التقريب بين المذاهب الإسلامية وفقه الائتلاف في فكر الشيخ التسخيري
التقريب بين المذاهب الإسلامية وفقه الائتلاف
في فكر الشيخ التسخيري
الدكتور محمد بلبشير
استاذ جامعة تلمسان ـ الجزائر
بسم الله الرحمن الرحيم
« نحن ندعو بجد لإعادة الحالة المذهبية إلى وضعها الطبيعي عبر إشاعة روح الحوار الإسلامي البناء، والتآلف القلبي، والبحث عن المساحات المشتركة، وهو ما نعبر عنه بـ (حركة التقريب بين المذاهب الإسلامية).» (الشيخ محمد علي التسخيري).
لقد بات من الواضح أنّ مسألة التقريب بين المذاهب الإسلامية وتوحيد صفوف الأمة الإسلامية ،أمام ما يحدث لها من تحديات ومخاطر وعداء للإسلام ، أمل من الآمال الّتي يتطلع إليها كل مصلح غيور على هذه الأمة في العالم الإسلامي .
والحديث عن التقريب بين المذاهب الإسلامية ، هو حديث عن صورة من صور العلاقات الفكرية والاجتماعية والإنسانية ، ضمن إطار الأمة الواحدة، يتجه بقوة إلى تبيين نوازع الاختلافات المذهبية والطائفية، ليتم الوقوف عليها والعودة إلى مصادرها الصحيحة، تحقيقا للهدف الأسمى المتمثل في إعادة اللحمة بين أبناء الإسلام وتجذ يرها في قلوبهم، وتضييق هامش الفرقة بين أتباع الأمة الإسلامية.
من هذا المنطلق تأتي مداخلتي " التقريب بين المذاهب الإسلامية وفقه الائتلاف في فكر الشيخ التسخيري". واختيار إطلاق " فقه الائتلاف" بدلا من فقه الاختلاف، مع أن غاية التسميتين واحدة، لأنّ في الائتلاف يتضح الهدف الأسمى الذي نرمي إليه ، وهو تقريب الفجوة بين عقول وأفكار أبناء الأمة الإسلامية ، على اختلاف مذاهبهم وطوائفهم ، وردمها بين القلوب والمشاعر، لأنّ المشكلة ليست في الاختلاف بين المذاهب أو في تعدد مناهجها أو تنوع اجتهاداتها، وإنما المشكلة في طريقة الفهم والنظر لهذا الاختلاف والتعدد والتنوع.
كما تسعى الدراسة إلى تبلور مفهوم التقريب بين المذاهب الإسلامية لدى الشيخ محمد علي التسخيري حفظه الله ورعاه، وذلك لأنه من أكبر دعاة التقريب بين المذاهب الإسلامية ، وأعلم بالأسس والمبادئ التي يعتمدها التقريب، وأكثر أثرا في توحيد الصفوف وتحقيق خصائص الأمة الإسلامية.
ولعل من أوليات مهامنا تجاه العلماء، دراسة مشروعاتهم الفكرية والثقافية، وقراءة تجاربهم الإصلاحية، حتى يتسنى لنا استيعاب العبر ، وهضم المحاور الكبرى لتلك التجارب والمحاور.
فما مفهوم التقريب بين المذاهب الإسلامية في فكر الشيخ التسخيري؟
وما القيم والأسس التي ينبغي أن يلتزم بها التقريبيون؟
وما أهمية نشر ثقافة التقريب بين أبناء الأمة الإسلامية ؟
وسعيا لتحقيق أسس ومقومات وحدة الأمة الإسلامية ، والإحساس بأهمية التقريب بين شعوب الأمّة الإسلامية وفقهاء المذاهب الإسلامية ، تأتي هذه المداخلة في عرسكم العلمي الثالث والعشرون للوحدة الإسلامية للمجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية الّتي ما فتئ سمعته تزداد بين الأوساط العلمية الإسلامية والعالمية ، خدمة للأمة الإسلامية وجمع شملها.
أوّلا: حركة التقريب بين المذاهب الإسلامية.
