أسباب اختلاف الفقهاء
أسباب اختلاف الفقهاء
أ . د . محمد فؤاد البرازي
رئيس الرابطة الإسلامية في الدانمارك
عضو مجمع فقهاء الشريعة
بسم الله الرحمن الرحيم
لقد أرسل الله سيدنا محمداً صلى الله تعالى عليه وآله وسلم بالهدى ودين الحق لينقذ البشرية الهائمة على وجهها ، ويردها إلى صراط الله العزيز الحميد. فأنزل عليه كتاباً فيه رشاد الإنسانية ، وسعادة البشرية ، وفوزها في الدنيا والآخرة. ولهذا فإن أمير المؤمنين سيدنا علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه وكرم وجهه يصف هذا القرآن العظيم بقوله : (كتاب الله تعالى فيه نبأ ما قبلكم ، وخبر ما بعدكم ، وحكم ما بينكم ، هو الفصل ليس بالهزل ، من تركه من جبار قصمه الله ، ومن ابتغى الهدى في غيره أذله الله ، وهو حبل الله المتين ، وهو الذكر الحكيم ، وهو الصراط المستقيم ، هو الذي لا تزيغ به الأهواء ، ولا تلتبس به الألسنة ، ولا يشبع منه العلماء ، ولا يَخلَق على كثرة الرد ، ولا تنقضي عجائبه . هو الذي لم تنته الجن إذ سمعته أن قالوا إنا سمعنا قرآناً عجبا يهدي إلى الرشد فآمنا به ، من قال به صدق ، ومن عمل به أجر ، ومن حكم به عدل ، ومن دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم).
وقد نزل هذا الكتاب الكريم على قلب رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم بلسانٍ عربي مبين ، ليدَّبرَ الناسُ آياته ، ويتذكر أولو الألباب ، فكان كله قطعي الورود . أما من حيث الدلالة ففيه القطعي والظني.
أما السنة ففيها قطعي الورود كالسنة المتواترة ، وظني الورود ، وتنقسم بقسميها السابقين إلى ما هو قطعي الدلالة ، وظني الدلالة. ولهذا لم يختلف المجتهدون في النصوص التي دلالتها قطعية على معناها ، وإنما اختلفوا في النصوص التي دلالتها ظنية.
وقد نشأ الاختلاف في الأحكام الفقهية بعد انقطاع الوحي ، إذ لم يكن في زمن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم اختلاف ــ إلا في حالات نادرة ، ومع هذا يرجعون فيها إليه ليكون هو الحكم ــ لأنه كان مرجعهم في معرفة أحكام الله تعالى . ولهذا لم يكن اختلافهم مدعاة للتنافر والتباغض ، بل كانوا ينشدون الحق ، ويبتغون الخير.
وبعد انتقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم إلى الرفيق الأعلى ، وتفرق صحابته رضوان الله تعالى عليهم في الأمصار ظهر هذا الخلاف جلياً ، وتوسع توسعاً كبيراً، فكان أول خلاف جرى بينهم هو اختلافهم في الأحق بالخلافة ، واختلافهم في قتال مانعي الزكاة ، واختلافهم في أمر فدك ، وكذا اختلافهم في التوارث عن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم ، وكذا في الجد هل يكون كالأب فيحجب الإخوة من الميراث لإطلاق لفظ الأب عليه في القرآن الكريم ، أم أنهم يشتركون معه في الميراث لكونهم يدلون إلى الميت بواسطة الأب. إلى غير ذلك من الأحكام.
ولم يقف الاختلاف الفقهي عند عصر الصحابة الكرام رضي الله تعالى عنهم ، بل تابع خطواته إلى عصر التابعين ، وأتباع التابعين ، ثم إلى عصر الأئمة المجتهدين وما بعدهم ، بسبب الوقائع المستجدة ، والظروف الطارئة ، التي اقتضتها اتساع رقعة البلاد الإسلامية ، وكثرة النوازل ، وأعراف الأمم الكثيرة التي اعتنقت الإسلام ، مما يحتاج معه المجتهد إلى بيان الأحكام الشرعية في هذه المستجدات.
ولهذا فإن الاختلافات في الأحكام الفقهية كانت طبيعية اقتضتها مسيرة الحياة لكون الشريعة صالحة لكل زمان ومكان.
