نحو خطة منهجية للتخلص من الطائفية

نحو خطة منهجية للتخلص من الطائفية

  

نحو خطة منهجية للتخلص من الطائفية

 

أ.د. محمد السيد الدسوقي

الأستاذ بكلية دار العلوم – جامعة القاهرة

 

 بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خاتم الهداة والمرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحابته أجمعين ومن دعا بدعوته إلى يوم الدين... وبعد.

فهذه كلمة مجملة عن موضوع واسع ومهم، وهو الطائفية ويتركب منهجها من تمهيد وثلاثة مباحث وخاتمة.

عرف التمهيد بالطائفية وأنواعها ومتى ظهرت في المجتمع الإسلامي، ومدى خطورتها على هذا المجتمع.

ودرس المبحث الأول موضوع نشر ثقافة الحوار بين أبناء الأمة الواحدة من أجل القضاء على الطائفية التي ما زالت تحول دون وحدة جامعة وتقريب بين المذاهب.

وتناول المبحث الثاني في إيجاز طرفاً من المحاولات التي تشكك في الدعوى إلى التقريب وبيان تهافت أدلتها ومنطلقاتها.

ويدعو المبحث الثالث إلى مؤتمر جامع لمدارسة أحوال المسلمين اليوم ووضع الحلول العملية وحل المشكلات التي تعوق حركة الانطلاق نحو بناء الأمة الإسلامية الواحدة.

وسجلت الخاتمة أهم النتائج وبعض التوصيات.

والله ولي التوفيق

تمهيد

مفهوم الطائفية وأنواعها

الطائفية مصدر صناعي من الطائفة، ويعرف المعجم الفلسفي([1]) الطائفية بأنها جماعة مغلقة اجتماعياً أساسها الوراثة والولاء، وتتميز من الطبقة بأنها تقوم عادة على أساس ديني، وأنها أكثر انغلاقاً.

وقد توسع أخيراً في مفهوم الطائفية بحيث أصبحت تختلط بالطبقة وتستعمل مجازاً للذم والطائفية من الكلمات التي لها دلالة محدثة، وهي تعني التعصب لطائفة معينة، وإذا اتسع نطاقها في مجتمع ما فإنها تمزقه وتحول دون وحدته وقوته.

والطائفية لها أنواع متعددة، أو مظاهر متنوعة، فقد تغلغلت في حياة المجتمع الإنساني بحيث أضحت أمراً مألوفاً في هذا المجتمع، فعلى المستوى العالمي تعبر الأحلاف العسكرية والمذاهب السياسية والاقتصادية، والنزعات العنصرية، وفرض الهيمنة على مصادر الطاقة، وفتح الأسواق في كل دول العالم لمنتجات الدول الكبرى تحت شعار العولمة والتجارة الحرة عن صور من الطائفية التي جلبت على البشرية كل المشكلات الدولية، ومن أهمها احتلال الشعوب وإراقة الدماء وامتهان حقوق الضعفاء، وإخضاعهم لما يحقق مصالح تلك الدول.

ومن صور الطائفية الدولية التعصب لنوادي الكرة، وهو تعصب لا يعرف الروح الرياضية، وإنما تسيطر عليه مشاعر الرغبة في الانتصار، فإذا لم تنل ما تمنى تحولت هذه المشاعر إلى طاقة مخربة ومعتدية.

وأخطر أنواع الطائفية يتمثل في القضايا الفكرية، ففي المجتمع الإسلامي صراع حول المفاهيم الغربية والسعي لفرضها على الأمة دون اعتبار لخصائصها الذاتية وهويتها العقدية والحضارية، إنه صراع لا يريد للإسلام بقيمه الخالدة وتشريعاته المحكمة أن تسود وتعود، وينادي بفصل الدين عن الدولة وهذا الصراع من ورائه قوى تبذل من الأموال الكثير من أجل أن ينجح في مهمته وهي إضعاف الإسلام، وإبعاده عن الحياة.

ويعد التعصب المذهبي الفقهي والكلامي بين المسلمين في العصر الحاضر من مظاهر الطائفية التي جعلت منهم فرقاً متدابرة فكل فرقة تعتقد بأنها وحدها على الحق وأن ما سواها ليس في مستوى ما تؤمن به وتحامي عنه وتدعو إليه.