ممّا لا ريب فيه أنّ وحدة الأمّة والتقريب بين وجهات النظر المختلفة للمذاهب سواء أكان فيما يقع للناس في أمور معاشهم وطرائقها ، أم كان في نظرتهم – مثلا – لبعض الفروع الفقهية واختلافهم بشأنها من جهة ما يعتريها من أحكام ، ونقل صورة مثلى للإسلام يحتاج إلى تعاون بين مختلف العلماء من مختلف المذاهب الإسلامية ، وقد بذل بعض القادة والعلماء جهودا مشكورة في هذا السبيل([1]).
ففي سنة 1364ﻫ دعا الشيخ محمد تقي الدين القمّي رحمه الله إلى التقريب بين المذاهب الإسلامية تحت اسم "جماعة التقريب" وسجلت بهذا الاسم وضمّت نخبة من كبار علماء مصر منهم الشيخ محمود شلتوت والشيخ عبد المجيد سليم والشيخ إبراهيم حمروش والشيخ محمد المدني وغيرهم ، وكان من نتائج عملها أن درست في كليات الشريعة بالأزهر بعض المذاهب الشيعية([2]).
كما شهد هذا العصر تلاحقا فكريا واسعا بين العلماء عن التقريب بين المذاهب الإسلامية، فكانت هناك مؤتمرات وندوات علمية مختلفة ، مثل مؤتمر التقريب بين المذاهب الإسلامية الذي انعقد في البحرين يوم 2003-09-24م ،ومؤتمر المنظمة الإسلامية للعلوم والثقافة (مؤتمر القمة الإسلامية العاشر بماليزيا سنة2003)، ومؤتمر الدوحة من 20 إلى 22 يناير 2007 الذي كان تحت شعار "دور التقريب في الوحدة العلمية" ، وملتقى "التقريب في الفكر والوحدة في العمل" المنعقد بكينيا في مارس 2007 ، وما يقوم به المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب بطهران من نشاط أحسن دليل على نية العلماء في التقريب بين المذاهب الإسلامية وتوحيد كلمة الأمة ولمّ شملها.
ففكرة التقريب بين المذاهب الإسلامية تمتلك جذورا تمتدّ إلى أقدم العصور الإسلامية ، كما يقول الشيخ آية الله محمد علي التسخيري([3]) لأنّها تستمد أصالتها وحيويتها من أصول الشريعة الغراء ، وتتضح ضرورتها كلّما اتسع نطاق مسؤولية هذه الأمة في صنع الحضارة الإنسانية أو الإسهام الفاعل فيها على الأقلّ. ومواجهة التحديات والمخاطر المحدقة بها.
أ- أهمية التقريب بين المذاهب الإسلامية :
تنطلق أهمية التقريب بين المذاهب الإسلامية من مكارم الشريعة الغراء، ومن مدلـولات التشريع ومقـاصده الرامية إلى توحيد الأمة الإسلامية وفق الأمر الإلهي يقول تعالى:
} وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103) وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104) { [سورة آل عمران، الآية : 103 ـ 104].
ـ كما تنطلق هذه الأهمية من مقتضيات حال المسلمين وواقعهم – كما أشرنا سابقا– وممّا تحتمه مصلحتهم المشتركة من وجوب التعاون والتآزر والوحدة «فالوحدة الإسلامية هي الوسيلة الوحيدة لمواجهة التحديات الّتي تواجهها الأمة الإسلامية ويتعيّن على جميع المسلمين في الظروف الحساسة الحالية اعتماد الوحدة. وإنّ التقريب بين المذاهب هو السبيل الوحيد للوحدة »([4]) .
ـ تضييق رقعة الخلافات المذهبية والحدّ من انتشار ظاهرة التعصب المفضية إلى التفرقة والفتن ، وجسرا متينا لترسيخ قيم الائتلاف والتسامح وإتباع صراط الرشاد الهادي إلى تماسك الأمة وتدعيم عناصر وحدتها([5]) .
ـ إنّ التقريب بين المذاهب الإسلامية سيؤدي حتما إلى انبعاث ثقافي للأمّة ، إذ ستتضاعف الأعمال المعرفية حين يكسر كل جانب عقدة الوهم من الجانب الآخر ، ويلتمس الفائدة الحقيقية من مؤدى اجتهاداته فيما أصاب فيه... كما له أثر على الناحية الاقتصادية والسياسية... ([6]) .
