تاريخ تشكيل المذاهب الاسلامية واسباب اختلاف الفقهاء
تاريخ تشكيل المذاهب الاسلامية واسباب اختلاف الفقهاء
الدكتور عبدالكريم بي آزار الشيرازي
رئيس جامعة التقريب بين المذاهب الاسلامية
ظهور مدرسة الرأي والحديث
بدء منذ اواخر عصر الصحابة، انفتاح معالم مدرستين، مدرسة الحديث ومدرسة الرأي او مدرسة المدينة ومدرسة الكوفة.
اسباب ظهور الرأي في الكوفة
من وجهة نظر الاحناف: ان الكوفة قامت في منطقة تتلاقي فيها الحضارات والثقافات المتعددة، فالعقلية الكوفية عقلية متحضرة، فهي اذن مزرعة خصبة للرأي.
واختلاف العناصر الاجتماعية كان له اثر كبير في ذلك بالاضافة الى الحضارة الجديدة، وما ينشأ عنها من علاقات، وعقود ومعاملات، جعل فقهاء الكوفة يواجهون من المشكلات والمسائل ما لا عهد لفقهاء الحجاز به وكان لابد لهم من استعمال الرأي. قال الدكتور رواس قلعه جي:
ولم يحلّ الكوفة ففيه في مثل علم ابن مسعود الا على بن ابي طالب(ع) وتخرج على يدي علي بن ابي طالب وعبدالله بن مسعود في الكوفة فقهاء عظام، من اشهرهم:
علقة بن قيس، والاسود بن يزيد، ومسروق بن الأجدع وعبيدة السلماني، وشرين الحارث القاضي، وابووائل شقيق بن سلمة، وابو عبيدة وعبدالرحمن، ابنا عبدالله بن مسعود، وعبدالرحمن بن أبي ليلي و…
ثم بعدهم: ابراهيم النخعي، وعامر الشعبي وسعيد بن جبير، والقاسم ابن عبدالله بن مسعود، والحكم بن عتيبة و…
ثم بعدهم: ابراهيم النخعي، وعامر الشعبي وسعيد بن جبير، والقاسم ابن عبدالله بن مسعود، والحكم بن عتيبة و..
ثم بعدهم: حماد بن ابي سلمان و سليمان بن المعتر، وسليمان الأعمش و..
ثم بعدهم: محمد بن عبدالرحمن ابن ابي ليلى، وعبدالله بن شرمة، والثوري، وابو حنيفة، والحسن بن صالح بن حي.. وغيرهم ([1]).
فلما افرطوا بعض فقهاء الكوفة في الرأي واختلفوا في الرأي ذمهم امير المؤمنين علي(ع) وقال: (ترد على احدهم القضية في حكم من الاحكام فيحكم فيها برأيه، ثم ترد تلك القضية بعينها على غيره فيحكم فيها بخلافه ثم يجتمع القضاة بذلك عند الامام الذي استقضا فيصوب آراءهم جميعاً وإلههُم واحد ونبيهم واحد وكتابهم واحد)([2]).
قال الدكتور رواس قلعه جي:
كان ابراهيم النخعي وهو الذي أجمع علماء الجرح والتعديل على ضبطه وعدالته بل يعتبر من رجال اصح الاساتيد، تلميذاً ومريداً لعلقمة بن قيس النخعي: تابعي مشهود ومازال ابراهيم ملازماً له، حتى مات في الكوفة سنة 62 هـ لقد شهد علقمة الفتنة الكبرى في صفين، فوجد الحق في جانب امير المؤمنين علي بن ابي طالب (ع) فانحار الى الحق وكان معه.
وقد اثر هذا الفكر السياسي في ابراهيم النخعي فقيه الكوفة بلا منازع في عصره([3]). فنشأ وهواه مع آل بيت رسول الله(ص).
فابراهيم النخعي محب لآل بيت الرسول ومنهم علي بن ابيطالب (ع) خاصة، ويعتقد ان الخليفة الشرعي هو علي بن ابي طالب، ولذلك عدّ ابن قتيبة. ابراهيم النخعي من الشيعة([4]) فان كان التشيع هو هذا – حب آل البيت – فهو من الشيعة، بل كان كثير من معاصري نخعي من علماء اهل السنة على هذا([5]). وكلهم نقلوا روايات كثيرة عن الامام علي(ع) ([6]).
اختلاف الفقهاء بسبب الاختلاف في الخلافة
كان الفقهاء في هذا العصر بسبب الاختلاف في الخلافة اربع طوائف:
1. الشيعة: وهم جماعة من المسلمين تشيعوا لآل بيت الرسول(ع) يتفقون على ان النبي(ص) عين علياً للامامة.
2. الزيدية: اتباع زيد بن علي بن الحسين(ع) وهو قائل بأن علياً افضل الصحابة على الاطلاق الا ان الخلافة فوضت الى ابي بكر لمصلحة المسلمين.
3. الاباضية: اتباع جابر بن زيد العماني، تلميذ ابن عباس وموقفهم رفض غلاة الخوارج والالتزام بالاعتدال في الفكر([7]).
ولا تزال لها بقية حتّى اليوم في عمان والجزائر وشرقي إفريقية.
4. اهل السنة والجماعة وهم اتباع الصحابة والخلفاء.
كان لهذا الاختلاف في الخلافة أثره في الفقه، وهناك امور اخرى لها تأثير كبير في حياة المسلمين، التشريعية:
ــ منها تفرق الصحابة في الامصار فنتج عن ذلك تشعب الآراء واختلاف و القضاء والفتياء في المسألة الواحدة.
- ومنها إبتعاد الأمويين عن الدين وسنة رسول الله والخلفاء الراشدين، بعنوان المثال نقل الامام الفخر الرازي ان علياً عليه السلام كان يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم، فلما وصلت الدولة الى بني امية بالغوا في المنع من الجهر، سعياً في ابطال آثار علي(ع) ([8]).
وقد نتج عن ذلك اعتزال العلماء من الصحابة والتابعين واتجهوا الى تأسيس علم الفقه الذي يقوم على الكتاب والسنة وكان هذا بدء سير الفقه في الاتجاه النظري([9]). وظهور المذاهب الفقهية.
اهم المذاهب الفقهية الباقية الى اليوم
مذاهب الشيعة وهي: الزيدية والامامية والاسماعيلية.
ومذاهب اهل السنة: المذهب الحنفي، والمذهب الشافعي والمذهب المالكي والمذهب الحنبلي.
وهناك مذاهب اندثرت: كمذهب الاوزاعي، والثوري، والليث بن سعد، والمذهب الظاهري والمذهب الطبري. كما يوجد المذهب الدرزي والمذهب الاباضي المعتدلة.
