا تزال تمثل مظهراً من مظاهر السعة والرحمة والغنى في ميدان الاجتهادات الفقهية. وليس هناك، لا في الماضي ولا في الحاضر، من قال إن الاختلافات الفقهية بين الفقه الجعفري وبين فقه المذاهب السنية، هي التي قسمت الأمة إلى شيعة وسنة. كما أن الاختلاف الفقهي بين الزيدية والسنة لم يمنع من اقترابهما الشديد وتقاربهما في إطار الأمة الواحدة. وكذلك الحال بين فقه الإباضية وغيره من المذاهب الفقهية الإسلامية. بل إن الاختلافات الفقهية بين الفقه الجعفري وبين فقه مذاهب السنة، لا تزيد كثيراً عن الاختلافات بين المذاهب السنية الأربعة ذاتها([6]).
كما أن الاختلافات في هذه المذاهب الفقهية لا تضعف الكيان الواحد للأمة الإسلامية الواحدة، لأن ميدانها هو الفروع، أي فضاءات الاجتهاد، الذي لا يزال الناس فيه مختلفين، فاختلافاتها سنةٌ وقانونٌ إلهيٌّ لا تبديل له ولا تحويل. وهي تعدّدٌ واختلافٌ وتنوّعٌ في إطار الشريعة الإسلامية الواحدة، أي تنوع في الاجتهاد الفقهي في إطار الشريعة الواحدة، التي هي وضع إلهي ثابت. وتجاوزُ هذه الاختلافات الفقهية مستحيل، وتضييق فضائها بالتقريب من دون ضبط منهجي وحصر دقيق للأهداف، أمر بالغ الضرر، لأنه يعكس الخط البياني للسعة والرحمة، فيتجه به إلى الانكماش بدلاً من الامتداد.
وعندما تأخذ موسوعاتنا العلمية الفقهية المتخصصة وبعض الدول الإسلامية بالمذاهب الفقهية الثمانية ـ الحنفي، والمالكي، والشافعي، والحنبلي، والجعفري، والزيدي، والإباضي، والظاهري ـ ، وعندما يفتي الأزهر الشريف ـ على سبيل المثال ـ بجواز التعبد على المذهب الفقهي الجعفري، كمذهب فقهي إسلامي، ويعتمد تدريسه في معاهده وكلياته([7])، فإننا نكون بإزاء نموذج صحيح لاحتضان تنوّع الغنى الفقهي وسعته. وفي هذا النموذج تكون الحاجة إلى مزيد من توسعة فضاء الاجتهاد والاختلاف ـ عندما تكون هناك مبررات له ـ وليس إلى تضييق فضاء هذا الاختلاف، الذي هو ـ في الحقيقة ـ فضاء الاجتهاد والإبداع. ونكون في حاجة إلى تعميم هذا النموذج ـ أي احتضان موسوعاتنا وبلادنا الإسلامية للتنوّع الفقهي، والاستفادة من عطائه الموروث والمعاصر جميعاً.
إذن، ما نحتاجه، في ميدان المذاهب الفقهية، ليس التقريب بين هذه المذاهب بالمفهوم الضيق وبالمعنى المحدود، وإنما هو سعة الأفق والتسامح الذي يحتضن جميع هذه المذاهب الفقهية الإسلامية وتنوّع اجتهاداتها في إطار وحدة العقيدة والشريعة والأمة([8]).
لقد أوجب الإسلام الوحدة في الأصول، وجعل الاختلاف في الفروع نعمة تواكب بها الأمة المتغيرات في الواقع المتطور، والمستجدات في المصالح المتنوعة، عبر الزمان والمكان.
وهذه الأصول، التي أوجب الإسلام الوحدة فيها، هي "العقيدة" و"الشريعة" و"الأمة". ولقد أثمرت وحدة المسلمين في هذه الأصول الثلاثة وحدتهم في : "الحضارة" وفي "دار الإسلام". وفي إطار كل جامع من هذه الجوامع الخمسة، هناك تنوع وتعددية وتمايز في إطار وحدة الجامع.
ففي إطار وحدة العقيدة، حدثت تصورات متمايزة في قضايا التنزيه والتشبيه، بسبب الاقتصاد أو التوسّع أو التوسط في العقلانية وفي التأويل، وفي إطار وحدة الأمة، تنوعت وتعددت الشعوب والقبائل والألوان والأجناس والألسنة واللغات ومن ثم القوميات، وفي إطار وحدة الحضارة الإسلامية، تعددت وتنوعت العادات والتقاليد والأعراف، التي تركت آثارها في التنوع الفقهي وخاصة في فقه المعاملات، وفي إطار وحدة دار الإسلام، تعددت، حتى في ظل وحدة الخلافة الإسلامية ـ الأوطان والدول والولايات والأقاليم.