غير أنّ مفهوم التقريب بين المذاهب الإسلامية لا يعني نبذ المذاهب المختلفة واعتناق مذهب موحد – كما يعتقد البعض – بل هو خطوة نحو جمع المسلمين وإشباعهم روح التفاهم والتعارف والتآلف فيما بينهم، والتقائهم بعد تنافرهم وتباعدهم، وبيان سعة الفقه وقدرته على المواجهة والتصدي لكل التيارات المناوئة للإسلام.
فقد قامت ـ تاريخيا ـ عدّة محاولات سياسية لفرض مذهب إسلامي واحد ، باستخدام الوسائل العسكرية والإدارية ، لعلّ أشهرها محاولة المعتزلة فرض آرائهم الاجتهادية في العصر العباسي، ولكنّها لم تؤد في النهاية إلاّ إلى إضافة الضغائن على الخلافات الفكرية الاجتهادية الّتي كان ينبغي أن تبقى ضمن إطار الفكرة لا تتعدّاه([7]) .
فالذي نبحث عنه ليس قرارا سياسيا يتبنّى اتجاها محدّدا في الفقه الإسلامي ، ويحظر ما سواه ، بل إنّ ذلك سيؤدي إلى نقيض مقاصدنا في تحقيق الوحدة الإسلامية، والتقريب بين المذاهب... فذلك أمر غير وارد ، وغير مستساغ ، لاستحالة وقوعه وصعوبة التفكير فيه ، ويرفضه العقل الإسلامي، ولا يقبله منطق الحكمة ، وحول هذا الأمر نستشهد بالموقف الحكيم للإمام مالك بن أنس رضي الله عنه ، حين قدّم للعالم الإسلامي كتابه الموطأ : « قال ابن حاتم : قال مالك : ثمّ قال لي جعفر المنصور : قد أردت أن أجعل هذا العلم واحدا ، فاكتبه إلى الأمراء وإلى القضاة فيعملون به ، فمن خالف ضربت عنقه ، فقلت : يا أمير المؤمنين ، إنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم وآله كان في هذه الأمّة ، وإنّ اختلاف العلماء رحمة من الله على هذه الأمّة ، كل يتّبع ما صحّ عنده وكل على هدى وكل يريد الله »([8]).
فالإمام مالك رحمه الله رسم لنا مذهب الوحدة الإسلامية الذي نبتغي ، وهو الذي يضمن التكامل بين حركة الاجتهاد ووحدة الجماعة ، أمّا الدمج وتذويب الأفكار الاجتهادية أو تهميش أي مذهب، أمر غير مطلوب.
ثانيا: قيم التقريب بين المذاهب الإسلامية :
ما القيم الّتي نعتمد عليها لمحاولة التقريب بين المذاهب الإسلامية ؟
سعيا لجعل قضية التقريب بين المذاهب الإسلامية وتجميد الخلافات التاريخية والفقهية من بنود مرتكزات الوحدة الفكرية والثقافية بين أبناء أمتنا الإسلامية ،يضع الشيخ التسخيري سبعة قيم للتقريب بين المذاهب ، أمام كل مسلم منصف ليجد فيها الخير لكل أبناء الإسلام على اختلاف مذاهبهم وطوائفهم ، لأن الإسلام فوق المذاهب كما أنّ الأمة فوق الطوائف ، معتبرا هذه القيم خطوطا عامة للسياسات الّتي ينبغي أن يراعيها الخط التقريبـي ليحقق أهدافه المرجوة([9]) .
القيمة الأولى : التعاون فيما اتفقنا عليه.
يرى الشيخ التسخيري أن المذاهب الإسلامية تتفق في مجالات كثيرة جدًّا، كما لها مساحات مشتركة كثيرة، سواء كانت في الأصول العقائدية أم في المجالات التشريعية (والتي يصل بها بعض العلماء إلى أكثر من 90% من المساحة العامة)، أو في المجالات الأخلاقية، حيث التوافق يكاد يكون كاملاً، وكذلك في مجال المفاهيم والثقافة الإسلامية، وحتى في المسيرة التاريخية والحضارية، طبعًا في مفاصلها الرئيسية، رغم الاختلاف في تقييم المواقف المعينة.
أما المواقف العملية فهم يتفقون جميعًا على لزوم توحيدها عبر التكاتف والتكافل الاجتماعي، وعبر وحدة القرار الاجتماعي الذي تتكفله جهة ولاة الأمور الشرعيين، ولا ريب أن التعاون في المشتركات الفكرية يعني التعاضد في تركيزها في الأذهان وتجنب كل ما يؤدي إلى نقضها، وبالتالي تعميقها في مجمل المسيرة.