وهذا التعصب المذهبي لم تعرفه الحياة العلمية في القرون الثلاثة الأولى، فقد كانت الروح السمحة تسود هذه الحياة، وكان الفقهاء والعلماء يتواصلون عن طريق الرحلات والمراسلات واللقاءات العلمية في مواسم الحج، ويحترم كل منهم الآخر احتراماً بالغاً ويؤمن بأن الاختلاف في الرأي مصدر ثراء وحرية للفكر لا مصدر صراع وتعصب وإلغاء للآخر.

ولأن الاجتهاد كان السمة العامة في تلك القرون، لا فرق في ذلك بين الأئمة الذين عزيت إليهم المذاهب وبين تلاميذهم، فهم جميعاً مجتهدون مستقلون – كان من يعرض له من الناس أمر يحتاج إلى فتوى يلجأ إلى من يلقاه من الفقهاء، كائناً من كان فيعمل بما يفتيه([2])، قال أبو طالب المكي: إن الكتب والمجموعات محدثة والقول بمقالات الناس، والفتيا بمذهب واحد من الناس واتخاذ قوله والحكاية له من كل شيء والتفقه على مذهبه لم يكن الناس قديماً على ذلك في القرنين الأول والثاني([3]).

وبعد أن تبلورت أصول المذاهب، وانقسمت الأمة إلى طوائف متعددة لم تكن ظاهرة الطائفية قد سادت وتحكمت في الحياة الفقهية والكلامية ، وإن بدت إرهاصاتها فيما صدر عن فقهاء المذاهب من أقوال وآراء، وتعد القرون الثلاثة التي أعقبت نشأة المذاهب عصر ازدهار للفقه المذهبي وعلم الكلام، ومن ثم عرفت لوناً من الاجتهاد في نطاق المذهب لا في نطاق الشرع، فهو اجتهاد مقيد وليس بمطلق، وكان نشاط الفقهاء في هذا المجال لوناً من السباق العلمي الذي خدم الفقه والكلام ورتب أبوابه وفصوله، وفي الوقت نفسه كان من الأسباب التي حفظت لنا فقه الأئمة المجتهدين، وعملت على تنميته وكثرة الكتابة فيه كتابة موسوعية وموجزة في آن واحد.

وعرفت الفترة الزمنية التي تلت عصر ذلك الازدهار، ظاهرة التقليد والتعصب، ومن ثم افتقدت عنصر الابتكار والإبداع، وكان للطائفية نشاطها بين أتباع المذاهب، ولم يعد هذا النشاط مقصوراً على الاختلاف في الآراء، وإنما تجاوز هذا إلى سفك الدماء وتبادل عبارات التنقص والازدراء.

ولما مني العالم الإسلامي بالاحتلال الغربي كان من أهم أهداف هذا الاحتلال تمزيق وحدة هذا العام وإحياء نعرة ا لجنسية الإقليمية بين شعوبه، وإثارة المشكلات حول الحدود والمياه الإقليمية ازداد نشاط الطائفية، وصدرت وما زالت تصدر دراسات ومؤلفات تحبذ الطائفية، ومع هذا يفرض الواقع المعاصر للأمة، وهو واقع يشهد تآمراً دولياً عليها، وليس أدل على ذلك من الدماء التي تراق في العديد من الأقطار الإسلامية بأيدي المسلمين في حماية عسكرية صليبية لهذا التنازع ومن أجل إضعاف الأمة ونهب ثرواتها والحيلولة بينها وبين جمع كلمتها – هذا الواقع يفرض بذل الجهود العلمية من أجل التخلص من الطائفية وآثارها المدمرة لروابط الأخوة الإسلامية.

المبحث الأول

نشـــر ثقافــــة الحــــوار

إن نشر ثقافة الحوار يعد ضرورة قصوى ومطلباً حياتياً ذا أثر بالغ لكونه المنطلق الأول لقواعد الاتفاق، والمرتكز الأساسي لقبول الجدل العلمي الموصل إلى أحد مقاصد الإسلام العظيمة، وهو التآلف والتقارب والتناصح.

وإذا كان الإسلام في مفهومه التشريعي قد أوجب الحوار الحسن والجدل المقنع مع الكفار والمشركين، قال تعالى: )ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ( (النحل / 125)، فهو بالأولى والأحرى إلزامي عند مقتضيات التحاور بين الأخوة المسلمين وبخاصة في أهم القضايا التي تواجه الأمة في حاضرها، وهي قضية الطائفية التي تهدد الروابط الإسلامية الجامعة، وتضعف الصلات الأخوية بين أبناء الأمة الإسلامية الواحدة.