وإذا كنا ـ بإزاء وحدة الأمة ـ لا نحتاج إلى إلغاء التنوّع في الألسنة واللغات والقوميات والشعوب والقبائل، وإنما إلى جعلها تنوعاً يغني وحدة الأمة، دون أن يُلغي تميّز القبائل في الإطار الوحدوي الجديد.
وإذا كنا ـ بإزاء وحدة دار الإسلام ـ لسنا بحاجة إلى إلغاء تمايز الأقاليم والدول الوطنية والقطرية والقومية، وإنما إلى تجاوز "نظام الوطنية الضيقة" الذي أخذناه عن الدولة القومية الغربية في أوروبا، لتصبح أقاليم عالم الإسلام ودوله الوطنية والقطرية تنوّعاً في إطار وحدة دار الإسلام.
إذا كان هذا هو حالنا بإزاء وحدة الأمة، ووحدة دار الإسلام، فإننا ـ بإزاء وحدة الأمة في العقيدة والشريعة ـ لسنا بحاجة إلى التقريب بين مذاهب فقه الفروع بالمفهوم المطلق، وإنما نحن بحاجة ماسة إلى توسيع هذا الفضاء، الذي لا تضر اجتهاداته وتنوعاته وتمايزاته بوحدة الأمة في الأصول.
والحاجة، كل الحاجة هي إلى توحيد الأمة في الأصول، لأن الخلاف في هذه الأصول هو الذي يمزق وحدة الأمة، لأن معايير هذا الخلاف ـ في الأصول ـ هي "الكفر والإيمان"، وليس "الخطأ والصواب". فالخطر على وحدة الأمة ـ تاريخياً وحاضراً ومستقبلاً ـ ليس في الاختلافات الفقهية، وإنما ـ إذا اعتصمنا بالحق، وتحلينا بالشجاعة ـ هو في الخلاف في الأصول، الذي أثمر ويثمر حواجز وموانع تهم "التكفير" و"التفسيق" و"التبديع".
وليس هناك خبير في العلوم الإسلامية، أو حتى باحث في تراث المسلمين، يستطيع أن يجد أي أثر للتكفير أو التفسيق أو التبديع في مذاهب الفقه الإسلامية. أما الميدان الذي أصابته "موانع الوحدة" هذه، فهو ميدان "المذاهب الكلامية"، ميدان "الأصول"، ولذلك. وجب التوجّه إلى هذه المذاهب الكلامية بمحاولات نقوم بها وجهود نبذلها لتحقيق التقريب، بدلاً من صرف الأنظاروتبديد الجهود في التقريب بين مذاهب فقه الفروع.
إننا لا نجد المذاهب الفقهية الإسلامية قاطعة لوحدة الشريعة الإسلامية، ومن ثم ضارّة بوحدة الأمة الإسلامية. ولذلك فإن التقريب، بل الوحدة مطلوبة في "الأمة"، بالبعد عن التكفير لفرقاء الخلاف السياسي ـ الذي تحول عند البعض إلى خلاف عقدي وأصولي ـ حول "الإمامة". وهذا هو الميدان الحقيقي والأولى بالتقريب.
وتنقية مصادر علم الكلام ـ أصول الدين ـ من "النفي للآخر والتكفير" و"التفسيق" ـ لدى كل فرقاء "الفرق الإسلامية" وليس لدى "المذاهب الفقهية" ـ هو الميدان الأساس للتقريب الذي يجب أن توجه إليه الجهود بعد استكمال مراحل التقريب بين المذاهب الفقهية.
والبحث عن صيغ فكرية تنتقل بمسائل الخلاف هذه من "خانة الأصول"، التي يؤدي الخلاف حولها إلى "كفر وإيمان"، إلى "خانة الفروع"، التي معاييرُ الاختلاف فيها هي "الخطأ والصواب"، ميدانٌ أساسٌ للتقريب.
إن الاختلافات الفقهية، هي تنوع في الفروع، لا يفسد الود في وحدة الأمة، وهذا "المشروع" يؤكد ذلك كما في نصوص عديدة في ثناياه.
وتلك النصوص شاهدة على :
1- أن الاختلافات الفقهية التاريخية والحالية، هي نعمة وسعة وميزة تميز بها الإسلام، ويباهي بها الدنيا، وذلك فضلاً عن أنها سنة من سنن الله الدائمة حتى يرث الله الأرض ومن عليها.
2- وأن الخلاف المرذول، الذي يمزق وحدة الأمة، هو ذلك الذي يشيع أحكام وتهم "التكفير" و"التفسيق" بين مذاهب الأمة وفرقها، وذلك عندما يفرق وحدة الأمة في الأصول والجوهر الثابت للإسلام([9]).