وأحب أن أؤكد في هذا السياق أن الفقه الإسلامي لا ينبغي حصره في دائرة مذاهب الأئمة الأربعة رحمهم الله تعالى ، بل هو ثروة إسلامية ضخمة شكلها هؤلاء ومَن قبلهم ومَن عاصرهم ومَن جاء بعدهم من الأئمة المجتهدين ، والفقهاء المحققين.
ــ فهناك من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من حُفظت عنهم الفتوى ، وهم كما ذكر "ابن قيم الجوزية" مائة ونيف وثلاثون نفساً مابين رجل وامرأة ، وكان المكثرون منهم : عمر بن الخطاب ، وعلي بن أبي طالب ، وعبد الله بن مسعود ، وعائشة أم المؤمنين ، وزيد بن ثابت ، وعبد الله بن عباس ، وعبد الله بن عمر. وهناك المتوسطون منهم فيما روي عنهم من الفتوى : كأبي بكر ، وأم سلمة ، وأنس بن مالك ، وأبي سعيد الخدري ، وأبي موسى الأشعري ، وسلمان الفارسي ، وغيرهم . وهناك المقلون في الفتيا : كأبي الدرداء ، وأبي عبيدة بن الجراح ، وريحانتي رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم سيدي شباب أهل الجنة الحسن والحسين ، وغيرهم رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم.
قال مسلم عن مسروق : " شاممت ــ أي بحثت ــ أصحاب محمد صلى الله تعالى عليه وآله وسلم فوجدت علمهم ينتهي إلى ستة : إلى علي ، وعبد الله ، وعمر ، وزيد بن ثابت ، وأبي الدرداء ، وأبي بن كعب ، ثم شاممت الستة فوجدت علمهم انتهى إلى علي وعبد الله. يعني ابن مسعود.
ـــ وهناك من أئمة التابعين ومفتيهم : الفقهاء السبعة بالمدينة سعيد بن المسيب ، وعروة بن الزبير ، والقاسم بن محمد ، وخارجة بن زيد ، وابو بكر بن عبد الرحمن ، وسليمان بن يسار ، وعبيد الله بن عبد الله ، وفي مكة : عطاء بن أبي رباح ، وفي اليمن : طاوس ، وفي الكوفة : إبراهيم النخعي ، وفي الشام : مكحول ، وفي خراسان : عطاء الخراساني ، وغيرهم كثير...
ــ وهناك الأئمة الفقهاء الذين اشتهروا في الآفاق : كأبي حنيفة ، ومالك ، والشافعي ، وأحمد ، وسفيان الثوري ، والليث بن سعد ، والأوزاعي .
ــ وهناك من أئمة أهل البيت الأطهار الأئمةُ المجتهدون : زين العابدين أبو محمد علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب المتوفى سنة 95 هـ ، وأبو جعفر محمد بن علي الملقب بالباقر المتوفى سنة 114 هـ ، وابنه أبو عبد الله جعفر الصادق المتوفى سنة 148 هـ ، وهؤلاء من أئمة الشيعة الاثني عشرية.
ــ ومثل هؤلاء في الإمامة : زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب أخو زين العابدين ، وهو إمام الشيعة الزيدية.
وهؤلاء الأئمة من أهل البيت ، يجلهم السنة والشيعة على حدٍ سواء ، فرحمهم الله تعالى جميعاً رحمة واسعة.
وقد كان الأئمة جميعاً يتحرون الدقة فيما يجتهدون ، ويتقون الله فيما يفتون ، ولم يزعم أحد منهم أن اجتهاده وحي يتلى لايشوبه خطأ أو يعتريه ضعف ، بل كانوا أتقى لله من أن يظنوا في أنفسهم ذلك ، حتى إنهم كانوا يتهمون أنفسهم . فرحمهم الله تعالى رحمة واسعة.
وقد اختلف أولئك الأئمة المجتهدون في كثير من الأحكام الفقهية لأسباب متعددة دعت إلى ذلك ، نلخصها فيما يلي :
أولاً : الاختلاف في ثبوت الحديث.