ونشر ثقافة الحوار مهمته تبادل المعرفة وقبول الحجة المنطقية المدعمة بالدليل الشرعي الصحيح دون جمود أو عصبية مذهبية أو عرقية أو أي نوع من أنواع العصبيات الذميمة المخالفة للقواعد الإسلامية، على أن يقتصر الجدل والحوار وتداول الحجة العلمية الصحيحة شرعاً وعقلاً على العلماء والفقهاء وأهل الذكر من المجتهدين ممن بلغوا من العلم مبلغاً يؤهلهم لدخول هذا الميدان الحيوي المهم([4]).

والمعلوم من الدين بالضرورة أن مجال الطائفية الفكرية في الأمة هو الفروع الفقهية والكلامية، لأن ما سوى هذه الفروع من الكليات والمقاصد العامة وما هو قطعي في ثبوته ودلالته لا مجال فيه للاختلاف والاجتهاد، وقد أجمعت الأمة كلمتها حوله، فلا سبيل للطائفية إليه، ومن ثم تصبح ثقافة الحوار في موضوعية بين العلماء والمفكرين هي الطريق الأمثل للوقوف على وجهات النظر المختلفة، والجدل بالتي هي أحسن حولها، فبهذا يقف كل الأطراف على الآراء والأفكار الخاصة، وتسعى لتضييق دائرة الاختلاف بينها، وتجعله في النطاق المشروع، وهو النطاق الذي يحترم الخصوصية المذهبية دون أن يجور هذا على الوحدة الإسلامية، مع نبذ كل ما يتعارض مع هذه الوحدة.

وما دام مجال الطائفية هو الفروع الفقهية والكلامية فإن مهمة نشر ثقافة الحوار ينبغي أن تسترشد بما صدر عن الأئمة جميعاً من آراء لا تعرف التعصب الفكري، وإنما تؤمن بالتواصل والتعاون العلمي، لأن هؤلاء الأئمة كانوا يصدرون عن مصدر واحد، وكانوا مثلاً للتواضع واحترام الرأي الآخر، وكانوا ينهون تلاميذهم عن التعصب، ويحضونهم على الاجتهاد وينبهونهم إلى أن آراءهم عرضة للخطأ والصواب ولا يجوز الأخذ بها إلا بعد التقين من صحتها، فهذا الإمام جعفر الصادق يقول: اسأل العلماء ما جهلت، وإياك أن تسألهم تعنتاً وتجرية، وإياك أن تعمل برأيك شيئاً، وخذ بالاحتياط في جميع ما تجد إليه سبيلاً([5]).

ويقول الإمام جعفر الصادق أيضاً: العامل على غير بصيرة كالسائر على غير الطريق لا تزيده سرعة السير إلا بعداً([6]).

ويقول الإمام أبو حنيفة: علمنا هذا رأي وهو أحسن ما قدرنا عليه، فمن جاءنا بأحسن منه فهو أولى بالصواب، ويقول أيضاً: لا يحل لأحد أن يأخذ بقولنا حتى يعلم من أين قلنا.

وجاء عن الإمام مالك: إنما أنا بشر أخطئ وأصيب فانظروا في رأيي، كلما وافق الكتاب والسنة فخذوا به وما لم يوافق الكتاب والسنة فاتركوه.

وهذا الإمام الشافعي يقول لصاحبه الربيع: يا أبا إسحاق لا تقلدني في كل ما أقول، وانظر في ذلك لنفسك فإنه دين.

وروي أن الإمام أحمد بن حنبل كان يقول لتلاميذه: انظرا في أمر دينكم فإن التقليد لغير المعصوم (يقصد رسول الله r) مذموم، وفيه عمى للبصيرة، وقال أيضاً: لا تقلدني ولا مالكاً ولا الشافعي ولا الثوري وخذ من حيث أخذوا([7]).

ولكن ما حذر منه الأئمة وقع فيه التلاميذ، فقد أخذ هؤلاء يذيعون بين الناس آراء الأئمة، وهو أمر لا بأس به، ولكن البأس جاء من ناحية أن تلامذة كل إمام تعصبوا لآرائه ونسوا أن هذه الآراء اجتهادية، وفهم بشري للنصوص الشرعية، فلا يصح أن تؤدي إلى تعصب وتحزب وإنما يجب أن تظل آية على حيوية الفكر الإسلامي وخصوبته وثرائه وأن تكون الثروة الفقهية للأئمة ملكاً للأمة كلها تنتفع بها في حاضرها ومستقبلها.