أهداف التقريب :
إن أهداف التقريب لا ينبغي أن تكون من حيث العمق والجوهر، سوى الأهداف المنشودة من العمل الإسلامي المشترك، سواء في قنواته الرسمية، أو قنواته الشعبية. ويمكن أن نلخصها فيما يلي :
أولاً : تقوية لُحمة وحدة الأخوة الإسلامية، بنبذ الفرقة وإزالة أسبابها، وبتعزيز الولاء للإسلام في أصوله وكلياته، بدلاً من الولاء للمذهب، والتخلص من الوهم الباطل الذي يوحي لبعض الناس أن من ليس على هذا المذهب فهم خصمٌ للمذاهب الأخرى.
ثانياً : تعبئة الطاقات للاهتمام بالعمل من أجل حماية المصالح العليا للأمة الإسلامية، وصون حقوقها، والحفاظ على مكاسبها، والنهوض بمجتمعاتها في الميادين كافة.
ثالثاً : التعاون على كل ما فيه مصلحة الإسلام والمسلمين، في جميع المجالات، في إطار القنوات المفتوحة، وفي مقدمتها منظمة المؤتمر الإسلامي، والمنظمات العاملة في إطارها، والجامعات والمؤسسات والمجامع العلمية والمراكز البحثية.
رابعاً : تضافر الجهود في مواصلة بناء النهضة الإسلامية الشاملة على الأسس الاقتصادية والعلمية والتقانية والثقافية، ومن منطلقات سياسية ثابتة تقوم على قاعدة التضامن الإسلامي.
سبل ووسائل لعمليات التقريب :
ومن أجل أن يكون لعملنا في مجال التقريب أثرٌ ملموسٌ ونتائج نقطف ثمارها في المدى القريب بإذن اللَّه، وضعت استراتيجية التقريب بين المذاهب الإسلامية الإطار التالي لعمليات التقريب من خلال انتهاج السبل والعمل بالوسائل التالية :
1- اتخاذ الإجراءات العاجلة والجادة لتنفيذ عملية إجراء البحوث العلمية والموضوعية، عن واقع كل مذهب من المذاهب الإسلامية، واستخراج حقائقه العقدية ومواقفه الفقهية من مصادر المذهب نفسه ومراجعه، لا مما كتب عنه الآخرون، لأن كل مذهب من المذاهب له خصوصياته، التي لا تُعرف إلا من مصادره المعتمدة لديه، سواء كانت عقدية أو أصولية أو فروعية، أو حتى في حقل تفسير التاريخ وفهمه، لاعتبار أن ما كان قد كتب أو رُوي عن بعض المذاهب من خارج بنيتها الحقيقية، قد اختلط بنفثات نسبت إلى هذا المذهب أو ذاك اتهامات، أقل ما يقال عنها : إنها ليست معترفاً بها في هذا المذهب، ولا يقرها أو ليست صحيحة عنده.
2- وانطلاقاً من أن عملية التقريب بين المذاهب لابد أن يراعى فيها المصداقية والموضوعية، فإن مثل تلك الصفات والحقائق لا يمكن أن تؤخذ أو تستقى إلا من لسان أصحاب ا لمذهب نفسه، أو من مصادره المعتمدة عند أهله وأتباعه، لا من أقوال خارجية، فلربما صاحبتها أباطيل، ودست فيها دسائس، أو زورت عنها أقاويل، دون ثوابت، حتى انطوت على الشك فيها بصورة عامة. ويراعى عند تنفيذ بحوث التقريب وإجرائها ما يلي :
أ) التمييز بين الرأي السائد، والرأي الشاذ داخل كلِّ مذهب، وعلى الباحث الذي يسند رأياً إلى مذهب معين، أن يأخذ بعين الاعتبار الرأي الشاذ، كما أن عليه أن ينسب الآراء الشاذة إلى أصحابها فقط، وليس إلى المذهب ذاته، باعتبار أن المذاهب هي القواعد والأفكار، وليست الأفراد.
ولتحقيق هذا الأمر، فإن استراتيجية التقريب بين المذاهب الإسلامية تدعو المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة، وبالتعاون مع مفكري المذاهب الإسلامية وعلمائها وفقهائها، إلى إعداد دراسة بحثية علمية لاعتمادها مرجعاً إسلامياً أساساً لكل دراسة تتم عن أي مذهب من المذاهب الإسلامية، على أن تتاح لهم الاستعانة بميادين تنفيذ هذه الاستراتيجية.