وقد رأى بعض المفكرين من علماء اهل السنة أن مجموعة المذاهب الاجتهادية، يجب ان تعتبر كمذهب واحد كبير في الشريعة الاسلامية وعلى علماء الامة ان يرجحوا ويختاروا من تلك الآراء للتقنين، ماهو أوفى بالحاجة، وما تقتضية المصلحة في كل زمان ومكان.
قال بدران، ابو العينين، بدران: وهذا رأي سديد جدير بالاعتبار([10]).
على انه من المستحسن الا يقصد بتوحيد المذاهب جعلها مذهباً واحداً، بل يقصد منع التقليد الاعمى والتعصبات المذهبية، والسعي للتقريب بين المذاهب المختلفة وبين اتباعها، حتى يحصل الاقتباس المتبادل عند الاقتضاء([11]).
الفقه الامامي
الفقه منسوب الى الامام علي بن ابيطالب(ع) وساير الائمة الاثنى عشرية التي تتبلور في جعفربن محمد بن علي بن الحسين بن علي(ع) (147هـ) وقضى ستة وستون سنة في الدفاع عن الاسلام ونشر تعاليمه وظلت تعاليمه اكثر من ثلاثين سنة بعد وفاة ابيه الامام محمد بن علي سنة 117هـ ، يقول الشهرستاني عن الامام جعفر الصادق(ع): (كان ذا علم غزير في الدين، وأدب كامل في الحكمة)([12]) وكان الامام الصادق(ع) على صلة بفقهاء الاسلام في الامصار وقد اقام بالمدينة فترة ثم ذهب الى العراق واقام بها مدة.
ومع ان مؤلفات الشيعة تعرضت للتلف منذ عهد السلاجقة ثم الايوبين، بقيت بعض اصولهم في خزائن الكتب.
وكان منهج الامام الصادق في الفقه كمنهج ساير الائمة (ع) في الاخذ بكتاب الله وسنة رسوله، عن طريق آپائه، ويوضح ذلك قوله(ع):حديثي، حديث ابي، وحديث ابي حديث جدّي، وحديث جدي، حديث الحسين وحديث الحسين، حديث الحسن وحديث الحسن، حديث امير المؤمنين وحديث امير المؤمنين حديث رسول الله(ص) وحديث رسول الله)(ص) قوله الله).
اما القياس الظنّي والمستنبط العلة فقد رفضه الشيعة والنظام والظاهرية. وقال الشيعة والشافعية والظاهرية: الاستحسان ليس بحجة وقال الشافعي: من استحسن فقد شرّع، ([13]) اي ابتدع شرعاً من عنده ولا يجوز الحكم الا بالنص او بالقياس على النص لان في غير ذلك شرعاً بالهوى([14]). والله تعالى يقول: (وان احكم بينهم بما انزل الله ولا تتَّبع اهوائهم) (المائدة/ 49).
ولا يفترق فقه الامامية من فقه جمهور اهل السنة الا في بضع عشرة مسألة. وقد اسس فقه الامامية في ايران، ابو جعفر محمد بن الحسن بن فرويح الصفار القمي، وقد توفي سنة 290 هـ وقد كتب كتابه: (بشائر الدرجات) لكن تستطيع ان تقرر ان اول كتاب في فقه الشيعة هو الامام موسى الكاظم (م183 هـ) وهو اجابات عن مسائل وجهت اليه تحت اسم: (الحلال والحرام)([15]).
انتشار المذهب الامامية
ان الامامية من اهم فرق الشيعة المعتدلة ويقدر اتباعها بنحو 1/5 المسلمين في ايران وباكستان والهند، والعراق ولبنان وسوريا وساير انحاء العالم ومذهب الامامية هو مذهب الدولة في ايران فتيا وقضاء وشرعياً، وذلك منذ سنة 907 وعند بدء الدولة الصفوية،/ وقد جرت في القرن الثامن عشر الميلادي محاولات عديدة في ايران لتوحيد المذاهب السنية والشيعية، ولايزال العمل بالمذهب الجعفري في لبنان بالنسبة للجعفرية، ولَه محاكم خاصة بهم وتسمى المحاكم الجعفرية([16]).
قال بدران ابو العينين بدران عالمية من درجة استاذ في الشريعة الاسلامية: (كانت المذاهب الشيعية من امامية وزيدية يقضي بها حين كان السلطان للشيعة في المشرق، وعندما نشأت الدولة الفاطمية في المغرب، واستولت على مصر والشام، يقول ابن خلدون في المقدمة (انقرض فقه اهل السنة بمصر بظهور دولة الشيعة، وتداول بها فقه آل البيت، وتلاشي فقه من سواهم).
بعد انتهاء الدولة الفاطمية زال سلطان الشيعة من غرب بغداد، ولكن بقيت طوائف لهم تتقاضى فيها بينها بمذاهب الامامية بالمشرق، بل صار انتشار مذاهبهم واسع الدي في بلاد ما وراء النهر وما جاورها، حتى عاد المذهب قوياً في طوائف من الهند وفي بلاد ايران وطوائف من بلاد العراق، وسوريا ولبنان)([17]).
الفقه الزيدي
منسوب الى زيد بن علي زين العابدين بن الحسين بن علي بن ابي طالب(ع)، الذي تطلع الى الاصلاح، والذي قدم الكوفة فبايعه أهلها على التمسك بكتاب الله وسنة رسوله، وجهاد الظالمين ورد الظالم وكان من بين البايعين جماعة من الفقهاء، فيهم ابوحنيفة الذي حث الناس على الخروج مع زيد وقال: ان خروجه يضاحي جدّه يوم بدر([18]).
انه لم يدع الامامة لنفسه، انما كان خروجه للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وكان معروفاً بالكمال، عالماً بعلوم القرآن، ووجوه القراءات، وابواب الفقه، ولا عجب فهو حفيد الامام الحسين(ع) ريحانة رسول الله([19]).
وكان يقول: ان علياً هو افضل الصحابة على الاطلاق، الا ان الخلافة حين فوضت الى ابي بكر فوضت لمصلحة المسلمين.
والفقه الزيدي لا يختلف كثيراً عن الفقه الشيعة الامامية([20]) وتشارك الامامية في الخمس، وفي كثير من العبادات والفروض فمثلاً في الاذان يقولون (حي على خير العمل) ويكبرون خمس تكبيرات في صلاة الجنازة لا اربعاً، ولا يجيزون المسح على الخفين، ويعتبرون صلاة التراويح جماعة بدعة، ويرفضون الصلاة خلف التاجر، ويحرسون تزويج الكتابيات وأكل ذبيحة غير المسلم.