ولكن أتباع المذاهب وبخاصة المتأخرين منهم صوروا المذهبية على أنها التزام مذهب معين، ولا يجوز لأحد أن يعمل بغير مذهبه، وعليه أن يقبل آراء المذهب دون مناقشة لها أو اعتراض عليها، وقد أفتى بعضهم بأنه لا يجوز الانتقال من مذهب إلى آخر وأن من فعل هذا يعزر([8]).

إن نشر ثقافة الحوار منطلقها التذكير بما جاء عن أئمة المذاهب من أقوال أومأت آنفاً إلى طرف منها مع التأكيد على أن ما حكم الحياة المذهبية من تعصب تطور إلى صراع بين أتباع الأئمة يدل على مخالفة واضحة لما قاله هؤلاء الأئمة ودعوا إليه، ولا يعني هذا الدعوة إلى إلغاء المذهبية، وإنما هو الحرص على أن يسود بين أتباع المذاهب التفاهم الذي يبرأ من التعصب ويضيق به، فقد ثبت علمياً أن مصادر كل المذاهب واحدة، وإن اختلفت مسميات بعض هذه المصادر، لأنها كلها ترجع إلى النص والاجتهاد، ومن ثم كان أوجه الالتقاء والاتفاق بين المذاهب الفقهية أكثر وأوسع من أوجه الاختلاف([9]).

وحتى يكون لنشر ثقافة الحوار دور فاعل في التخلص من الطائفية ينبغي أن تسود روح التسامح بين الجميع في الأقوال والأفعال، والتسامح يعني اللين والتساهل والجود والكرم وهي صفات يتحلى بها المسلم، لأن عقيدته تأمر بالحفاظ عليها، والدعوة إليها، ومن ثم لا يعرف في تصرفاته غلظة أو جفوة أو تعصباً، وإنما يعرف حقوق الأخوة الإسلامية من المودة والمحبة والاحترام المتبادل في الآراء والاجتهاد والنظر إلى المذاهب نظرة علمية رشيدة ترفض أن تكون سبباً للتعصب والصراع، وإنما تجعل منها آية من آيات حرية الفكر والرأي في الإسلام.

وإذا كانت الدعوة إلى التسامح تحض على القيم الأخلاقية التي بعث محمد r لإتمامها فإن من هذه القيم العمل دون كلل أو ملل لتوحيد الأمة والتقريب بين مذاهبها، وهذه مهمة العلماء فإذا قاموا بها على أحسن وجه، فأفاضوا القول في مساوئ التعصب وأسهبوا في ضرورة التقريب ومنافعه، فبهذا تنتشر ثقافة التقريب وتتضاءل أو تنمحي مفتريات التعصب، فتلتقي الأمة على كلمة سواء وتكون عن جدارة خير أمة أخرجت للناس.

ويدعم ما سبق الحدث عنه المشاريع العلمية والثقافية والاجتماعية المشتركة، فهذه المشاريع على تنوعها تحقق لوناً من التكافل والتكامل والتعاون بين الشعوب الإسلامية، وتوثق عرى المودة والثقة والتفاهم حول ما ينفع الأمة، ويشد أزرها، ويرد كيد الأعداء عنها.

على أن نشر ثقافة الحوار لا يجوز أن تظل في دائرة العلماء والمفكرين، وإنما يجب أن تتجاوز هذه الدائرة لتخاطب جمهرة المثقفين والمتعلمين، والسبيل إلى ذلك اللقاءات العلمية والفكرية بين قادة الرأي والعلماء والمفكرين والفقهاء وبمشاركة الأجهزة المختصة المعنية سواء منها ما كان على المستوى الرسمي، أو على مستوى المنظمات الحكومية وغير الحكومية العاملة في إطار العمل الإسلامي بقصد توسيع دائرة الحوار وشموليته لأكبر جمهور إسلامي ممكن، وبفرض تضافر العمل المشترك، وتبادل الرأي والمشورة، وانتشار أضوائه على كل بقاع العالم الإسلامي، وليسهل التعريف بالأنشطة التي تستهدف التقريب والتلاحم الفكري والمذهبي بين أفراد المسلمين.