إن مما لاشك فيه أن السنة النبوية هي المصدر الثاني للمجتهدين ، فإذا صح الحديث وسَلِمَ من المُعارِض كان حجةً شرعيةً فيما يدل عليه . ولهذا صح عن العديد من الأئمة : "إذا صح الحديث فهو مذهبي". وهؤلاء الأئمة الذين عُرفوا بالتقوى ، وشهد الكافة لهم بالعدالة ماكانوا لِيُعرضوا عن حديثٍ ثبت عندهم إذا كانت دلالته على معناه واضحة ، وسلِمَ من مُعارض مثلِه أو أقوى منه بناءً على أصولٍ وقواعدَ يستند إليها في استنباط الأحكام.
وبناءً على هذا كان لكل مجتهد مسائلُ خالف فيها من الحديث ما صح عند غيره من الأئمة لعدم صحتها عنده ، أو اعتمد على أحاديث صحت عنده ولم تصح عند الآخرين. وليس هذا بمستنكر عليهم إذ وقع الخلاف بين أئمة الحديث في عديد من الضوابط والقواعد المؤثرة في ثبوت الحديث أدَّت إلى ثبوت الحديث عند بعضهم ، وعدم ثبوت الحديث نفسه عند البعض الآخر منهم . ومثال ذلك :
1. اختلافهم في قبول الحديث الذي رواه الراوي ثم أنكره : فذهب أبو حنيفة وأبو يوسف إلى عدم العمل به ، وذهب الشافعي ومحمد بن الحسن إلى أنه العمل به . ومن أمثلة هذا ما أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجه بسندهم عن سليمان بن موسى عن الزهري عن عروة عن عائشة
رضي الله تعالى عنها أن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال : "أيما امرأة نُكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل". فقد روي أن ابن جريج سأل الزهري عن هذا الحديث فلم يعرفه ، ثم عمل به الشافعي ومحمد بن الحسن الشيباني مع إنكار الراوي إياه، ولم يعمل به أبو حنيفة وأبو يوسف لإنكار الراوي إياه ، (وهو الزهري في هذا الحديث). وبناءً على ذلك اختلفوا في صحة نكاح البالغة العاقلة إذا نكحت بغير إذن وليها ، فذهب إلى جوازه أبو حنيفة وأبو يوسف ، وذهب الجمهور إلى عدم جوازه للسبب الذي سبق وغيره.
وفصَّلَ الشيعة الإمامية في ذلك ، فقال الطوسي : "إذا بلغت الحرة الرشيدة ملكت العقد على نفسها وزالت ولاية الأب عنها والجد ، إلا إذا كانت بكراً فإن الظاهر من روايات أصحابنا أنه لا يجوز لها ذلك ، وفي أصحابنا من قال : البكر أيضاً تزول ولايتهما عنها".إهـ من كتاب الخلاف (4/250). فهم في هذا متفقون مع أبي حنيفة وأبي يوسف في صحة نكاح الثيب من غير ولي لإجماع الفِرقة وأخبارهم ، ومختلفون فيما بينهم في البكر حيث أجازه بعضهم ومنع منه آخرون.
2. اختلافهم في خبر المستور : والمستور أو مستور الحال هو من روى عنه اثنان فصاعداً ، فارتفعت عنه الجهالة ، وهو عدل الظاهر ، إلا أنه لم يصدر عن أحد من الأئمة توثيقه أو تجريحه . إهـ أصول الحديث (ص/271) للدكتور عجاج الخطيب.
وقد قبل جماعة من أهل العلم كالإمام أبي حنيفة وغيره روايته بغير قيد ، لأن المستور عندهم بمنزلة العدل في رواية الأخبار ، حيث إن الأصل عدالة المسلم لقول رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم : "المسلمون عدول بعضهم على بعض" ، وبناءً على هذا قال الإمام أبو حنيفة بجواز القضاء بشهادة المستور إذا لم يطعن الخصم.
وردَّ الجمهورُ روايتَه احتياطاً في ثبوت الأخبار ، لأن خبره عندهم كخبر الفاسق حتى تظهر عدالته.
3. اختلافهم في حجية الحديث المرسل : والحديث المرسل في اصطلاح المحدثين "هو مارفعه التابعي خاصة إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم مباشرة ".
أما في اصطلاح الفقهاء والأصوليين "فهو الحديث الذي رفعه غير الصحابي إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم مباشرة".