ومن أصول المذهب الزيدي اشتراط الاجتهاد وفي ائمتهم، ولذلك كثر فيهم الائمة المجتهدون، كما يوجبون على المسلمين الاجتهاد، فان عجز المسلم عن الاجتهاد، جاز له التقليد، وتقليد اهل البيت اولى من غيرهم، وايضاً يوجب الخروج على الحاكم الظالم وأنه لا تجب طاعته.
من اهم كتب الزيدية: مجموع الامام زيد، كتاب البحر الزخار، الجامع المذاهب علما والامصار، للامام احمد بن يحيى (م 840 هـ).
وقد انقسمت الزيدية الى عدد ومن الفرق: اهمها:
1. الجارودية: (اصحاب ابي جارود).
2. السليمانية (اصحاب سليمان بن جرير).
الفقه الاباضي([21])
جابربن زيد (م 93هـ) مؤسس مذهب الأباضية الذي ينسب عادة الى عبدالله بن أباض التميمي (م 80هـ).
كان جابر بن زيد من العلماء التابعين تتلمذ على ابن عباس، واصول فقه الاباضيه كأصول المذاهب الاخرى المعتمدة على القرآن والسنة والإجماع والقياس.
وهم يتبرؤون من غلاة الخوارج ويلتزمون بالاعتدال في الفكر بل بعض عقائدهم شبيه بعقائد الامامية، مثلا يعتقدون بالولاية والبراءة وبجواز التقيه في الاقوال وبأن صفات الله هي عين الذات كما انهم كالشيعة بنفيهم رؤية الله عزوجل في الآخرة. وهكذا في المسائل الفقهية مثلا.
1ـ عدم جواز المسح على الخفين.
2- اسبال الايدي في الصلاة.
3- القول بافطار من اصبح جنباً في رمضان.
4- تحريم ذبائح اهل الكتاب.
5- وابعد الاجلين لعدة الحاملة.
ومايزال مذهبهم قائما في سلطنة عمان وفي شرق أفريقيا والجزائر وليبيا وتونس([22]) سئلت عن الشيخ محمد الخليلي، مفتى الاباضية عن التقارب بين الفقه الاباضي والامامية، فقال ان لدنيا قاعدة: اذا دار الامر بين نظرية الامام علي كرم الله وجهه ونظرية ساير الاصحابة، نرجح نظرية الامام علي كرم الله وجهه.
ومن اهم كتبهم في الفقه (شرح النيل وشفاء العليل)، لللشيخ محمد بن يوسف بن اطفيش 17 جزءاً وقاموس الشريعة للسعدي، 90 جزءاً والمصنّف للشيخ احمد بن عبدالله الكندي، 42 جزءاً ومنهج الطالبين للشيخ الشقصبي، 20 جزءاً والايضاح، للشيخ الشماخي وجوهر النظام للشيخ السالمي، والجامع لابن بركه في جزئين.
الفقه الحنفي
الفقه الحنفي منسوب الى ابي حنيفه (80 – 150هـ).
وهو النعمان بن ثابت بن كاوس بن هرمز. ينتسب الى تيم بالولاء الفقيه المجتهد احد الائمة المذاهب الاربعة، قيل: اصله من ابناء فارس، ولد ونشأ بالكوفة كان يبيع الخز ويطلب العلم، ثم انقطع للدرس والافتاء.
له (مسند) في الحديث؛ و(المخارج) في الفقه، وتنسب اليه رسالة (الفقه الاكبر) في الاعتقاد ورسالة (العالم والمتعلم)([23]).
وقد جالس ابو حنيفة العلماء واخذ عنهم ولزم شيخه حماد بن ابي سليمان نحواً من 18 سنة الذي تلقي الفقه عن ابراهيم النخعي والشعبي، وعنهما اخذ فقه شريح القاضي، وعلقمة ابن قيس ومسروق بن الاجدع، واولئك تلقوا العلم عن عبدالله بن مسعود، وامام الهدى علي بن ابي طالب(ع) ([24]).
وحجة الله الدهلوي (احمد عبدالرحيم) الذي لاحظ كثرة موافقة ابي حنيفة لابراهيم النخعي قال:
(كان ابو حنيفة الزمهم بمذهب ابراهيم واقرانه وان شئت أن تعلم حقيقة ما قلناه فلاحض اقوال ابراهيم واقرانه من كتب الآثار وجامع عبدالرزاق ومصنف ابن ابي شيبة، ثم قايسه بمذهب ابي حنيفة، تجده لايفارق تلك المحجة الا في مواضع يسيرة([25]).
وفي عهد العباسيين، استحضره ابو جعفر العباسي الى بغداد، وعرض عليه ان يوليه القضاء، فرفض فحبسه وعذّبه وامر بضربه كل يوم عشرة اسواط حتى أشرف على الهلاك وتوفى سنة 150 هـ ([26]).
قال الدكتور محمد علي االبار: كان الامام ابوحنيفة من اشد الناس حبّاً لآل بيت رسول الله وقد تتلمذ لمجموعة من أعلام البيت النبوي منهم الامام محمد الباقر(ع) واخيه الامام زيد بن علي لمدة سنتين وكان من مناصريه ومؤيديه([27]).
عمل تقريبي لاصحاب ابي حنيفة:
1ـ ابو يوسف: هو يعقوب بن ابراهيم الانصاري من ولد سعد بن حنبه الصحابي (112 – 183هـ) ولما شب اشتغل برواية الحديث، وتفقه اولاً بابن ابي ليلى، ثم انتقل الى ابي حنيفة، فكان اكبر تلاميذه وافضل معين له.
قال ابن عبدالبر: كان كثير الحديث لكن غلب عليه رأي ابي حنيفه.
وهو اول من صنف الكتاب في مذهبه ونشر علمه في جميع الاقطار، فانه لما اسند اليه منصب قاضي قضاة الدولة العباسية، راجعة اليه في جميع ولايات الدولة، لم يكن يستعمل على القضاء الا من كان حنفياً وفي هذا نشر للمذهب وتأييد له.
ويقال انه اول من اتخذ للعلماء زيّاً خاصاً وكان ملبوس الناس قبله شيئاً واحداً.
رَحَلَ ابو يوسف الى مالك واخذ عنه بعد أن ناظره في مسائل ثم رجع الى العراق وقد افاد الى علمه علم الحجازيين، فكان اول من قرب بين المذهبين وازال الوحشة بين العراقيين والحجازيين. وقد عده اهل الحديث محدثاً وأثنوا عليه([28]).
محمد بن الحسن بن فرقد الشيباني وكان ابو الحسن من الشام، وقد الى العراق فولد له محمد بواسط سنة 112 هـ (ونشاء بالكوفة وطلب الحديث، وسمع من مسعر ومالك والاوزاعي والثوري، وصحب ابا حنفية، واخذ الفقه عنه، وعن ابي يوسف، وكان ذا عقل وفطنة، فنبغ نبوغاً كثيرة، حتى صار مرجع الحنفية في حياة ابي يوسف.