ولا خلاف في أن ملتقيات الشباب ومعسكراتهم التي تتكرر سنوياً من أهم مجالات نشر ثقافة الحوار، وتقديم الصورة الصحيحة عن الإسلام والمذاهب الفقهية والكلامية، وضرورة الوحدة الإسلامية، التي تبين الحقائق عن صور الاختلافات بين العلماء، وتتضح الصورة الصحيحة عن المذاهب الإسلامية، وأنها ليست عقبة في طريق التقارب والوحدة ولكن التعصب لهذه المذاهب هو الذي يجعل منها عقبة تحول دون جمع الكلمة وتحقيق التقارب والوحدة.

ويمكن للجامعات والمعاهد ومدارس التعليم مجتمعة ومنفردة وكذلك مراكز البحث والدراسات المتخصصة والمساجد ووسائل الإعلام المسموعة والمرئية والمكتوبة أن تسهم بدور إيجابي في توجيه عقول الناشئة، وتبصيرهم بالحقائق التي تؤهلهم للعمل من أجل تحقيق مقاصد التقريب.

إن رسالة نشر ثقافة الحوار الموضوعي تتلخص في فهم الحقائق، وضرورة ا لتقريب، واعتصام الأمة كلها تحت راية الوحدة الإسلامية مع احترام المذاهب، والأخذ بالمبدأ القائل: نلتقي حول ما اتفقنا عليه ويعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه )وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ( (الحج / 40).

المبحث الثاني

الكــــف عــــن الاستفــــزاز

على الرغم من أن الدعوة إلى التقريب بين المذاهب الإسلامية قد مضى عليها نحو مائة عام، وصدر بشأنها أبحاث ومؤلفات، وعقدت ندوات ومؤتمرات، بل وأسس لها مجمع خاص وأقيم حتى الآن ثلاثة وعشرون مؤتمراً للوحدة الإسلامية، بالإضافة إلى استراتيجية التقريب بين المذاهب، والتي اعتمدها المؤتمر الإسلامي لوزراء خارجية الدول الإسلامية في دورته الثلاثين في طهران في المدة من 28-31 مايو 2003 - على الرغم من كل هذا ما زالت المحاولات المناوئة لدعوة التقريب تبذل جهدها ونشاطها ويتردد على ألسنة القائمين عليها بعض الأفكار والأقوال التي لا تعترف بها مصادر صحيحة، أو أنها صدرت في عصر سادة التعصب والجهل، ولم يعد لها وجود الآن.

وقد لاحظت أن بعض الباحثين يكررون في مؤلفاتهم مسائل عفى عليها الزمن، وليس في ذكرها وتكرارها مصلحة للمسلمين، بل تساعد على مزيد من التمزق الإسلامي والصراع الطائفي، ومع هاذ يصر هؤلاء على ذكرها، ويتخذونها ذريعة لمحاربة التقريب واتهام دعاته بأنهم يسعون لغاية غير إسلامية.

ومما يؤسى له أن جماهير الأمة السنية تتقبل هذه الأقوال عن جهل، وعدم معرفة بضرورة التقريب، وما استقر في وجدانها من أفكار غير صحيحة، وبذلك تتوجس خيفة من دعوة التقريب.

وأذكر فيما يلي كشاهد على ما أومأت إليه طرفاً من هذه المواقف عن تجربة شخصية لأستاذين جامعيين سمعت أحدهما منذ نحو شهرين يتكلم في إذاعة مرئية وقد انصب كلامه إجابة عن سؤال من أحد المشاهدين، ذكر في هذه الإجابة أن الدعوة إلى التقريب ستار لنشر المذهب الإمامي بين أهل السنة، ويحذر علماء السنة من التغاضي عن هذا ا لأمر، وعليهم أن يوضحوا المخاطر التي تترتب على هذا السلوك من فقهاء المذهب الإمامي، وأخذ الشيخ يكرر هذه الكلمة ويحذر الأمة منها ويحض العلماء على التصدي لها، وبيان مثالبها، ولكنه مع حماسه الشديد في مهاجمة المذهب الإمامي لم يذكر شاهداً واحداً على خطورة هذا المذهب، وأن بينه وبين المذاهب السنية اختلافات جوهرية في الفقه والأصول وعلم الكلام، وإنما هي أحكام مرسلة، وآراء لا يعضدها دليل أو مصدر علمي.