وقد اختلف أهل العلم في الاحتجاج به ، فقال أبو داود في رسالته إلى أهل مكة في وصف سننه (ص/5) : "وأما المراسيل فقد كان أكثر العلماء يحتجون بها فيما مضى ، مثل سفيان الثوري ومالك والأوزاعي، حتى جاء الشافعي فتكلم في ذلك وتابعه عليه أحمد وغيره".إهـ
ومشى على هذا المسلك جمهور المحدثين كما حكاه ابن عبد البر ، وحكى ذلك عمن قبل الشافعي أيضاً ، كابن مهدي ويحيى القطان.
وذهب أبو حنيفة ومالك ومن تبعهما وجمع من المحدثين إلى قبول المرسل والاحتجاج به ، وهو رواية عن أحمد ، وحكاه النووي في شرح المهذب عن كثير من الفقهاء بل أكثرهم ، ونسَبَه الغزالي إلى الجمهور ، بل ادعى ابن جرير الطبري وابن الحاجب إجماع التابعين على قبوله والاحتجاج به.
ورُدَّ عليهما بأنه قد نقل عدم الاحتجاج عن بعض التابعين ، كسعيد بن المسيب وابن سيرين والزهري ، فأين الإجماع ؟ نعم لو قيل : باتفاق جمهور التابعين على الاحتجاج به كان صحيحاً.
ويشترط عند محققي المذهب : كون المرسل من أهل القرون الثلاثة التي شهد رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم بخيريتها ، وإفشاء الكذب بعدها . وكون المرسِل ثقة ، وكونه متحرياً لا يرسِل إلا عن الثقات، فإن لم يكن في نفسه ثقة ، أو لم يكن محتاطاً في روايته ، فمرسَلُه غير مقبول بالاتفاق...
وبعد أن ذكر اللكنوي تسعة أقوال في باب احتجاج أهل العلم بالمرسل من عدمه ، قال : " ولا يخفى على الفطن المتوقد ، أن أكثر هذه الأقوال ضعيفة لا يُعبأ بها ، وأقواها هو قبول مراسيل ثقات التابعين إذا عُلم تحريهم في روايتهم ، ومراسيل الصحابة ، وأحوطها ما نصَّ عليه الشافعي . فاحفظ هذا كله ".إهـ ظفر الأماني (ص/352 ـ 353).
4.عدم وصول النص : إذ قد ينشأ اختلاف العلماء من عدم وصول النص إلى بعضهم . وما من إمام إلا وخفيت عليه بعض السنن ، لأن الإحاطة الكاملة لاتكون إلا لله وحده.
فقد خفيت أحاديث على بعض أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم في الوقت الذي علم بها غيرهم ، والعكس صحيح في هذا أيضاً.
ومن أمثلة ذلك : خفاء حديث رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم : "إذا سمعتم به ــ أي الطاعون ــ بأرض فلا تقدموا عليه ، وإذا وقع بأرض فلا تخرجوا فراراً منه" على عمر بن الخطاب ، وعودته بمن معه من سَرْغ ــ موقع قرب الشام ــ إلى المدينة المنورة بعد أن علم بوقوع الطاعون بها استجابة للحديث السابق الذي أخبره به عبد الرحمن بن عوف رضي الله تعالى عنهم جميعاً.
5. اختلافهم في ثبوت الحديث : كثيراً ما يكون سبب اختلاف أهل العلم في الأحكام راجعاً إلى اختلافهم في ثبوت الحديث.
فمن ذلك اختلافهم في ثبوت حديث العِينة ، وهو ما رواه ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال : سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم يقول : " إذا تبايعتم بالعِينة ، وأخذتم أذناب البقر ، ورضِيتم بالزرع ، وتركتم الجهاد ، سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم". قال ابن حجر في بلوغ المرام (حديث رقم/828) : "رواه أبو داود من رواية نافع عنه ، وفي إسناده مقال ، ولأحمد نحوه من رواية عطاء ، ورجاله ثقات ، وصححه ابن القطان".
قال الصنعاني (3/209) : واعلم أن العِينة هو أن يبيع سلعةً بثمن معلوم إلى أجل ، ثم يشتريها من المشتري بأقل ليبقى الكثيرُ في ذمته . وسميت عِينةً لحصول العَين أي النقد فيها ، ولأنه يعود إلى البائع عين ماله".