وقد رحل الى المدينة، واخذ عن مالك، وله رواية خاصة في الموطأ، وقابلهُ الشافعي ببغداد وقرأ كتبه وناظره في كثير من المسائل ولهما مناظرات قيمة مدونة في كتب الشافعي، وقد كان للقائه مالكاً ومناظراته مع الشافعي أثر في اجتهاده واستنباطه، وهو الذي نشر علم ابي حنيفة بتصانيفه، وعلى كتب محمد بن الحسن يعتمد الحنفية في المذهب، ولاه الرشيد القضاء وخرج معه في سفره الى خراسان، فمات بالري ودفن بها سنة 198هـ ([29]).
من أهم آثاره كتاب الحجة على اهل المدينة، يعد هذا الكتاب من اقدم معروفات الفقه والتقريبي بمعناه العلمي الدقيق([30]).
ومن الثابت ان ابا يوسف ومحمد رجعا عن آراء كثيرة رآها ابوحنيفة لما اطلعا على ماعند اهل الحجاز.
انتشار المذهب الحنفي
كان المذهب الحنفي أكبر المذاهب حظاً من جميع المذاهب الاخرى، فقد كان المذهب الغالب في العراق ايام العباسيين، كما كان المذهب الرسمي للدولة العثمانية وعنه أخذت مجلة الاحكام العدلية، وكان ايضاً مذهب الامارة في تونس قبل الغائها.
ولايزال المذهب الحنفي الى اليوم مذهب مصر، سوريا، لبنان، الاردن والعراق.
كما انه المذهب الغالب في تركيا والبلقان والقوقاز وافغانستان وباكستان وتركستان وآسيا الوسطى، وعند مسلمي الهند والصين، وله اتباع كثيرون في كثير من البلدان كشمال ايران ويؤلف اتباعه اكثر من ثلث المسلمين في العالم، ويقدر عددهم بمائة وثمانين مليوناً تقريباً. كما يوجد بأمريكا الجنوبية حوالي 25 الف مسلم حنفي([31]).
الفقه المالكي
منسوب الى مالك (93 – 179 هـ) وهو مالك بن انس بن مالك الأصبحي الانصاري، احد الائمة الاربعة عند اهل السنة اخذ العلم عن الامام الصادق(ع) ونافع والزهري وربيعة الرأي وكان مشهوراً بالتثبت والتحري ولا يبالي ان يقول: (لا ادري). اشتهر في فقهه باتباع الكتاب والسنة وعمل اهل المدينة.
كان رجلاً مهيباً: وجه اليه الرشيد ليأتيه فيحدثه فأبى وقال: العلم يؤتى، فأتاه الرشيد وقد امتحن قبل ذلك، فضبه امير المدينة مابين ثلاثين الى مائة سوط ومدت يداه حتى انحلت كتفاه لانه استفتى من الخروج مع محمد النفس الزكية بن عبدالله بن الحسن بن الحسن بن علي(ع) وقيل له: ان في اعناقنا بيعة المنصور العباسي فقال: انما بايعتم مكرهين وليس على مكره يمين)([32]).
قال السيد محمد رشيد رضا: نقل المورخون ان مالكا لم يزل بعد ذلك الضرب في علو ورفعة، وكأنما كانت تلك السياط حلياً به([33]).
من تصانيفه: (الموطأ) و(تفسير غريب القرآن)؛ وجمع فقهه في (المدونة) وله (الرد على القدرية). و(الرسالة) الى الليث بن سعد([34]).
صنف مالك كتابه (الموطأ) في الحديث وبوبه على ابواب الفقه جمع فيه ما قوي عنده من حديث اهل الحجاز، واضاف اليه أقوال الصحابة وفتاوى التابعين، وقد عمل فيه تأليفاً وتهذيباً نحو اربعين عاماً([35]).
روى عن مالك ان اباجعفر المنصور قال له: خذ بقول ابن عمر و ان خالف علياً وابن عباس([36]).
اراد غير واحد من الخلفاء حمل الناس عليه ليكون مرجعاً واماماً لهم فقد اراد ذلك المنصور، ثم المهدي، ثم الرشيد، لكن مالك كان يرفض ذلك، وقال: أما حمل الناس على الموطأ فليس الى ذلك سبيل، لان اصحاب رسول الله(ص) تفرقوا بعده في الامصار محدّثوا، فعند اهل كل مصر علم، وقد قال رسول الله(ص) (اختلاف امتي رحمة)([37]).
انتشار المذهب االمالكي
لقد نشأ المذهب بالمدينة وانتشر في الحجاز، ثم اختص به اهل المغرب، والاندلس وقد دخل المذهب الى مصر في حياة مالك وبلاد تونس والجزائر وطرابلس الغرب وموريتانيا ونيجريا والسودان والكويت والبحرين وله أتباع ايضاً في ساير البلاد الاسلامية.
الفقه الشافعي منسوب الى الشافعي (150 – 204هـ)
وهو محمد بن ادريس بن العباس من بني المطلب من قريش، احد ائمة المذاهب الاربعة ولد في غزه من بلاد فلسطين عام 150هـ ، وهي السنة التي مات فيها ابوحنيفة.
فمات ابوه هناك وبعد سنتين حملته امه الى موطن آبائه مكة، فنشأ بها يتيماً، فحفظ القرآن، ثم خرج الى البادية فحفظ الشعر واللغة ثم رجع لطلب الحديث والفقه. وحفظ موطأ مالك وهو ابن عشر سنين وعرفه عنه وقرأه بين يديه.
ثم رحل الى المدينة واستأذن مالكاً في تلقي العلم علمه. بقي الشافعي ملازماً مالكاً نحو تسع سنين حتى عدَّ من اصحابه، ولما مات مالك سنة 179 هـ، انتقل الشافعي الى اليمن مع واليها واشتغل في ولاية نجران ليعيش من كسبه وليتلقى عن شيوخها ما تلقوه عن الليث بن سعد فقيه مصر، وعن الأوزاعي فقيه الشام ولما كانت اليمن مهداً للشيعة فنسبوه بالتشيع، فقال:
لو كان حب آل محمد رفضاً فاعلموا ايها الثقلان اني رافضي
وقد سبق الشافعي مكتباً بالحديث من صنعاء الى بغداد ليمثل بين يدى الرشيد لمسائدته احد العلويين من أبناء فاطمة للثورة ضد حكم الرشيد([38]). ثم صحبه في العراق محمد بن الحسن الشيباني في بيته فدرس الشافعي فقه العراقيين، وبذلك يكون قد اجتمع له علم اهل الرأي وعلم اهل الحديث، وخرج بين الاتجاهين وخرج من هذا المزيج بمذهب خاص اقامه على قواعد واساس اصولية وخاصة انه وضع اسس علم الاصول بعد ان رحل ثانية الى مكة. وفي سنة 195 هـ رحل الى بغداد فالتفت حوله العلماء، وقدم لهم الادلة على حجية خبر الآحاد وعرف بين الناس من يناصر الحديث واملي في هذه الفترة كتابه المعروف بـ (الأم) وكتابه في الاصول المعروف بـ (الرسالة).