ومرد خطورة ما قاله هذا الشيخ أن الإذاعة المرئية قناة فضائية يشاهدها جماهير الأمة الإسلامية، وأن ما قاله الشيخ كان إجابة عن سؤال من مشاهد من دولة من دول المغرب العربي.

أما الأستاذ الثاني فقد ألف كتاباً صدر منذ عام حمل فيها على الشيعة فهم يسبون الصحافة ويتهمون السيدة عائشة رضي الله عنها بما لا يليق بمكانتها كزوجة للرسول r، وأن لقاتل عمر ابن الخطاب قبراً في إيران يزار، وانتهى من هذا وغيره من أمور لا دليل عليها إلى أنه التقارب غير ممكن مع الشيعة.

إن مثل هذه الأفكار التي تشوه صورة المذهب الإمامي وتثير الخوف من العمل التقريبي، والتي تذيع ما ينفر من الشيعة هي للأسف أفكار استفزازية تعمق هوة الخلاف والتدابر بين المذاهب الإسلامية، وتمثل مقاومة لكل الجهود التي تبذل من أجل وحدة الأمة في عصر تتربص فيه القوى المضادة بهذه الأمة، وتسعى للحيلولة بينها وبين أن تقوى وتنهض وتستعيد تاريخها المشرق بالقوة والحضارة الإنسانية، لتكون بحق خير أمة أخرجت للناس.

ومع الاعتراف بأن تلك المواقف غير الموضوعية يضيق بها أهل الحكمة والعقل ودعاة العمل الإسلامي الذي يتوخى خدمة الأمة قاطبة فإن على هؤلاء الذين يثيرون مثل تلك الشبهات أن يكفوا عن إذاعة مثل هذه الأفكار التي لا تخدم سوى أعداء الأمة، والتي تساعد على تفرق الكلمة وتجعل من الدول الإسلامية لقمة سائغة للذين لا يريدون لهذه الأمة استقراراً ونهضة بل ولا يريدون لدينها أن تكون له الكلمة العليا في حياة المجتمع الإنساني ولعل نشر ثقافة الحوار مع هؤلاء هو الوسيلة العملية للإقناع وأنهم ليسوا على صواب فيما ينادون به، وأن عليهم أن يتخلوا عن الإسراف في تكرار ما ليس له وجود في واقع الحياة الإسلامية اليوم، والقضية مع هذا في حاجة إلى جهود متواصلة لجمع الكلمة وبيان الحق في الجهود التي تبذل للتقريب، وأنه الملاذ للحماية والتطور والتكامل الإسلامي في شتى المجالات.. والله المستعان.

المبحث الثالث

الـمؤتمــــر الجامــــع

إن البلبلة التي تحدثها آراء المتحاملين على دعوة التقريب إذا كان نشر ثقافة الحوار سيخفف من غلوائها إن لم يستطع التخلص منها فإن الدعوة إلى مؤتمر جامع يضم المؤسسات الدينية في العالم الإسلامي فضلاً عن كبار العلماء في كل المذاهب خطوة عملية على أن يسود بين المذاهب المعتبرة تعاون وثيق وتفاهم عميق وتقارب يزيل الشك ويؤكد صدق النوايا ويعبر عن الأخوة الإسلامية ويعمل على وحدة الكلمة ونبذ الفرقة، وألا يكون الخلاف في الرأي بين الفقهاء سبباً للعداء والنفور، وإنما يعبر عن ثراء الفكر واحترام حرية الرأي.

إن لقاء أهل الذكر في هذا المؤتمر الجامع، يمكن أن يكون خطوة جادة على طريق توضيح الحقائق والتخلص من الشبهات، والتقاء الشمل، ما دامت تحكمه الصراحة والموضوعية والدقة العلمية سيكون لها الكلمة الأولى في الحوار والنقاش بين المؤتمرين، فلا مراء في أن كل مسلم مهما يكن انتماؤه المذهبي لا يرغب في العمل الذي يحقق للأمة العزة والكرامة والتعاون على البر والتقوى، وتكمن المشكلة في الفهم الخاطئ أو الموروث الثقافي، وتصحيح هذا الفهم، وبيان أن هذا الموروث ليس فكراً مقدساً ولا تاريخاً يجب الحفاظ عليه وعدم التفريط فيه لأنه في مجمله فهم بشري لبعض النصوص، وهذا الفهم لا عصمة له، ولا قداسة، واللقاء في هذا المؤتمر الجامع هو الذي سيعالج هذه المشكلة ويقدم الحلول العلمية لها، مهما يكن بين المؤتمرين من اختلاف في بعض الآراء.