فقد ضعف الإمام الشافعي جميع طرق هذا الحديث ، وبناءً على ذلك قال بجواز بيع العِينة ، أما جمهور العلماء فقد قالوا بتحريم العِينة لأن أحاديثها مع ضعفها يشد بعضها أزر بعض ، ورجال الحديث ثقات من رواية عطاء عند أحمد ، وصححه ابن القطان ، فأقل أحواله أنه حديث حسن صالح للاحتجاج على تحريم بيع العِينة.
ونضر الله وجه الحافظ ابن عبد البر في (جامع بيان العلم وفضله 2/148) حين قال : " ليس لأحد من علماء الأمة أن يثبت حديثاً عن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم ثم يرده دون ادعاء نسخ عليه بأثر مثله ، أو بإجماع ، أو بعمل على أصله الانقياد إليه ، أو طعن في سنده ، ولو فعل ذلك أحد سقطت عدالته فضلاً عن أن يُتخذ إماماً ، ولزمه إثمُ الفسق...". إهـ
6. الاختلاف في فهم النصوص الشرعية لوجود لفظ مشترك يحتمل أكثر من معنى ، كلفظ : "قروء" في قول الله تعالى : " والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء".
فالقرء اسم مشترك يطلق على الحيض ، كما يطلق على الطهر .
وبناءً على ذلك نشأ الاختلاف بين أهل العلم من الصحابة والتابعين فمن بعدهم في عدة المطلقة .
فمن فسر القرء بالحيض قال : لا تنقضي عدتها حتى تطهر من الحيضة الثالثة ، زاد آخرون : وتغتسل منها ، وإلى هذا ذهب أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وأبو الدرداء وعبادة بن الصامت وأنس بن مالك وابن مسعود ومعاذ وأبي بن كعب وأبو موسى الأشعري وابن عباس وسعيد بن المسيب وعلقمة والأسود وإبراهيم ومجاهد وعطاء
وطاوس وسعيد بن جبير وعكرمة ومحمد بن سيرين والحسن وقتادة والشعبي والربيع ومقاتل بن حيان والسدي ومكحول والضحاك وعطاء الخراساني ، وهذا مذهب أبي حنيفة وأصحابه ، وأصح الروايتين عن الإمام أحمد بن حنبل ، والثوري والأوزاعي وابن أبي ليلى وابن شبرمة والحسن بن صالح بن حي وأبو عبيد وإسحاق بن راهويه.
ومن فسر القرء بالطهر قال : إن المعتدة تنقضي عدتها وتبين من زوجها بالطعن في الحيضة الثالثة ، وإلى هذا ذهبت عائشة وابن عمر وزيد بن ثابت وسالم والقاسم وعروة وسليمان بن يسار وأبو بكر بن عبد الرحمن وأبان بن عثمان وعطاء بن أبي رباح وقتادة والزهري وبقية الفقهاء السبعة ، وهو مذهب مالك والشافعي وغير واحد وداود وأبو ثور وهو رواية عن أحمد. (انظر تفسير ابن كثير1/438).
7. وقد يكون الاختلاف راجعاً إلى المجتهدين أنفسهم وما حباهم الله تعالى من مَلَكات في فهم النصوص واستنباط الأحكام ، كالخلاف الذي جرى بين الصحابة الكرام رضي الله تعالى عنهم في تفسير حديث النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم : " لايصلين أحدكم العصر إلا في بني قريظة" ، فأدركتهم صلاة العصر في الطريق فصلاها بعضهم حيث أدركتهم ، وأجلها آخرون حتى باغتوا بني قريظة بعد الغروب . فلما عادوا وذكروا ذلك للنبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم لم يُعنف أحداً منهم ، وهذا يعني إقرارَه صلى الله تعالى عليه وآله وسلم لفهم الفريقين الذين سمعوا منه نصاً واحداً اختلفت حوله أفهامهم.
8. الاختلاف في الجمع والترجيح بين النصوص المتعارضة : ومن أمثلة ذلك : اختلاف أهل العلم في نكاح الكتابيات ، لورود آيتين قال الله تعالى في الأولى منهما : "ولا تَنكحوا المشركات حتى يؤمن" (البقرة/221) ، فقد حرمت هذه الآية على المسلمين نكاح المشركات. وقال تعالى في الثانية منهما : "والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم إذا آتيتموهن أجورهن" (المائدة/5). فقد أباحت هذه الآية نكاح الكتابيات.