ب) تقدير الرأي والرأي الآخر واحترامهما، لضرورتهما وأهميتهما عند الحوار، وحين تبادل الرأي، على أن يسود الحوار العلمي المجرد، كل مواقف عمليات التقريب، وإن أدت إلى الاختلاف، فالاختلاف طبيعي، وليس بمستنكر في إطار قواعد الاختلاف وآدابه. كما أن الدفاع عن الرأي والاستدلال على صحته حقٌّ لكل عالم، والرد المدعم بالدليل العلمي حق أيضاً، وإذا كانت المسألة من المسلمات في القضايا الجدلية والمنطقية، فهي في القضايا والمسائل الفرعية ومجالات الأحكام الاجتهادية، من باب الأولى والأحرى.
ج) الاتفاق على المرجع المبدئي والثابت للتحكيم بين الآراء المتحاورة، وهو الكتاب والسنة النبوية الصحيحة، كما هو مرجع كل المذاهب، والمسلمون متفقون نظرياً على المرجعية الواحدة، لكنهم مع التأثر بالمغريات المادية والوجاهة الدنيوية والدوافع الخارجية لا يلتزمون أحياناً بما تدعو إليه تلك المرجعية، ومرجع التقريب على كل الأحوال : هو الكتاب الكريم، والسنة النبوية الصحيحة، التي ثبتت حجيتها لدى المسلمين على اختلاف مذاهبهم.
د) الاهتمام بإبراز النقاط المشتركة بين المذاهب، لأنها الأهم والأكثر من نقط الخلاف، ولكونها العامل الجامع المشترك بين متعدد المذاهب، ويتحقق هذا الأمرالأساس من خلال ميادين التأليف والنشر، والبحث العلمي، والاستعانة بكل وسائل الاتصال المقروءة والمسموعة والمرئية.
هـ) إذا تغلب الاختلاف على الأفكار والآراء، فلا يجوز أن ينعكس كلياً أو جزئياً على مواقف المسلمين من القضايا العالمية الكبرى، فالاختلافات الفكرية والفقهية تبيَّن بما لا يدع مجالا للشك، أنها كنز اشتهر به الفقه الإسلامي، ولها تاريخ طويل، كما أنها من سنن الله تعالى في خلقه، نتج وينتج عنها تفاعل الحركة العلمية، وتنوع قواعد التشريع، كما نجم عنها النموّ والغنى العلمي والفقهي الذي يباهي به التراث الإسلامي على المستوى الدولي. لذلك لا عيب ولا خطر في الاختلافات الفقهية والفكرية، وإنما الخطر في استثمارها في فصم عرى الإسلام ومخالفة ما جاء به التشريع السماوي، والأخطرمن ذلك على الأمة و الوحدة الإسلامية : هو الاختلاف في مصادر الإسلام الأساس، لأن هذا النوع من الاختلاف، ليس إلا الهوان والخسران، كما يعني وبلا جدل : الضعف و التمزق وهيمنة الأعداء. لذلك فمن أهم أسس التقريب وخطواته العملية، الإسراع بتوحيد هويّة الأمة الإسلامية بتأكيد وحدة مصادرها ومرجعياتها، والحفاظ على أمنها : السياسي، والاجتماعي، والثقافي، والعلمي، والاقتصادي، حتى لا يقوى الاختلاف، ويزداد التمزق، فيسقط حق المسلم في حياة العزة والمجد الذي هو نعمة من نعم الله على عباده المسلمين.
و) النظر بموضوعية إلى القضايا الإسلامية، ذات الأولويات الكبرى، والتركيز عليها دون الدخول في جزئياتها، حتى لا يستفرغ الجهد في الهوامش والجزئيات، ومن أهمها بل ومن أولوياتها الكبرى، مسألة التفريق بين المسلمين، وضراوة التنكيل بشعوبهم، وخطورة العمل على إخراجهم عن دينهم بأعمال التنصير والتهويد والتجهيل واستغلال حاجاتهم المادية في هذا العمل الخطير([10]).
وباعتبار التقريب عملية متواصلة فلابد من استمرارية الحوار المتأني والمتعمق في مسائل التقريب وقضاياه، ويمكن أن تشمل الخطط التنفيذية إقامة ندوات تخصصية، وإحياء حلقات دروس الفقه المقارن، وتنظيم اجتماعات رجالات الفكر وعلماء الشريعة وفقهاء الإسلام والمؤرخين، وذوي الاهتمام من فقهاء مختلف أنحاء العالم الإسلامي، ولتطبيق هذه الوسيلة، يجب أن تُعدَّ خططُ عمل تطبيقية تُعنى بها الجهات المعنية داخل كل تجمع إسلامي، سواء منها ما كان على مستوى البلد الواحد، أو ما هو على مستوى الجاليات والأقليات القاطنة خارج بلدان العالم الإسلامي، بحيث تشمل تلك الخطط والبرامج والأنشطة التعاونية، برامج ثقافة التقريب، يصحبها حملات توعية إعلامية، وحوارات فكرية فقهية تناقش فيها، وبعمق وموضوعية، مسائل التقريب وقضايا توحيد الرأي، شاملة لمجمل قضايا الاختلافات الفقهية والفكرية، ويتم تنفيذها وفق خطة زمنية محكمة، بحيث يبدأ تداولها على المستوى الدولي الإسلامي، في إطارأنشطة المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة، ومن ثم يتم انتقالها وتداولها على المستوى الإقليمي، تليها أنشطة في المجال نفسه، تنفذ على المستوى المحلي، تخطيطاً وتنفيذاً، ومتابعةً وتقويماً.