وفي سنة 199هـ ، شد الرحال الى مصر واخذ يلقى دروس الفقه والحديث واللغة بمسجد بالفسطاط، وبقي الشافعي بمصر وتأثر فقهه بما شاهد فيها من عادات فكوّن مذهباً جديداً ومات الشافعي بمصر ودفن بها سنة 204هـ .
اعجابه بالامام علي(ع)
ولقد قال الشافعي من علي(ع) : (وكان علي كرم الله وجهه قد خصّ بعلم القرآن والفقه لأن النبي(ص) دعاه وأمره ان يقضي بين الناس وكانت قضاياه ترفع الى النبي(ص) فيقضيها).
وقد قيل لاحمد بن حنبل أن يحيى بن معين ينسب الشافعي الى الشيعة، فقال احمد ليحيى بن معين: كيف عرفت ذلك. فقال يحيى: نظرت في تصنيفه في قتال اهل البغى فرأيته قد احتج من اوّله الى آخره بعلي بن ابي طالب فقال احمد متعجباً: (يا عجباً لك: فان علي أول من ابتلى من هذه الامة بقتال اهل البغى).
فخجل ابن معين([39]).
انتشار المذهب الشافعي
يغلب مذهب الشافعي على اهل مصر والاردن وسوريا ولبنان وفي العراق والهند الصينية، ويوجد كثير من أتباعه في ايران، ويمن السنيين، وهو المذهب الغالب في اندونيسيا، وجزيرة سيلان وجزائر الفليبين، وجاوه وكذا يوجد في الحجاز والهند وباكستان. قال سنوك هور فرونية: (فقد ابدلوا اشراف مكة اعترافهم بالمذهب الشيعي لصالح المذهب الشافعي الذي هو مذهب السواد الاعظم من مواطنيهم فقد بقى سكان غرب الجزيرة يتبعون المذهب الشافعي وفي اليمن ساعد اضعاف نفوذ الائمة الزيدية – حكام اليمن – على انتشار المذهب الشافعي اما في حضرموت فالمذهب السائد هو المذهب الشافعي ايضاً. وفي البحرين ينتشر المذهب الشافعي بصورة جزئية وفي الوجه البحري في مصر تغلب المذهب الشافعي على جميع المذاهب الاخرى وهناك انتشار واسع للمذهب الشافعي في سواحل الهند (ملييار وكورماندل وارجنيل الملا يو و داغستان) ([40]).
الفقه الحنبلي منسوب الى احمد بن حنبل (164-241هـ)
هو احمد بن محمد بن حنبل الشيباني، ابو عبدالله، من بني هذيل بن شيبان الذين ينتسبون الى قبيلة بكربن وائل. امام المذهب الحنبلي، واحد ائمة الفقه الاربعة. اصله من مرو وولد ببغداد.
له (المسند) وفيه ثلاثون ألف حديث؛ و(المسائل)؛ و(الاشربة) و(فضائل الصحابة) وغيرها([41]).
لم يتهم الشافعي بالتشييع فحسب، ولكن احمد ابن حنبل ايضاً اتهم به وذلك لحبه الشديد للامام علي(ع) ولانه اورد في فضائله في كتابه المسند مالم يذكره عن اي صحابي آخر. ولنفيه ان معاويه كتب الوحي، وقال انما كتب رسالة من الرسائل للنبي(ص) عند ما الح عليه في ذلك ابوسفيان([42]).
انتشار المذهب الحنبلي
كان المذهب الحنبلي اقل المذاهب السنية انتشاراً، وقد انتشر أولاً في بغداد، ثم في خارج العراق بعد القرن الرابع، واخيراً دخل مصر في القرن السادس الهجري، وابن تيمية وابن القيم ابتدءا بهما تجديد المذهب.
وهو اليوم مذهب الدولة في المملكة العربية السعودية، وله ايضاً أتباع في باقي جزيرة العرب، وفي فلسطين والشام والعراق([43]).
نشأة علم الخلاف
وجد علم الخلاف منذ نهاية القرن الأول الهجري عند ماظهر الخلاف بين مدرستي اهل الرأي واهل الحديث وثار الجدل بينهم ولابد لصاحبه من معرفة القواعد التي يتوصل بها الى استنباط الاحكام. لكن ظهر بالمقابل الى الوجود الفقه المقارن الذي حل محل علم الخلاف.
نتائج المقارنات
1ـ مجال الترجيح
قال جعفر بن الحسن المعروف بالمحقق الحلي المتوفى سنة 676 هـ في احدى وصاياه (وأكثر من التطلّع على الأقوال لتظفر بمزايا الاحتمال واستنفض البحث عن مستند المسائل لتكون على بصيرة في ما تتخيّره)([44]).
2- ترجيح العمل بالحديث المخالف للمذهب
قال عزالدين بن عبدالسلام ومن العجب العجيب ان الفقهاء والمقلدين يقف احدهم على ضعف مأخذ امامه، وهو مع ذلك يقلد فيه ويترك من شهد له الكتاب والسنة جموداً على تقليد امامه فحينئذ لاسبب لمخالفة حديث النبي(ص) الا نفاق خفي او حمق جلي([45]).
3- التلفيق بين المذاهب الفقهية
القائلون بجواز التلفيق: منهم قالوا به على الاطلاق. ومنهم بشروط وقد عبر عن عملية التلفيق هذه في كتب الفقه الامامي بالتبعيض، وفي ذلك يقول آية الله السيد كاظم اليزدي وساير فقهاء الامامية.
(اذا كان هناك مجتهدان متساويان في العلم كان للمقلد تقليد ايهما شاء و يجوز التبعيض في المسائل)([46]).
4- التقريب بين المذاهب الفقهية
قال الشيخ محمود شلتوت والشيخ محمد علي السايس: ان المقارن بين المذاهب في جزئيات المسائل اذا ادرك منشأ الخلاف ثم وقف على ماورد في المسألة وعرف دلالة الالفاظ وقدّر روح التشريع وكل هذا قد صار بفضل جهود المتقدمين في اللغة والحديث واسرار التشريع سهلاً ميسوراً متى ادرك هذا فانه بمعونة الله يصل الى مقارنة مثمرة قد يكون من ورائها تقريب هوة الخلاف او ترجيح الاقرب الى الحق([47]).