أما التعاون في المجالات المرتبطة بالسلوك الفردي والاجتماعي والحضاري؛ فواضح وتنضوي تحته المجالات الحياتية المختلفة من قبيل: تطبيق الشريعة الإسلامية، تعظيم الشعائر الإلهية كالجمعة والحج، وتحقيق خصائص الأمة الإسلامية كالوحدة، وهكذا..
كما يشير إلى أن حركة التقريب يجب أن تبذل قصارى جهدها لاكتشاف المساحات المشتركة هذه وتوعية الجماهير -وأحيانًا نضطر إلى توعية النخبة أيضًا- بها. كما تعمل على توسعة نطاق هذا الجانب المشترك عبر الإشارة -مثلا- إلى كون النزاع والخلاف لفظيًّا لا جوهريًّا، أو عبر التوعية بأسلوب ثالث يشترك فيه المختلفان.
القيمة الثانية: التعذير عند الاختلاف
من الأسس التي ينبغي أن نركز عليها في التقريب بين المذاهب الإسلامية يركز الشيخ التسخيري أن الإيمان بانفتاح باب الاجتهاد -وهي الحالة الطبيعية التي لا يمكن إغلاقها بقرار- وما دامت أسباب اختلاف النتائج الاجتهادية قائمة وطبيعية.. فمعنى ذلك الرضا باختلاف الآراء والفتاوى، و الجدير بالذكر هنا كما يذكر الشيخ: أننا لا نجد نهيًا إسلاميًّا عن الاختلاف في الآراء، وإنما ينصب النهي على التنازع العملي المُذهب للقوة، والتفرق في الدين والتحزب الممزِّق، وأمثال ذلك. وهذا يعبر عن عقلانية الإسلام ومنطقيته.
وعليه يقول الشيخ أنه يجب أن يُوطّن الفرد المسلم -عالمًا أو متعلمًا، مجتهدًا كان أو مقلدًا- على تحمل حالة المخالفة في الرأي، وعدم اللجوء إلى أساليب التهويل والتسقيط وأمثالها، وحينئذ يكون الخلاف أخويًّا ووديًّا (لا يفسد للود قضية).
كما يشير الشيخ إلى ورود نصوص كثيرة تدعو المؤمن للصبر والمداراة، وسعة الصدر، ويمكن عكسها على واقعنا الحالي. مثل نص الإمام الصادق (رحمه الله)، حيث جرى ذكر قوم فقال الراوي: "إنا لنبرأ منهم لا يقولون ما نقول، فقال الإمام: يتولّوننا، ولا يقولون ما تقولون، تبرؤون منهم؟ قلت: نعم، قال: هو ذا عندنا ما ليس عندكم، فينبغي لنا أن نبرأ منكم". إلى أن قال: "فتولوهم ولا تبرؤوا منهم: إن من المسلمين من له سهم، ومنهم من له سهمان.. فليس ينبغي أن يحمل صاحب السهم على ما عليه صاحب السهمين...". وتعامُل أئمة المذاهب فيما بينهم مثال رائع على هذه الحقيقة.
القيمة الثالثة : تجنب التكفير والتفسيق والاتهام بالابتداع
يعتبر الشيخ التسخيري أن مسألة التكفير من المصائب التي ابتلي بها تاريخنا، فرغم النصوص الشريفة التي تحدد المسلم من جهة وتمنع من التكفير للمسلم من جهة أخرى لاحظنا سريان هذه الحالة التي حجرت على العقل أي إبداع أو مخالفة، حتى إننا شاهدنا من يؤلف كتابًا، ويرى أن مخالفة حرف واحد فيه تؤدي إلى الكفر وهذا أمر غريب!
ومن هنا فالشيخ يدعو إلى التحول بالمسألة من (الإيمان والكفر) إلى مرحلة (الصواب والخطأ)، بشرط التحلي في ذلك بروح القرآن التي تدعو إلى الموضوعية، حتى في النقاش مع الكفار الحقيقيين، حينما يُخاطَب الرسول أن يقول لهم: ]وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ[ [سـبأ: 24].