إن العالم اليوم يعيش عصر التكتلات والتجمعات البشرية، والأحرى بالأمة الإسلامية التي تدعو شريعتها إلى الوحدة مهما اختلفت الألسن والألوان والأجناس، ومن ثم كان العمل من أجل هذه الوحدة فريضة، وكان السعي للتفريط في هذه الوحدة جريمة منكرة، وإنه من المؤسف أو المحزن أن العالم الإسلامي اليوم يعيش عصر الفردية والصراعات القبلية، وإراقة الدماء بأيدي المسلمين ثم نزعم أن إسلامنا دين الوحدة ودين السلام وليس بين كثير من الشعوب الإسلامية سلام أو وئام، كما أن الوحدة ليست إلا تصريحات جوفاء، ودعاوى ليس لها في الواقع حقيقة ملموسة.

إن المؤتمر الجامع ضرورة إسلامية اليوم لمعالجة المشكلات الدامية التي تعاني منها الأمة، والتي تكلفها من ا لأموال والأرواح ما هي في غنى عنه حتى تعيش في أمن واستقرار وتبني مستقبلها في قوة ولا تعطي الفرصة لأعدائها لكي ينالوا منها.

وأرى أن منظمة المؤتمر الإسلامي هي صاحبة الدعوة الأولى لهذا المؤتمر وأقترح أن تصدر توصية من هذا المؤتمر الثالث والعشرين للوحدة الإسلامية بدعوة هذه المنظمة إلى تبني العمل من أجل المؤتمر الجامع وتحديد مكان انعقاده ووضع خطة العمل له... والله ولي التوفيق.

الخاتمة

بعد هذه الإطالة المجملة عن الطائفية ونشر ثقافة الحوار والكف عن الاستفزاز والدعوة إلى المؤتمر الجامع ما أهم النتائج العلمية لهذه الإطالة، وما التوصيات التي توحي بها:

إن أهم التوصيات ما يلي:

1- الطائفية مرض اجتماعي وبخاصة إذا صاحبه التعصب والانغلاق والزعم بصحة الرأي على وجه الإطلاق.

2- إن الحوار العلمي الموضوعي بالتي هي أحسن هو الخطوة العلمية نحو التخلص من الطائفية.

3- إن نشر ثقافة التشكيك وسوء الظن معول يهدم البنيان الإسلامي.

4- إن المؤتمر الجامع ضرورة لحماية الواقع الإسلامي من مزيد من التدهور والصراع الدامي.

5- أما التوصيات فأهمها: دعوة كل أهل الذكر في الأمة مهما تكن مراكزهم إلى التعاون من أجل حماية الوحدة الإسلامية، ونشر قاعدة "نلتقي حول ما اتفقنا عليه ويعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه".





--------------------------------------------------------------------------------

([1]) انظر المعجم الفلسفي، ص111، إصدار مجمع اللغة العربية بالقاهرة.

([2]) انظر ضحى الإسلام للدكتور/ أحمد أمين، ص240، ط النهضة المصرية، القاهرة.

([3]) انظر قوت القلوب، ج1، ص324، طبعة الحلبي بالقاهرة.

([4]) استراتيجية التقريب بين المذاهب الإسلامية، ص109.

([5]) الإمام جعفر الصادق للأستاذ/ عبد الحليم الجندين ص314ن ط دار المعارف، القاهرة.

([6]) انظر المصدر السابق، ص315.

([7]) انظر المدخل للفقه الإسلامي للأستاذ/ محمد سلام مدكور، ص103، هامش.

([8]) انظر الدر المختار المطبوع على هامش رد المحتار لابن عابدين، ج3، ص207، والتعزير عقوبة غير مقدرة يفوض تقديرها إلى القاضي، وهي تجب حقاً لله أولآدمي، في كل معصية ليس فيها حدود ولا كفارة، (انظر التعزير في الشريعة الإسلامية للدكتور/ عبد العزيز عامر.

([9]) انظر أسباب الاختلاف بين الفقهاء للشيخ/ علي الخفيف.