5- جواز العمل بغير المذاهب الاربعة
وفي ذلك يقول الدكتور عبدالرزاق السنهوري: لاموجب للتقليد بالمذاهب الاربعة المعروفة. هناك مذاهب اخرى كمذهب الامامية والزيدية يمكن الانتفاع بها الى حد بعيد.
وقال الدكتور يوسف القرضاوي: والاولى بالمعنى المعاصر: ان يخرج بالناس من سجن المذهبية الضيقة الى باحة الشريعة الواسعة، بمافيها المذاهب المتبوعة، واقوال علماء الصحابة، وائمة الهدى، وهم شيوخ الجميع بلا منازع، وهم الذين تخرجوا في مدرسة النبوة، وربوا في مجري الرسالة، مع فطرة نقية وانفس زكية وقلوب مشرقة بنور الايمان وهم سليقي للغة العرب، فلا غرو أن يكونوا أقرب من بعدهم الى الاهتداء الى الحق والصواب([48]).
استحباب الخروج من الخلاف
او مراعاة الخلاف باجتناب ما اختلف في تحريمه وفعل ما اختلف في وجوبه وهذا ما يسمى في الامامية بالعمل الاحتياط.
قال الشيخ محمود شلتوت والشيخ علي السايس: (ومما تقدم يتبين ان المقارنة واجبة وأن العمل بثمرتها واجب لا يحول دون ذلك شيء من مقالات المتأخرين التي لم يقم دليل على صحتها.
والمقارنة فوق ذلك سبيل للوقوف على مسالك الائمة في الاجتهاد وطريق لمعرفة ما تطمئن النفس من الاحكام وقد شعرت حكومتنا المصرية بالحاجة الى العمل بآراء بعض الفقهاء غير الحنفية وقد رجت في الاخذ بها حتى وضع تعديل سنة 1929م وتضمن العمل بكثير من غير مذهب الحنفية بل من مذاهب لغير الائمة الاربعة وقد خطا القانون الشرعية بهذا التعديل خطوة واسعة الى الامام وكان قائد هذه الحركة المباركة الاستاذ المصلح الكبير المرحوم الشيخ المراغي شيخ الازهر([49]).
اسباب اختلاف الفقهاء
اتفقوا فقهاء المذاهب على أن الاصل الذي لا يعدل عنه في التشريع هو كتاب الله، ثم سنة الرسول(ص) والمجتهدون يبذلون غاية جهدهم في الوصول الى ما يدل عليه القرآن أو السنة أو هما معاً وعلى الرغم من هذا وقع بين الفقهاء اختلاف في استنباط بعض الاحكام مع ان الدين والشرع والحق واحد لا يتعدد والمصدر هو الوحي الالهي، فلماذا التعدد والاختلاف بين آراء الفقهاء؟
ان اختلاف الفقهاء ليس في النصوص والادلة القطعية التي تدل على الحكم يقيناً كالقرآن والسنة المتواترة أو المشهورة بل هو مسائل ليست منصوصاً أو ضرورياً كما هو الشأن في تفسير نصوص القوانين واختلاف الشراح فيما بينهم، وذلك أما بسبب طبيعة اللغة المجملة او المحتملة الفاظها أحياناً اكثر من معنى واحد وإما بسبب رواية الحديث قوة وضعفاً وإما بسبب التفاوت بين المجتهدين في كثرة أو قلة الاعتماد على مصدر تشريعي أو لمراعاة المصالح والحاجات والأعراف المتجددة المتطورة أو لشرائط الزمان والمكان في الاحكام الغير الثابتة.
ومنبع الاختلاف: هو تفاوت الافكار والعقول البشرية في فهم النصوص واستنباط الاحكام، وادراك أسرار التشريع وعلل احكام الشرعية.
وذلك كله لا ينفي وحدة المصدر التشريعي.
واهم اسباب الاختلاف بين المجتهدين هو ما يأتي:
1- تردد اللفظة المفردة بين معنيين حقيقيين:
ككلمة (قُرء) في قوله تعالى لعدة المطلقات ذوات الحيض: (والمطلّقات يتربّصن بأنفسهنّ ثلاثة قروء).
فانها مشتركة بين الحيض والطهر. مذهب الامامية والشافعية والمالكية الى ان المراد هو الطهر وقالوا ان عدة المطلقة المذكورة تحسب الأطهار وذهب الحنفية والحنابلة الى ان المراد هو الحيض وعليه فعدة المطلقة المذكورة تحسب بالحيض وقد اكثر كل فريق من استظهار القرائن التي تدل في نظره على ان المراد من الكلمة هو المعنى الذي ذهب اليه.
2- تردد اللفظة المفردة بين المعنى الحقيقي والمعنى المجازي:
مثاله قوله تعالى: (او ينفوا من الأرض)([50]) الواردة ضمن عقوبات المحاربين، فقد حملها الجمهور على الاخراج وهو المعنى الحقيقي وحملها الحنفية على السجن، وهو معنى مجازى لها وهكذا كلمة (اللمس) في قوله تعالى: (او لامستم النساء) فحمله الشافعية والحنابلة على معناه الحقيقي وقالوا: اذا لمس المتوضى امرأة اجنبية بدون حائل انتقض الوضوء، وحمله الامامية وساير المذاهب على معناه المجازى وقالوا لا اثر للمس.
3- الاختلاف في القواعد الاصولية
وبعض اختلاف الفقهاء ناشي من الاختلاف في القواعد الاصولية وهي كثيرة متنوعة بعنوان المثال:
ــ هل الامر يدل على الوجوب أو علي الندب؟
ــ هل النهي يدل على الفساد أو على الصحة، أو لا يدل على واحد منها؟
ــ هل العام حجة بعد التخصيص في الباقي أو ليس حجة؟
ــ هل يصح التخصيص بحديث الآحاد وبالقياس، أولا يصح؟
ــ هل يحمل المطلق على المقيد او لا يحمل عليه؟
ــ وهل يصح التقييد بحديث الآحاد او لا يصح؟
ــ وهل للمفهوم دلالة على نقيض الحكم في الجانب المخالف للمنطوق أو ليس له دلالة؟ وغير ذلك مما عرض لبحثها علم الاصول.
4- الاختلاف في تحكيم القواعد الفقهية
ومن اسباب الاختلاف بين الفقهاء، اختلافهم الناشي من تحكيم القواعد الفقهية.