على أن يسبق ذلك إنشاء: هيئة، أو ــ مجلس ــ، أو ــ جمعية ــ، أو تحت أي من التسميات التنظيمية، في البلدان الإسلامية. وفي مراكز تجمعات المسلمين، بحيث تتحدد مهامها ومسؤولياتها حول قضايا التقريب، على أن تكون تابعة للمنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة هيكلياً، وتنظيمياً، و تحت مسؤولياتها وإشرافها، على غرار الأمانة العامة لاتحاد جامعات العالم الإسلامي، على أن تُعنى بإعداد لوائحها وتحدد مهامها ومسؤولياتها وبرامج عملها وخططها بنفسها وبعد تكوينها، ولها أن تستمد خبرتها ونشاطها وأوليات برامجها وأنشطتها من خلال مقترحات رجالات الفكر والفقه الإسلامي وكتَّابه وعلمائه، بالتعاون والتنسيق مع الدول الأعضاء والهيآت المماثلة القائمة حالياً على الساحة الإسلامية، ولها أن تستعين بالمهام الإجرائية التالية :
1- إعداد برامج العمل التقريبي وأنشطته، واقتراح خطط التنفيذ على مختلف الصعد والمناطق و الموضوعات.
2- دراسة جهود التقريب والعمل على تعميمها على مختلف الدول الأعضاء والهيئات المعنية.
3- التواصل مع المعنيين بالتقريب أفراداً وجماعات، حول كل الأمور والمسائل التي تعنّ للمسلمين في ميادين التقريب ومجالاته، والعمل على إعلام الدول والهيئات المعنية بها للتعاون والتشاور في ذلك.
4- القيام بمهام الإعلام والتعريف والمتابعة الدائمة للجهود الدولية والإقليمية والمحلية المبذولة في مجالات التقريب.
5- اقتراح موضوعات البحوث الإسلامية ذات البعد الهادف الموصل إلى وحدة العالم الإسلامي علماً وعملاً، وفق أهداف التقريب، وبما يخدم ويحقق مقاصد الدين الإسلامي، في ترسيخ وحدته وتأصيل مبادئه، ووحدة بنيه، مع مراعاة الشمولية والتوسع والتحديث فيما يصلح أمر المسلمين كافة، في حياتهم الدينية والدنيوية، وبما يمكنهم من مسايرة الركب الحضاري العلمي، والتقدم التكنولوجي، ويعيدهم إلى مكانتهم التى أرادها الله لأمته، بحيث تتحقق لها صفة الأمة الواحدة، التي ينطبق عليها وصف الرسول : »مثل المومنين في توادهم وتراحمهم كالجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى«([11]).
إجراءات عملية :
في إطار تنفيذ استراتيجية التقريب بين المذاهب الإسلامية، تبرز أهميتها من خلال اتخاذ إجراءات متكاملة متماسكة، على مختلف المستويات الوطنية والإقليمية والدولية، ويأتي في مقدمتها ما يلي :
أولاً : على المستوى الوطني :
1- وضع سياسة وطنية تستهدف التقريب بين المذاهب الإسلامية، تتضمن خططاً عملية، من شأنها أن تساعد المعنيين على إبراز حقيقة الاختلافات الفقهية من منظور إسلامي، باعتباره ظاهرة فكرية، نابعة من منطلقات غير منافية للتشريع الإسلامي، لها جذور إسلامية صحيحة مبررة، وبالذات منها ما كان في المسائل والقضايا الاجتهادية المستنبطة من الأدلة الظنية.
2- إدماج مادة (ثقافة التقريب بين المذاهب الإسلامية) في كل مناهج المراحل التعليمية، وبصورة أخص في المعاهد والمدارس والجامعات الدينية ذات الطابع المتخصص في العلوم الشرعية، ووفق أسس تربوية، والتركيز عليها، في كل مسارات العملية التعليمية، والعناية بها كمادة تطبيقية صفِّية ولا صفِّية أساس يحصل الطالب عند تفوقه فيها على تقدير أعلى في علامات النجاح التعليمي.