القيمة الرابعة: عدم المؤاخذة بلوازم الرأي
يذكر الشيخ محمد التسخيري أن الإنسان يحاسب على رأيه ويناقش بكل دقة وأناة، إلا أننا اعتدنا على مناقشات تبتني على لوازم الآراء، وبالتالي يأتي التكفير والاتهام بالابتداع، في حين أن صاحب الرأي قد لا يقبل تلك الملازمة، وللتوضيح يقدم لنا مثالا على ذلك، نجد البعض ممن يؤمنون بمسألة التحسين والتقبيح العقليين يصفون من لا يقبلون بهما بأنهم يغلقون باب الإيمان بصدق النبي، استنادًا إلى أن ما يدفع احتمال كذب النبي الآتي بالمعجزة هو حكم العقل بقبح إجراء المعجزة على يد الكاذب عقلاً، فإذا فرضنا عدم وجود أي تقبيح عقلي فمعنى ذلك أننا أغلقنا باب الإيمان بالنبوة، وهكذا يقال بالنسبة لمسألة طاعة الله تعالى، فإن الملزم لنا بإطاعته تعالى هو العقل لا غيره. وعلى هذا الغرار نجد البعض الآخر يتهم القائلين بالتوسل أو الشفاعة أو القسم بغير الله بالشرك؛ لأنه لازم لهذا القول وهلم جرًّا.
إن المناقشة العلمية الهادئة أمر مطلوب، ولسنا مع إغلاق باب البحث الكلامي مطلقًا، بل المنطق يقتضي فتحه، ولكننا ندعو للمناقشة المنطقية، فلا ننسب للآخر ما لم يلتزم به، وما دام لا يؤمن بالملازمة بين رأيه والرأي الآخر، فإننا نلتمس له العذر، وبهذا نستطيع أن نغلق بابًا واسعًا من الاتهامات الممزِّقة.
القيمة الخامسة: التعامل باحترام عند الحوار
تحت هذه القيمة يذكر الشيخ التسخيري أن الحوار هو المنطق الإنساني السليم في نقل الفكر إلى الآخرين، وأن القرآن الكريم طرح نظرية رائعة للحوار المطلوب، تناولت مقدمات الحوار وظروفه وأهدافه ولغته بشكل لا مثيل له، وكان مما تناوله مسألة الاستماع للآراء وإتباع أحسنها، ومسألة عدم التجريح، حتى إن الآية الشريفة تقول: (قُلْ لا تُسْأَلونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ) [سـبأ:25]، في مجال توجيه حوار الرسول مع غير المؤمنين بالإسلام، وإبعاده عن مسألة إثارة حزازات الماضي والاتهامات المتبادلة فيه، والتوجه لمنطقية الحوار نفسه، وهي مع أن السياق اللفظي كان يتناسب معه،وعليه يتساءل الشيخ كيف بنا ونحن نتحاور كمسلمين متفقين على مبادئ تقربنا؟
القيمة السادسة: تجنب الإساءة لمقدسات الآخرين
يرى الشيخ التسخيري أنّه ينبغي التركيز في التقريب بين المذاهب على الحوار وعلى تجنب الإساءة لمقدسات الآخرين ، هذا الأخير حسب رأيه يخلق جوا عاطفيا معاكسا ، ويرد نصوصا يستدل بها على هذا مثل قوله تعالى: (وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [الأنعام:108]. بهذه الروح الإنسانية يوجه الله تعالى المؤمنين في تعاملهم بعد أن يوضح لهم وظائفهم الدعوية لا التحميلية، وفرض الرأي على الآخرين حتى لو كانوا مشركين: (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ) [الأنعام:107].
والنصوص الإسلامية في النهي عن السب واللعن معروفة، فإذا كان هذا هو الحال أن المفروض هو الحوار بين مسلمين أخوين يعملان لهدف واحدٍ، ويشعر كل منهما بآلام الآخر وآماله، فإن الموقف لا يتحمل مطلقًا احتمال الإهانة، وخصوصًا للأمور التي يؤمن الآخر بقدسيتها لارتباطها مع معتقداته الأصيلة.