5- الاختلاف التي تخص السنة من جهة النقل والرواية
ان يصل الحديث إلى احد المجتهدين بينما لا يصل إلى غيره أو يصل اليهما ولكن يصل إلى احدهما عن طريق لا تقوم به الحجة أو يشترط في العمل بمثله شروطاً لا يشترطهما الآخر. وذلك اوسع اسباب الاختلاف بين الفقهاء.
6- الاختلاف الذي يخص السنة من جهة الفعل
قد يقع الخلاف بين الفقهاء في ان التهجد بالليل مثلاً خاص بالنبي(ص) او عام يشمل امته.
وقد وقع الخلاف ايضاً في ان الفعل الصادر منه بيان او ليس بياناً.
7- الاختلاف الذي يخص من جهة التقرير
وقد يوجد التقرير ويظهر الاستبشار بالفعل الذي رآه. ولكن يختلف العلماء في منار التقرير ومنشاء الاستبشار، أهو مشروعية الفعل قيد على الاباحة، أم شيء آخر وراء المشروعية كاختلاف الفقهاء في اعتبار (القيافة) دليلاً على ثبوت النسب فذهب اليه مالك والشافعية وخالفهم في ذلك الامامية والحنفية([51]).
8- اختلاف المصادر
وهناك ادلة اختلفوا في اعتبارها ومد الاعتماد عليها كالقياس والاستحسان والمصالح المرسلة وقول الصحابي والاستصحاب والذرائع ونحوها من دعوى البراءة أو الاباحة وعدمها([52]).
9- اثر اختلاف الفاظ الحديث في اختلاف الفقهاء
ضرورة التثبت من اللفظ النبوي للحديث، الرواية باللفظ او المعنى جاء في رواية ان النبي(ص) قال: اذا سمعتم الاقامة فامشوا الى الصلاة… فما ادركتم فصلّوا وما فاتكم فاتموا([53]) وجاء في رواية بلفظ (مافاتكم فاقضوا)([54]).
وهذا الاختلاف اليسير بين الروايتين في كلمة واحدة ترتب عليه اختلاف ذو أهمية من الناحية الفقهية، فعلى مقتضى الرواية الأولى يعتبر المصلي الركعة التي أدركها مع الامام ركعة اولى وهذا مذهب الامامية والشافعي وعلى مقتضي الرواية الثانية يعتبر المصلي الركعة التي أدركها مع الامام، ركعة رابعة ثم يقضى ما فاته من الركعة الاولى والثانية والثالثة([55]) وهذا مذهب ابو حنيفة واحمد بن حنبل.
10- التعارض والترجيح بين الادلة
وهو ان يقتضي احد الدليلين حكماً في واقعة خلاف ما يقتضيه الدليل الآخر فيها.
مثاله قوله تعالى: (والّذين يتوفّون منكم ويذرون ازواجاً يتربّصن بانفسهنّ اربعة اشهر وعشراً) . يقتضي بعمومه أن تكون عدة الوفاة مطلوبة من كل امرأة توفى عنها زوجها سواء أكانت المرأة حاملاً أم غير حامل وقوله تعالى: (وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ) ، يقتضي بعمومه ان تكون عدة الحامل بوضع الحمل سواء أكانت المرأة متوفى عنها زوجها ام مطلقة.
فالنصان متعارضان في حال واحدة هي عدة المرأة الحامل المتوفى عنها زوجها هل تعُدُّ بوضع الحمل او بمدة اربعة اشهر وعشرة ايام؟
وهو باب واسع اختلفت فيه الانظار واكثر فيه الجدل.
11- الاحتياط
قد وقع الاختلاف بين المجتهدين في تحديد العديد من الاحكام الشرعية وذلك بسبب ماطرأ على تفسير القرآن ورواية الاحاديث من عوامل أدت إلى ضياع بعض النصوص أو غموضها، أو وضع بعض الأحاديث كذباً او غير ذلك، فقبل الاسلام هذا الاختلاف واعتبر رأي كل مجتهد حجة يمكن للملكفين العمل به، لكنه من اجل ذلك، وحرصاً على اصابة الحكم المطلوب واقعاً، قد حث المجتهد على العمل بما اصطلح عليه (بالاحتياط) عند اختلاف الرأي، يعني الحرص على الاخذ بالرأي الجامع بين الآراء المختلفة. كمن يجمع في صلاته بين القصر والتمام عند اختلاف مجتهدين وافتاء احدهما بالقصر والآخر بالتمام، فالعمل بالاحتياط من جانب المتجهدين احد اسباب الاختلاف.
قال الدكتور يوسف القرضاوي: ولاشك ان الناس تختلف طبائعهم، فمنهم الميسر مطبعه ومنهم المشدد وقد عرف تراثنا الفقهي: شدائد ابن عمر، ورخص ابن عباس فالفقهاء في عهد الصحابة ومن بعدهم كانوا أميل الى الاخذ بالأيسر، والذين جاءوا من بعدهم كانوا أميل الى الأخذ بالأحوط وكلما نزلنا من عصر الى عصر زادت كمية (الاحوطيات) واذا كثرت الاحوطيات وتراكمت كونت ما يشبه الاصر والأغلال([56]).
12- الاختلاف بسبب عدم تصور واقع المسألة
يجب على الفقيه ان يتصور المشكلة التي يفتي فيها تصوراً صحيحاً، مبنياً على الواقع، دون تهوين، ولا تهويل، حتى تكون فتواه على بصيرة وقد قال العلماء: الحكم على الشيء فرع عن تصوره.
وهذا ما يعبر عنه بـ (فقه الواقع) فكثير مايكون سبب الاختلاف بين الفقهاء ناشئاً عن عدم تصور واقع المسألة المستفتى فيها وليس من عدم فهم النصوص و القواعد الشرعية([57]).
13- الاختلاف بسبب تغيير المكان والزمان
ان الفتوى تتغيير المكان والزمان والعرف، ويقول علماء الحنفية في كثير من الخلاف بين ابو حنيفة وصاحبيه: انه اختلاف عصر وزمان، لا اختلاف حجة وبرهان: وألف في ذلك الشيخ ابن عابدين في ذلك رسالته الشهيرة (نشر العرف) وذكر في هذه الرسالة: (أن كثيراً من الاحكام تختلف باختلاف الزمان لتغير عرف اهله، او لحدوث ضرورة، او لفساد اهل الزمان، بحيث لو بقى الحكم على ماكان عليه، للزم منه المشقة والضرر بالناس، ولخالف قواعد الشريعة المبنية على التخفيف والتيسير، ودفع الضرر والفساد([58]).
[1] -. موسوعة فقه ابراهيم النخعي، الدكتور محمد رواس قلعه جي، ط مصر، مطابع الهيئة 1399 هـ ،ج 1، ص 126 – 128.