وبناء على ورود هاتين الآيتين اختلف أهل العلم في نكاح الكتابيات :
ـــ فذهب الجمهور إلى جوازه اعتماداً على آية المائدة ،وجمعوا بين الآيتين بأنه لاتعارض بينهما ، لأن آية البقرة في المشركات غير الكتابيات وهؤلاء لايحل زواجهن ، أما آية المائدة فهي في الكتابيات خاصة ، ونكاحهن جائز بحكم هذه الآية.
وذهب ابن عمر إلى أنه لايجوز نكاح الكتابيات استناداً إلى آية المائدة ، ويقول : لاأعلم شركاً أعظم من أن تقول ربها عيسى ، وقد قال الله تعالى : "ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن".
والمتأمل في هذا يجد أن الاختلاف بينهم كان بسبب اختلاف رأيهم في الجمع بين النصين.
وللترجيح بين النصوص أسباب كثيرة استوفاها علماء الأصول في كتبهم ، فليرجع إليها من شاء الوقوف عليها مع أمثلتها
9. الاختلاف بسبب الاجتهاد فيما لانص فيه : كان الصحابة الكرام رضي الله تعالى عنهم يسألون رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم عما يعرض لهم . أما بعد وفاته فقد كانوا إذا جدت قضية بحثوا عن حكمها في كتاب الله تعالى ، فإن لم يجدوا لها حكماً في كتاب الله نظروا في سنة رسول الله ، فإن لم يجدوا لها حكماً فيها اجتهدوا رأيهم للوصول إلى حكمها.
ومما يدل على مشروعية ذلك ما رواه أحمد وأبو داود والترمذي وغيرهم عن معاذ بن جبل رضي الله عنه أن رسول r حين بعثه إلى اليمن قال له : (كيف تقضي إذا عرض لك قضاء؟ قال : أقضي بكتاب الله ، قال : فإن لم تجد في كتاب الله ؟ قال : فبسنة رسول الله ، قال : فإن لم تجد في سنة رسول الله ؟ قال : أجتهد رأيي ولا آلو . قال : فضرب رسول الله على صدره ، وقال : الحمد لله الذي وفق رسولَ رسولِ الله لما يرضي رسولَ الله). وهذا الحديث ضعفه بعض أهل العلم ، وصححه آخرون نظراً لصحة بعض طرقه ، ولاشتهاره وتلقي أهل العلم له بالقبول (وتجد تفصيل ذلك في كتابنا "المستخلص في علم أصول الفقه" ).
وأخرج البيهقي عن ميمون بن مهران قال : كان أبو بكر إذا ورد عليه الخصوم نظر في كتاب الله ، فإن وجد فيه ما يقضي بينهم قضى به ، وإن لم يكن في الكتاب وعلم من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في ذلك الأمر سنة قضى بها ، فإن أعياه خرج فسأل المسلمين ، وقال : أتاني كذا وكذا ، فهل علمتم أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قضى في ذلك بقضاء؟ فربما اجتمع إليه النفر كلهم يذكر عن رسول الله فيه قضاء ، فيقول أبو بكر : الحمد لله الذي جعل فينا من يحفظ عن نبينا . فإن أعياه أن يجد فيه سنة عن رسول الله جمع رؤوس الناس وخيارهم واستشارهم ، فإن أجمعوا أمْرَهُم على رأي قضى به ".إهـ
وكان الصحابة يسأل بعضهم بعضاً عن معضلات المسائل . قال سعيد بن المسيب : كان عمر يتعوذ بالله من معضلة ليس لها أبو حسن ". يعني به أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه.
وقد سار على هذا النهج التابعون ومن بعدهم من الأئمة المجتهدين ، فكانوا إذا لم يجدوا للمسألة نصاً في الكتاب أو السنة اجتهدوا رأيهم . ومن الطبيعي أن تتباين اجتهاداتهم تبعاً لتباين مناهجهم في البحث ، ومداركهم التي حباهم الله تعالى إياها.
لهذا اختلفوا في ميراث الجد مع الإخوة ، فذهب ابن عباس إلى أن الجد يحجب الإخوة لإطلاق لفظ الأب عليه . وذهب عمر وعلي وزيد إلى أن الإخوة الأشقاء يقاسمون الجد
في الميراث ، كما اختلفوا في العَول في الفرائض عند تزاحم الفروض ، واختلفوا في قتل الجماعة بالواحد ، وغير ذلك .