القيمة السابعة: الحرية في اختيار المذهب
يعتبر الشيخ أن المذاهب نتيجة اجتهادات سمح بها الإسلام، علينا أن نعدها سبلا مطروحة للإيصال إلى مرضاة الله تعالى. وحين تختلف فإن من الطبيعي أن يدرس المسلم هذه المذاهب وينتخب الأفضل منها وفق معاييره التي يؤمن بها، والتي يشخص من خلالها أنه أبرأ ذمته أمام الله وأدَّى أمانته وعهده. وحينئذ فليس لأحد أن يلومه على اختياره حتى لو لم يرتح لهذا الاختيار. كما أنه لا معنى لإجبار أحد على اختيار مذهب ما؛ لأن ذلك مما يرتبط بالقناعات الإيمانية، وهي أمر لا يمكن الوصول إليه إلا بالدليل والبرهان.
وهنا يؤكد أن لكل مذهب الحق في توضيح آرائه ودعمها، دونما تعدٍّ على الآخرين أو تهويل أو تجريح، كما أنه لا يدعو إلى إغلاق باب البحث المنطقي السليم، وإنما نرفض محاولات الاستغلال السيئ، والاستضعاف، والجدال العقيم، وفرض الرأي، وأمثال ذلك.
وبعد فهذه القيم السبعة التي رأى فيها الشيخ محمد علي التسخيري أسسا وأصولا للحوار والتقريب بين المذاهب الإسلامية يمكن أن تُستثمر في الحوار والتقريب بين دوائر أخرى قد تكون أكبر من المذاهب الإسلامية مثل الحوار والتقريب بين أهل الأديان والملل والنحل المختلفة.
وقد تكون دوائر أصغر من المذاهب الإسلامية مثل الحوار بين فصائل الصحوة العاملة على الساحة الإسلامية، وبين الأحزاب السياسية، وبين التكتلات المدنية والاجتماعية والاقتصادية بغية الوصول إلى هدف واحد وتحقيق غاية واحدة يتحقق بها صلاح الدنيا والدين.
ثالثا: أسس التقريب بين المذاهب الإسلامية :
يكثف الشيخ التسخيري رؤيته لعملية التقريب بين المذاهب الإسلامية ، باعتبارها من مرتكزات وحدة الصف الإسلامي بتحديده لست أسس ،معتقدا أن الإيمان بمسألة التقريب يتأتى بكل منطقية إذا لاحظنا هذه الأسس ، التي يؤمن بـها كل المذاهب الإسلامية دون استثناء وهي ([10]) :
أولا: الإيمان بأصول الإسلام العقائدية الكبرى، وهي: التوحيد الإلهي (في الذات والصفات والفعل والعبادة)، وبالنبوة الخاتمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والقرآن الكريم الذي جاء به وما فيه، والمعاد يوم القيامة.
ثانيًا: الالتزام الكامل بكل ضروريات الإسلام وأركانه من: الصلاة والزكاة والصوم والحج، وغيرها.
ثالثًا: الالتزام الكامل بأن الكتاب الكريم والسنة النبوية الشريفة هما المصدران الأساسيان لمعرفة رأي الإسلام في شتى الأمور: المفاهيم عن الكون، والحياة، والإنسان: ماضيه وحاضره، ومستقبله في الحياتين. والأحكام والشريعة التي تنظم حياته وسلوكه الفردي والاجتماعي. أما الأصول والمصادر الأخرى كالعقل والقياس والإجماع وأمثالها، فهي لا تملك أي حجية إلا إذا استندت إلى ذلك المصدرين الكريمين، واستمدت مصدريتها منهما.
رابعًا: الالتزام بأن الإسلام سمح لعملية الاجتهاد باعتبارها عملية "بذل الوسع لاستنباط الحكم الشرعي من مصادره" أن تكون هي الموصلة لمعرفة الإسلام. كما أنها تلعب دورها في تأكيد مرونة الشريعة وقدرتها على استيعاب التطورات الحياتية طبقًا لمعايير وضوابط معينة، وهذا يعني -بالضرورة- إمكان إيجاد الصلة بين مختلف النتائج التي أدى إليها الاجتهاد وبين الإسلام حتى لو كانت مختلفة ومتضادة فيما بينها، وذلك لاختلاف الإفهام وزوايا النظر والقناعات (وهو ما يدرس في العلوم الإسلامية تحت عنوان: أسباب الخلاف).
كما يرى الشيخ التسخيري أن الإسلام إذ سمح بذلك فلأنه دين واقعي فطري، فلا طريق لمعرفة أية شريعة ممتدة على مدى العصور ينقطع وحيها ويموت معصومها إلا طريق الاجتهاد، رغم أن هذا الطريق يبتلى أحيانًا بالذاتية ويفرز آراء متخالفة قد لا يطابق بعضها واقع المراد الإسلامي في علم الله تعالى.