3- تكثيف المحاضرات الدورية عن التقريب وثقافته السلوكية، في مختلف المراكز المعنية بالقضايا الثقافية، وفي المعاهد والمؤسسات التعليمية، مع التركيز بشكل أكثر عمقاً على الوحدة الإسلامية، وشرح أسباب الاختلافات الفكرية والفقهية بين المذاهب، والعمل على تبسيط مبرراتها وتوضيح مقاصدها.
4- استغلال المناسبات الوطنية والتجمعات الشبابية المتكررة لتناول مسائل التقريب، والعمل بشتى السبل والوسائل، على نشر ثقافته، والتعريف بأن اختلافات المذاهب لا تعني التباين والتضاد والتفرق، وإنما هي اختلافات اجتهادية ظنية، تدورحول أحكام فروع مسائل وقضايا الفقه الإسلامي، وأنها لا تمت إلى جوهر الإسلام وثوابته.
5- الربط بين أصول الدعوة الإسلامية ومحتوى اختلاف المذاهب والفتاوي الإسلامية وتعدّدها، والدعوة إلى ضرورة انسجام فتاوى العصر مع جوهر الإسلام، وإسنادها إلى مصادر التشريع، لا إلى أقوال ليس لها مرجع من الدين، وخصوصاً حول قضايا الساعة الملحة، الاجتماعية منها والسياسية والاقتصادية.
6-دعوة الكليات والجامعات الإسلامية، لتطوير مناهجها ومقرراتها وفتح آفاق معرفية جديدة، تتمثل في توسيع الدراسات الإسلامية العليا وتطويرها، في إطار التقريب، وتشجيعها على فتح باب الاجتهادات الفقهية، وفق أسسه المعروفة في علم أصول الفقه، بحيث يتسنى لها تخريج المجتهدين والعلماء المبرزين، المتعمقين في الشؤون والقضايا الإسلامية، ومساعدتها على تطوير البحث العلمي المتخصص وتعميقه، وخصوصاً في جوانب الدراسة التي تخدم وتحقق أهداف التقريب بين المذاهب، مع إيلاء مناهج ثقافة التقريب أهمية خاصة في الدراسات الدينية والجامعية وبحوث الدراسات العليا ورسائل الماجستير وأطروحات الدكتوراه، وفي جميع إصداراتها.
7- إيلاء دور الأئمة وخطباء المساجد والوعاظ ورجال الدعوة الإسلامية والصحافيين والإعلاميين اهتماماً خاصاً، والعَمل على تشجيعهم على حمل رسالة التقريب، وتوحيد رؤيتهم الإسلامية نحو المذاهب، ودعوتهم للحدّ من تناول المسائل الخلافية وإثارة النقاش حولها، إلا بما يجعل منها منطلقاً للغنى الفكري والتوسع المعرفي، وبما يخدم مقاصد التشريع، ويؤكد الوحدة الإسلامية.
ثانيا: التقريب في إطار الحوار الإسلامي ــ الإسلامي :
إنَّ التقريب باعتباره وسيلةً من وسائل التقارب والتعايش والتضامن في إطار الأخوة الإسلامية بين جميع عناصر الأمة، يمكن أن يُنظر إليه من زاوية الحوار الذي نعمل على نشر ثقافته وتعزيز دوره في تحقيق التعايش بين الثقافات والحضارات والأديان. ولنا أن نعدَّ التقريبَ شكلاً من الحوار الإسلامي ــ الإسلامي، الذي لا يخامرنا شك أنه أولى في الاعتبار وأسبق في الاهتمام من أيّ حوار خارج الدائرة الإسلامية.
إنَّ الحوار الإسلامي ــ الإسلامي نَمَطٌ رفيعُ المستوى من الحوار الذي أصبح اليوم لغة العصر، نظراً إلى الاهتمام الذي أُعطي له، خصوصاً بعد القرار الذي أصدرته الجمعية العمومية للأمم المتحدة بجعل سنة 2001 سنةَ الأمم المتحدة للحوار بين الحضارات.
ولعلّ من المناسب جدّاً، أن أتوقف هنا، لأذكّر بأن الدعوة إلى الحوار بين الحضارات، إنما انطلقت من هنا، من الجمهورية الإسلامية الإيرانية، على لسان سيادة رئيس الجمهورية السيد محمد خاتمي، متّعه اللَّه بكل خير، الذي وجَّه من على منبر الجمعية العامة للأمم المتحدة، نداءه الشهير، للحوار بين الحضارات على النطاق العالمي وفي إطار الأمم المتحدة، والذي أسَّس مركز حوار الحضارات في طهران، وهي مبادرة رائدة لإشاعة ثقافة الحوار، ولبثّ الوعي الحضاري المستنير في جميع الأوساط.