فلو كانت هناك نصوص بهذه المسائل لحكَّموها ، ولكن لما لم يكن فيها نص اجتهدوا فيها برأيهم استنادا إلى روح الشريعة ومقاصدها.
10. ثبت بالاستقراء أن الأدلة الشرعية التي تستفاد منها الأحكام العملية ترجع إلى أربعة ، هي : القرآن والسنة والإجماع والقياس .
وذهب جمهور العلماء إلى الاستدلال بها ، وإلى أنها مرتبة في الاستدلال بها على الترتيب المذكور.
والدليل على الاستدلال بها قول الله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم . فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا }.
والدليل على ترتيبها في الاستدلال : ماروى أحمد وأبو داود والترمذي وغيرهم عن معاذ بن جبل رضي الله عنه أن رسول حين بعثه إلى اليمن قال له:(كيف تقضي إذا عرض لك قضاء؟ قال: أقضي بكتاب الله ، قال:فإن لم تجد في كتاب الله ؟ قال:فبسنة رسول الله ، قال: فإن لم تجد في سنة رسول الله ؟ قال: أجتهد رأيي ولا آلو . قال: فضرب رسول الله على صدره ، وقال: الحمد لله الذي وفق رسولَ رسولِ الله لما يرضي رسول الله)).
وهناك أدلة أخرى لم يتفق جمهور أهل العلم على الاستدلال بها فيما بينهم ، وأشهرها : الاستحسان ، والمصلحة المرسلة ، والاستصحاب ، والعرف ، ومذهب الصحابي ، وشرع من قبلنا ، وعمل أهل المدينة.
وسأذكر باختصار دليلين مما اختلفوا في الاحتجاج بهما (بالرجوع إلى : "أثرالاختلاف في القواعد الأصولية" ):
أ. عمل أهل المدينة : يرى الإمام مالك أن إجماع أهل المدينة على شيء يعتبر حجة يستدل بها على الأحكام الشرعية ، ولهذا فإنه يحتج كثيراً في موطئه بعمل أهل المدينة . أما غيره من المجتهدين فقد يوافقه على العمل بهذا إذا دل دليل على ذلك ، وقد لايوافقه.
ومثال ذلك : " فائتة السفر ، فقد ذهب مالك إلى أن من فاتته صلاة في السفر قضاها في الحضر كما وجبت عليه ، قال في الموطأ : " من أدرك الوقت وهو في ســـفر ، فأخر الصلاة ســاهياً أو
ناسياً حتى قدم على أهله ، أنه إن كان قدم على أهله وهو في الوقت فليصل صلاة المقيم ، وإن كان قد قدم وقد ذهب الوقت فليصل صلاة المسافر ، لأنه يقضي مثل الذي كان عليه . قال مالك : وهذا الأمر هو الذي أدركت عليه الناس وأهل العلم ببلدنا". إهـ
وإلى مثل ماذهب إليه الإمام مالك ذهبت الحنفية . أما الشافعية والحنابلة فذهبوا إلى أن الفائتة في السفر إذا صلاها في الحضر صلاها صلاة حضر ، وحجتهم في ذلك أن القصر رخصة من رخص السفر فيبطل بزواله ، كالمسح على الخفين ثلاثاً".
ب. القياس : عرف ابن الحاجب القياس بقوله : " هو مساواة فرع لأصل في علة حكمه ".
وقد اختلف العلماء في أمر التعبد بالقياس في الشرعيات ، فكانوا فيه على أربعة مذاهب :
الأول : أنه يستحيل التعبد به عقلاً ، وهذا هو قول إبراهيم النظَّام والشيعة ، وجماعة من معتزلي بغداد.
الثاني : وجوب التعبد به عقلاً ، وهذا هو قول القفال من أصحاب الشافعي ، وأبي الحسن البصري.
الثالث جواز التعبد به عقلاً ، إلا أنه لم يرد التعبد به شرعاً ، بل ورد الشرع بحظره ، وهذا قول داود بن علي الأصفهاني الظاهري وابنه محمد وجميع أهل الظاهر ومنهم ابن حزم ، والقاشاني والنهرواني ، غير أن داود وابنه والقاشاني والنهرواني كانوا يقولون بالقياس فيما كانت علته منصوصة أو مومى إليها.