كما يجد الشيخ أن هذا الأسلوب المنطقي يعم استنباط كل الأمور كالعقائد، والمفاهيم، والأحكام، بل وحتى المواقف الإسلامية من بعض القوانين الطبيعية.
خامسًا: أن مبدأ (الوحدة الإسلامية) يعبر عن خصيصة مهمة من خصائص هذه الأمة المباركة، ومن دونها لا يمكن لها أن تدعي اكتمال هويتها.
وقد وضع الإسلام خطة متكاملة لتحقيق هذه الوحدة بانيًا لها على أساس الاعتصام بحبل الله المتين -وهو أي سبيل معصوم يوصل إلى الله- ومؤكدًا على وحدة الأصل والخلق ووحدة الهدف ووحدة الشريعة والمسير، داعيًا إياها للدخول المجموعي في إطار التسليم الكامل لله ونفي خطوات الشيطان، ومذكرًا بآثار الوحدة، وغارسًا الأخلاقية وعناصر التضحية بالمصالح الضيقة في سبيل الهدف العام، حاذفًا كل المعايير الممزقة كاللغة والقومية والوطن والعشيرة واللون، مركزًا على المعايير الإنسانية كالعلم والتقوى والجهاد، ومؤكدًا على لزوم تحري نقاط اللقاء، وداعيًا إلى استخدام المنطق السليم؛ منطق الحوار الهادئ الموضوعي.
سادسًا: مبدأ الأخوة الإسلامية:يأخذ الشيخ التسخيري مبدأ الأخوة الإسلامية على أنّه أهم جزء مشترك بين المذاهب الإسلامية، لأنه ينظم مجمل العلاقات الاجتماعية في الإسلام، كما يعتقد الشيخ أن آثاره لا تقتصر على الجوانب الأخلاقية فحسب، بل تتعداها إلى الجوانب التشريعية وتترك أثرها الكامل على عملية الاجتهاد نفسها، لكي لا نشهد في هذه الساحة أحكامًا تتناقص معه.
هذه الأسس الستة هي أهم ما يمكن أن تبتني عليها حركة التقريب بين المذاهب الإسلامية في فكر الشيخ محمد علي التسخيري ، فيكاد التصديق بالأسس كما يقول " يؤدي بشكل منطقي عفوي للإيمان بهذه الحركة"
وعليه فالشيخ التسخيري يعتقد أنّ عملية التقريب بين المذاهب الإسلامية، لا تقتصر على الجوانب الأخلاقية أو الجوانب الشعارية، ولا تتحدد بالجوانب التشريعية أيضا، بل يعبرها إلى مختلف الجوانب الفكرية والحضارية. و ينبغي أن تشترك فيه كل النخب المفكرة الفقهية والفكرية، بل يجب بشكل كامل وربما بشكل أولى أن تعبر النخبة إلى الجماهير، فيبدأ تثقيفها بثقافة التقريب. لأن الإسلام إن كان يسمح بالاختلاف الفكري غير المخرب والطبيعي فإنّه لا يسمح مطلقا بأدنى خلاف في الموقف العملي من القضايا المصيرية الداخلية والخارجية، ولذلك يعتبر الشيخ أنّ الراد على الحاكم الشرعي (وهو الجهة التي يفترض بها أن تكون الموحدة للموقف العملي للأمة) راداً على الله بعد أن اقترنت طاعته بطاعة الله ورسوله.
فالشيخ بذلك لا يـخفي حجم مسؤولية أولي الأمر في الدول الإسلامية والدور الذي يمكن أنّ تلعبه في إحياء تراث التقريب في الأمة الإسلامية وتحقيق التعايش الأخوي وتقويته بين المنتمين إلى المذاهب المختلفة ، بعد أن عبثت به نوازع الفرقة .
كما لايخفي دور العلماء والمفكرين ومايقع على عاتقهم في مسألة التقريب ، بجعلها من القواعد الفكرية والعلمية والأخلاقية التي يلتزمون بها في مجال كتاباتهم ، وتوضيح أهميتها، وتجديد قناعة الأمة بمسألة التقريب وترسيخ هذه القناعة، وتطوير وعي الأمة بهذه المسألة، وجعلها من قضاياها الرئيسة التي تدافع عنها.