فالسعي من أجل التقريب بين المذاهب الإسلامية إذن، هو ضربٌ من الحوار الإسلامي ــ الإسلامي، وهو الهدف الأكبر من هذا الحوار داخل البيت الإسلامي الكبير الذي يتوجَّب علينا أن نعمل على تضافر جهودنا لنجعل منه محوراً من محاور العمل الإسلامي المشترك في جميع مستوياته، لأن الخلافات عند كثير من طوائف المسلمين وفرقهم لا ترجع إلى أصول الدين، ولا تمس العقائد التي أوجب اللَّه الإيمان بها، والتي يعدّ الخروج عنها خروجاً عن الدين. لذلك فإن الحوار في هذه الدوائر جائزٌ ومطلوبٌ وظاهرة صحية، فضلاً عن أنه واجب على علماء الأمة وفقهائها، لأن الغاية منه جمعُ الكلمة وتوحيد الصف. وهذا عين التقريب.
فمن خلال الحوار الإسلامي ــ الإسلامي، الذي يهدف أساساً إلى أن يقرب بين الفرق ويدرس أسباب خلافاتها، بعرض هذه الخلافات عرضاً هادئاً دون تأثيرات خارجية أو عصبية، وصولاً إلى تبيُّن الحقّ فيها، وزوال كثير من أسباب الجفوة والقطيعة بين أرباب الدين الواحد، والنبي الواحد، والكتاب الواحد([12]) . إذا قمنا بذلك، فمن الممكن أن يتقارب المسلمون فيعلموا أن هناك فرقاً بين العقيدة التي يجب الإيمان بها، وبين المعارف الفكرية التي تختلف فيها الآراء دون أن تمس العقيدة([13]).
فالدين يأمر برفع الشقاق والتنازع وبالاعتصام بحبل اللَّه، وهذا هو معنى قوله تعالى (واعتصموا بحبل اللَّه جميعاً ولا تفرقوا). وقوله سبحانه ( ولا تنازعوا فتفشلوا)، وقو النبي »لا ترجعوا بعدي كفاراً، يضرب بعضكم رقاب بعض«([14]). وقد خالفنا كلّ هذه النصوص فتفرقنا وتنازعنا، وحارب بعضنا بعضاً باسم الدين، لأننا سلكنا مذاهب متفرقة، كل فريق يتعصب لمذهبه ويعادي سائر إخوانه المسلمين لأجله، زاعماً أنه بهذا ينصر الدين، مع أنه يخذله بتفريق كلمة المسلمين([15]).
ولئن كان التسامح واجباً في الزمن الماضي الذي نشأت فيه المذاهب الإسلامية وسادت فيه الخلافات بين المسلمين، فهو في زماننا أوجب لسببين : الأول أن كثيراً من أسباب الخلاف كان تاريخياً، وقد أصبح في ذمة التاريخ، كالخلاف في أي الصحابة أفضل، والخلاف فيما عمله الصحابة في حروبهم وسيرهم. وقد انقضى كل هذا ودفن في التاريخ، فما لنا نفتح صفحة طواها اللَّه. والثاني أن المسلمين اليوم أحوج ما يكونون إلى الوحدة، لوقوعهم في مشاكل أمام الغرب وأمام أنفسهم لا ينقذهم منها إلاَّ وحدتهم. وليس أسرّ لعدوّهم من فرقتهم، فما بالنا نسيء إلى أنفسنا بفرقتنا، ونُفرح العدوّ بشتاتنا، واللَّه تعالى يقول (واعتصموا بحل اللَّه جميعاً ولا تفرقوا، واذكروا نعمة اللَّه عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً) ([16]).
فالتسامح الذي هو فضيلة كريمة من فضائل الدين الحنيف، هو ثمرة الحوار الإسلامي ــ الإسلامي، أو ذلك ما ينبغي أن يكون. والتسامح يقتضي الرفق في التعامل مع الخلافات، لأن إزالة أسبابها لا تتيسَّر دائماً، والتجاوز عمّا يراه هذا الفريق أخطاء، لأن إقناع هذا الفريق أو ذاك بالإقلاع عن الأخطاء قد يكون متعذّراً. ولذلك وجب أن نتحلّى جميعاً بفضيلة التسامح حتى نصل إلى التقريب فيما بيننا، استجابة للنداء الإلاهي : (واعتصموا بحبل اللَّه جميعاً ولا تفرقوا).