الرابع : جواز التعبد به عقلاً ووقوعه شرعاً ، وهذا هو قول السلف من الصحابة والتابعين ، والشافعي ومالك وأحمد بن حنبل وأكثر الفقهاء والمتكلمين .
ولقد كان الخلاف في جواز الاحتجاج بالقياس ، وعدم جوازه ، سبيلاً إلى الاختلاف في كثير من الأحكام الفقهية نكتفي بذكر واحد منها:
ـــ وقوع الربا في الأصناف التي لم تذكر في الحديث : فقد جاء في الحديث عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه ، قال :" سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن بيع الذهب بالذهب ، والفضة بالفضة ، والتمر بالتمر ، والبر بالبر ، والشعير بالشعير ، والملح بالملح ، إلا سواء بسواء ، عيناً بعين ، فمن زاد أو استزاد فقد أربى". رواه مسلم.
فأجمع المسلمون على تحريم الربا في كلٍ من هذه الأصناف الستة المنصوص عليها ، ولكنهم اختلفوا فيما وراءها ، هل يقع فيه الربا أو لا؟
فذهب الجمهور إلى أن كل صنف يشابه هذه الأصناف في العلة يجري فيه الربا كما جرى فيها ، وإن كانوا قد اختلفوا فيما بينهم في تحديد هذه العلة.
وذهب أهل الظاهر إلى أن الربا لايقع في غير هذه الأصناف الستة ، ولا يتعدى حكم الربا إليها بناءً على عدم جواز القياس عندهم ، فلا ربا عندهم في الأرز والحمّص والعدس والذرة وغير ذلك.
هذه هي أهم أسباب الاختلاف ذكرتها باختصار شديد ، وهناك أسباب أخرى لايتسع الوقت لذكرها،ويكفينا في هذا المجال أن نتوصل إلى النتائج التالية :
1. لقد كان اختلاف العلماء أمراً طبيعياً للأسباب المذكورة سابقاً ، أو لاختلاف الأفهام. وفي ذلك رحمة للأمة وتوسعة عليها.
قال عمر بن عبد العزيز : " ماأحب أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يختلفوا ، لأنه لو كانوا قولاً واحداً كان الناس في ضيق ، وإنهم أئمة يقتدى بهم ، فلو أخذ رجل بقول أحدهم كان في سعة".
وروى ابن عبد البر في الفقيه والمتفقه (2/69) عن سفيان الثوري أنه قال : " مااختلف فيه الفقهاء ، فلا أنهى أحداً من إخواني أن يأخذوا به ".
2. لا يجوز الإنكار في مسائل الاختلاف ، فلكل مذهب دليله وحجته ، ولا يصح الإنكار إلا فيما أجمع أهل العلم على إنكاره.
فقد روى أبو نعيم في (حلية الأولياء 6/368) بسنده عن سفيان الثوري أنه قال : "إذا رأيت الرجل يعمل العمل الذي قد اختُلف فيه وأنت ترى غيره فلا تنهه ".
وقال ابن رجب الحنبلي : "والمنكَر الذي يجب إنكاره ما كان مجمعاً عليه ، فأما المختلف فيه : فمن أصحابنا من قال لا يجب إنكاره على مَن فعله مجتهداً أو مقلداً لمجتهد تقليداً سائغاً ، واستثنى القاضي في الأحكام السلطانية : وما ضعف فيه الخلاف".
ولما حج المنصور قال لمالك : "قد عزمتُ أن آمر بكتبك هذه التي وضعتها فتُنسخ ، ثم أبعث في كل مصر من أمصار المسلمين منها نسخة ، وآمرهم أن يعملوا بما فيها ولا يتعدوه ،
فقال : ياأمير المؤمنين لاتفعل هذا ، فإن الناس قد سبقت إليهم أقاويل ، وسمعوا أحاديث ، ورووا روايات ، وأخذ كل قوم بما سبق إليهم ، ودانوا به من اختلاف الناس ، فدع الناس وما اختار كل أهل بلد منهم لأنفسهم". وتنسب هذه القصة أيضاً إلى هارون الرشيد مع الإمام مالك.
فما أحرى علماءنا في هذا الزمان إلى التأدب بهذه الآداب ، وترك التعصب لأي مذهب من المذاهب ، حتى نئد كل فتنة دهماء ، وعصبية عمياء.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
والحمد لله رب العالمين