[2] - نهج البلاغة، الخطبة: 18.
[3] - موصوعة فقه ابراهيم النخعي، ج 1، ص 128.
[4] - المعارف، 204 وشذرات الذهب ، ج 1، ص 11.
[5] -موسوعة فقه ابراهيم النخعي، ج 1، ص 128.
[6] - جعفر السبحاني، موسوعة طبقات الفقهاء، ج 1، ص 468 – 469 وحسن عبدالقادر علي، نظرة عامة في تاريخ الفقه الاسلامي، ص 150.
[7] -.الاباضية في الخليج تأليف دكتور عبدجابر السهيل، ص 19.
[8] - التفسير الكبير للامام الفخر الرازي، ج 1، ص 206.
[9] - تاريخ الفقه الاسلامي، ص 72.
[10] - صدر في سوريا سنة 1953 قانون الاحوال الشخصية جامعاً لجميع احكام الاسرة، قد استمر احكام من الفقه الاسلامي بجميع مذاهبه وآرائه.
[11] - تاريخ الفقه الاسلامي، بدران، ابو العينين ، ص 114 - 115.
[12] - موسوعة طبقات الفقهاء، جعفر السبحاني، ج 2، ص 9.
[13] - الرسالة للشافعي: ص 507.
[14] - الوجيز في اصول الفقه، الدكتور وهبة الزحيلي 90 - 91.
[15] - طبع هذا الكاب في سنة 1280هـ .
[16] - فلسفة التشريع في الاسلام، المحمصاني، ص 74 ط الثالثة، 1960.
[17] - الفقه المقارن للاحوال الشخصية بين المذاهب الاربعة السنية والمذهب الجعفري والقانون، بدران ابو العينين بدران، ص 2.
[18] - تاريخ الطبري، ج 8، ص 297.
[19] - تاريخ الفقه الاسلامي، ص 15.
[20] - راجع الناصريات للسيد المرتضى، ط مجمع العالمي للتقريب بن المذاهب الاسلامية.
[21] -الاباضية في الخليج، دكتور تاليف عبد جابر السهيل، ص 19.
[22] - الفقه الاسلامي وأدلته، الدكتور وهبة الزحيلي ، ج 1، ص 59 - 62.
[23] - الاعلام للزركلي ، ج 9، ص 4، والجواهر المضية ، ج 1، ص 26 وابو حنيفه لمحمد ابي زهرة: والانتفاء لابن عبدالبر؛ ص122- 171، وتاريخ بغداد ، ج 13، ص 323 –333 . والموسوعة الفقهية الكويتية، ج 1، ص 336.
[24] - تاريخ الفقه الاسلامي ، ص 118 .
[25] - حجة الله البالغة، ج 1، ص 146 والانصاف في بيان اسباب الاختلاف، ص 26 نقلاً عن موسوعة فقه ابراهيم النخعي، للدكتور محمد رواس قلعه جي، ج 1، ص 134 - 139.
[26] - ائمة الفقه التسعة، عبدالرحمن الشرقاوي، بيروت، العصر الحديث، الطبعة الثانية 1406هـ ، ص 76.
[27] - الامام زيد، حياته وعصره، محمد ابو زهره، القاهره، دار الفكر العربي، ص 38.
[28] - تاريخ الفقه الاسلامي، محمد علي السايس، ص 108- 109.
[29] - تاريخ الفقه الاسلامي، محمد علي السايس، ص 109 - 110.
[30] - تصحيح السيد مهدي حسن الگيلاني، بيروت: عالم الكتب 1385هـ.
[31] - تاريخ الفقه الاسلامي، ص 128 - 129.
[32] - الديباج المذهب، ص 11 – 28؛ وتهذيب التهذيب، ج 10، ص ووفات الاعيان، ج 1، ص 439 والموسوعة الفقهية الكويتية، ج 1، ص369.
[33] - تفسير القرآن الكريم، محمد عبده، والسيد محمد رشيد رضا، ج 1، ص 458 - 459.
[34] - البداية والنهاية لابن كثير، ج 10، ص 174 وتاريخ الطبري، ج 7، ص 539.
[35] - المصدر السابق.
[36] - طبقات الفقهاء للجعفر السبحاني، ج 1، ص 174.
[37] - تاريخ الفقه الاسلامي، ص 130.
[38] - الشافعي حياته وعصره وآراءه وفقهه، محمد ابو زهرة، القاهرة، دار الفكر ، ص 144- 145.
[39] - الشافعي، حياته وعصره، محمد ابو زهرة، ص 145.
[40] - صفحات من تاريخ مكة المكرمة، سنوك هورفرونيه، نقله الى العربية الدكتور علي عودة الشيوخ، ج 2، 505 - 506.
[41] - الاعلام للزركلي، ج 1، ص 192، وطبقات الحنابلة لابي يعلي من 3-11 وطبقات الحنابلة لابن ابي ليلي ، ج 1، ص 4-20 والبداية والنهاية، ج 10، ص 325 – 343 والموسوعة الكويتية، ج 1 ، ص 339.
[42] - الامام علي الرضا ورسالته في الطب النبوي، الدكتور محمد علي البار، بيروت، دار المناهل، 412 ص 58 .
[43] -. تاريخ الفقه الاسلامي، ص 148.
[44] - المعتبر، للمحقق الحلّي، ج 1، ص 21 ومقدمة المختصر النافع للمحقق الحلي، ص 23.
[45] - حاشية ابن عابدين، ج 1، ص 63.
[46] - العروة الوثقى، لآية الله السيد كاظم اليزدي، مسألة: 33.
[47] - مقارنة المذاهب في الفقه ، ص 7.
[48] - في فقه الاقليات المسلمة، د. يوسف القرضاوي، القاهرة، دار الشروق، 1422.
[49] - مقارنة المذاهب في الفقه، ص 5.
[50] - المائدة: 33.
[51] - الاسلام عقيدة وشريعة، محمود شلتوت، ص 506 - 540.
[52] - الفقه الاسلامي وأدلته، وهبه الزحيلي، ج 1، ص 87.
[53] - صحيح البخاري، ج 2، ص 257.
[54] - مسند احمد بن حنبل، ج 2، ص 270.
[55] -اثر الحديث في اختلاف الفقهاء، محمد عوامه، ص 42.
[56] - في فقه الاقليات المسلمة، د. يوسف القرضاوي، ص 48 - 49.
[57] -في فقه الأقليات المسلمة، د. يوسف القرضاوي، القاهرة: دار الشروق ،1422هـ ، ص 157.
[58] - مجموعة رسائل ابن عابدين، ج 2، ص 125 نقلاً عن فقه الاقليات المسلمة، ص 51 - 52.