ولقد صدق من قال : إذا كان كلُّ خطأ يرتكبه بعض أبناء مذهب إسلامي داعياً لتكفير أبناء ذلك المذهب كلهم، فعندها لن يبقى هناك مسلم على وجه الأرض !!، ولصار دين اللَّه صعباً ضيقاً، وضاقت رحمته الواسعة، والإسلام أوسع من ذلك ([17]).
ولا يسعني في الختام إلاَّ أن أردّد ما قاله الشيخ السيد رشيد رضا، يرحمه اللَّه : »إن من أعظم ما بليت به الفرق الإسلامية رميَ بعضهم بعضاً بالفسق والكفر، مع أن قصد كلّ منها، الوصول إلى الحقّ بما بذلوا جهدهم لتأييده، واعتقاده، والدعوة إليه، فالمجتهد وإن أخطأ، معذور ...« ([18])..
والمعوّل عليه في نجاح مساعي التقريب، هو إخلاص النية لله تعالى، وإحسان الظنّ بالمسلمين، والعمل المتواصل بالرفق والليّن، وبالحكمة والقول الحسن.
[1] - الموسوعة الإسلامية العامة، ص : 408، المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، القاهرة، 2001 م.
[2] -التقريب بين المذاهب الإسلامية، الجزء الأول، ص : 4، بحوث الندوة الأولى التي عقدتها المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة حول هذا الموضوع، في الرباط : 18 - 16 سبتمبر 1991م، الطبعة الثانية، دار التقريب بين المذاهب الإسلامية، بيروت 2003 م.
[3] - الشيخ محمود شلتوت إمام الأزهر الشريف الأسبق، من حديث أدلى به إلى جريدة (إطلاعات) الإيرانية، نقلاً عن كتاب (دعوة التقريب : تاريخ ووثائق)، ص : 219 وما بعدها، وزارة الأوقاف المصرية، القاهرة، 1991 م.
[4] - الشيخ محمد الحسين آل كاشف الغطاء، مجلة (رسالة الإسلام)، العدد 7، ص : 268.
[5] - استراتيجية التقريب بين المذاهب الإسلامية، ص : 20، نشر المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة، الرباط، 2004 م.
[6] - المصدر نفسه.
[7] - فتوى الشيخ محمود شلتوت إمام الأزهر الشريف الأسبق، معروفة ومتداولة، وقد نشر نصّها في كتاب (دعوة التقريب : تاريخ ووثائق)، ص : 225 ، وزارة الأوقاف المصرية، القاهرة، 1991 م. وفي كتاب (ملف التقريب : عرض لتاريخ جماعة التقريب بين المذاهب الإسلامية بالقاهرة ومجلتها ووثائقها)، د.محمد عليّ آذرشب، طهران، 2000 م. ونشر قبل ذلك في مجلة (رسالة الإسلام) التي كانت تصدر عن جماعة التقريب بين المذاهب الإسلامية في القاهرة، تحت عنوان (فتوى تاريخية)، العدد : 43، ص : 227. وهذه الفتوى التاريخية بحقّ، جديرة بأن يعاد نشرها وتعمّم على نطاق واسع وتترجم إلى لغات الشعوب الإسلامية.
[8] - استراتيجية التقريب بين المذاهب الإسلامية، ص : 21.
[9] - استراتيجية التقريب بين المذاهب الإسلامية، ص : 21.
[10] - استراتيجية التقريب بين المذاهب الإسلامية، ص : 77.
[11] - صحيح مسلم، كتاب البرّ والصلة.
[12] - البيان الأول لجماعة التقريب بين المذاهب الإسلامية، مجلة (رسالة الإسلام)، العدد 1 .
[13] - المصدر السابق.
[14] - رواه البخاري.
[15] - تفسير المنار للشيخ رشيد رضا، الجزء الثاني، صفحة 252، في تفسير قوله تعالي : (ادخلوا في السلم كافة ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدوّ مبين).
[16] - ظهر الإسلام، أحمد أمين، الجزء الرابع، ص : 105، دار الكتاب العربي، بيروت، الطبعة الخامسة، 1969م. ويلاحظ أن هذا الجزء الأخير من (ظهر الإسلام)، قد نشر بعد وفاة المؤلف في عام 1954م، أي أنه كتبه في مطلع الخمسينيات، ترى ماذا كان سيكتب أحمد أمين حول هذه المسألة، لو طال به العمر إلى يومنا هذا ؟.
[17] - حلّ الاختلاف بين الشيعة والسنة في مسألة الإمامة، مصطفى حسيني طباطبائي، ص : 71، ترجمة سعد رستم، الأوائل للنشر والتوزيع والخدمات الطباعية، دمشق، 2002 م.
[18] - تفسير المنار، المجلد السابع عشر، ص : 44، الشيخ رشيد رضا.