فلئن كانت القيم والأسس ـ السابقة ـ التي يقدمها الشيخ التسخيري تؤدي بطبعها للتقريب بين المذاهب الإسلامية،فإنها بطبعها تعد عاملاً مهماً في تضييق رقعة الخلافات والحدّ من انتشار ظاهرة التعصب المفضية إلى التفرقة والفتن، وسبل من السبل المتينة للتخلص من ما يسمى الطائفية،وجسراً رصينا لترسيخ قيم الائتلاف من المحبة والأخوة والتسامح، وإتباع صراط الرشاد الهادي إلى تماسك الأمة وتدعيم عناصر وحدتها، وهو ما أكده المنهج الإلهي في قوله تعالى : ] وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصَّاكم به لعلكم تتقون [.
فهذه القيم والأسس ضرورة وركيزة أساسية من مرتكزات وحدة الأمة الإسلامية في أبعادها الحضارية والمذهبية الشاملة ، فلابدّ من الإسهام في إعداد جيل يحمل رسالة التقريب المذهبي وحبّه لوحدة أمّته واعتصامها ، وتدريبه على نشر هذه الثقافة وفق أسس إسلامية صحيحة وسليمة ، فهذه "الثقافة الذاتية هي إكسير الحياة للأمّة والمجدد الدائب لطاقاتها الأدبية والمادية"([11]) ثقافة ترفع هذا النزاع فيما بين الطوائف، هذا النزاع الذي لا معنى له ولا حقيقة فيه، وهو باطل ومضر في الوقت نفسه. وان لم نزل هذا النزاع فان الزندقة الحاكمة الآن حكماً قوياً تستغل أحدنا ضد الآخر وتستعمله أداة لإفناء الآخر، ومن بعد إفنائه تحطّم تلك الأداة أيضا.
فيلزمنا نبذ المسائل الجزئية التي تثير النزاع، لأننا أهل التوحيد بيننا مئات الروابط المقدسة الداعية إلى الأخوة والاتحاد بين أبناء الأمة، فالتقريب كما يقول الأستاذ زكي الميلاد ([12]).قد يعالج ظواهر التعصب والتطرف والكراهية والقطعية وعدم التسامح على مستوى النخبة من العلماء والمفكرين والمصلحين، لكن معالجتها على مستوى الأمة بكل شرائحها وفئاتها لا يمكن أن يتحقق إلا عبر نهضة فكرية تطور وعي الأمة بهذه القضية وطريقة التعامل معها.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] - يراجع : محمد مهدي نجف : مع المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية ، كتاب على موقع TAGHRIB.ORG
[2] - يراجع : الموسوعة الإسلامية العامة ، المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، القاهرة، مصر، 1422 ﻫ/2001م ، ص : 408.
[3] - الشيخ محمد علي التسخيري: التقريب أسسه وقيمه ودور العلماء فيه، مقال على موقع ISLAMONLINE.NET
[4] - الشيخ محمد علي التسخيري : www.taghrib.org
[5] - إستراتيجية التقريب بين المذاهب الإسلامية ، معتمد من : المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة (مؤتمر القمة الإسلامية العاشر ، ماليزيا ، 2003 ، ص : 5.
[6] - الشيخ أحمد كفتارو : آثار التقريب بين المذاهب على المجتمع والثقافة والاقتصاد والسياسة ، مقال بموقع www.kaftarou.co
[7] - الشيخ أحمد كفتارو : المرجع نفسه.
[8] - الشيخ أبو زهرة : الإمام مالك بن أنس ، دار الفكر ، بيروت ، لبنان ، 1985م ، ص : 14.
[9] - الشيخ محمد علي التسخيري : التقريب أسسه وقيمه ودور العلماء فيه ، مقال على موقع ISLAMONLINE.NET
[10] - الشيخ محمد علي التسخيري : التقريب بين المذاهب الإسلامية ، المرجع السابق.
[11] - الشيخ محمد الغزالي : علل وأدوية ، دار الشهاب ، ط 2 ، باتنة ، الجزائر، 1986 ، ص : 168.
[12] - زكي الميلاد: التقريب بين المذاهب الإسلامية رسالة العقلاء في الأمة، مجلة الكلمة بيروت، الكلمة، السنة الثامنة، العدد 32، صيف 2001، ص: 26..